لا يجوز تحميل الاتفاق السعودي الإيراني أكثر مما يحتمل، وصولاً إلى تصويره بأنه ترجمة للتسوية الكبرى المرتجاة. فهذه التسوية لم يحن أوانها بعد وعندما يحين لا يستقيم ان تكون برعاية صينية فقط. كما لا يجوز تصوير الاتفاق بأنه بمثابة نقلة “كش ملك” صينية لأميركا من المنطقة. فلا أميركا بوارد الخروج ولا الصين بإمكانها “الإخراج”.
يمكن القول ان الاتفاق هو صناعة سعودية ـ إيرانية، تم إنضاجه على نار حامية في لحظة تقاطع معطيات ومتغيرات متشابكة، أو كما يقال في لحظة “اصطفاف الكواكب”. وكما أن غياب أحد المعطيات أو “الكواكب” كان سيمنع حصول الاتفاق، فإن غيابه مستقبلاً سيؤدي إلى نسفه او تعطيله. والكواكب الرئيسية هي: السعودية، إيران، أميركا والصين، أما روسيا العالقة في خنادق باخموت فباتت “كويكب” تائه بانتظار الالتحاق بالفلك الصيني أو الأميركي. ولنلاحظ هنا ان الاتفاق لم يكن مفاجئاً لأحد في الكواكب الأربعة، لا للرئيس الأميركي جون بايدن كما أوحى المتحدث بإسم البيت الأبيض، ولا حتى لأمين عام حزب الله حسن نصر الله كما أوحى وصرح بعض المحللين – تهكماً أو تجنياً – بأن “الإيرانيين لم يخبروه”.
الكوكب الأميركي
يرجح أن تكون أميركا قد مارست “قبة باط” لتمرير الاتفاق لأنه يخدم مصالحها الآنية في تخفيف التوترات وتوفير فسحة من الوقت لإنضاج التسوية الكبرى أو المواجهة الأكبر المستبعدة على أي حال. ويشكل الاتفاق “سلم” لنزول كافة الأطراف عن “شجرة التصعيد”، وفي مقدمتهم إسرائيل بقيادة نتانياهو، التي تضغط بكل قواها لتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران وسعيها غير الموفق لإشراك السعودية من خلال تحالف إقليمي دولي. وبهذا المعنى فإن نتانياهو يعتبر الخاسر الأكبر وربما الوحيد، هذا إذا لم يتحول إلى “البيدق” الذي تتمنى أميركا التضحية به كرد على “النقلة” الصينية التي يتوهم البعض بأنها “كش ملك”.
يضاف إلى ذلك ان الاتفاق برعاية الصين، يؤدي عملياً إلى إزاحة جزء كبير من مسؤولية حماية أمن إمدادات النفط من الخليج العربي، عن كاهل أميركا وتحميلها إلى الصين باعتبارها المستفيد الأول من هذا النفط. ويأتي ذلك في سياق الاستراتيجية الأميركية لتجنب التدخل العسكري في الصراعات الدولية أولا. وثانياً لتحميل الصين الساعية إلى المشاركة في النظام العالمي كقطب ثان، الغنم والغرم من هذه المشاركة. وذلك بدفعها إلى الانغماس في الصراعات السياسية بدلاً من الغنم فقط بالاكتفاء بممارسة الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية.
الكوكب السعودي
يصح اعتبار السعودية هي المنتصر الأكبر في الاتفاق لسببين: الأول لأنه يسهم في نزع “الخنجر اليمني” من خاصرتها. بعد أن تحولت الأزمة اليمنية إلى حرب استنزاف وابتزاز من قبل الأعداء والحلفاء والأصدقاء، وفي مقدمتهم أميركا التي تغض الطرف عن تهريب أو الأصح تصدير الأسلحة للحوثيين. والسبب الثاني المرتبط عضوياً بالأول، هو التغيير الجذري في السياسة الخارجية الأميركية وتنصلها نهائيا من عقيدة كارتر (Carter Doctrine) التي التزمت بموجبها منذ يناير 1980 باستخدام القوة العسكرية للدفاع عن منطقة الخليج العربي وضمان إمدادات النفط منها. وتجلى هذا التنصل بإدارة الظهر للسعودية ولبقية دول المنطقة منذ أيام أوباما. وبلغ ذروته بالوقوف على الحياد حين تم الاعتداء بالمسيرات والصواريخ على منشآت أرامكو وتعطيل تصدير نحو 40 في المئة من النفط السعودي، وما تلاه من سحب لصواريخ الباتريوت. يضاف إلى ذلك طبعاً، حاجة المملكة إلى الاستقرار لضمان سلاسة عملية التحول الجذرية الحاصلة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً والتي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وكذلك لضمان تنفيذ رؤية 2030، والمشاريع العملاقة التي تتضمنها بتكلفة مئات مليارات الدولارت، والتي يمكن تعطليها بمسيرات مفخخة لا تتجاوز تكلفتها 50 ألف دولار. ولذلك فإن السعودية باتت تعتمد سياسة تغليب مصالحها الوطنية في مقاربتها للملفات السياسية والاقتصادية الإقليمية والدولية ورفض الطلب الأميركي لزيادة انتاج النفط خير دليل.
الكوكب الإيراني
بالنسبة لإيران، فالاتفاق هو بمثابة وقت مستقطع لالتقاط الأنفاس في ظل الاختناق الاقتصادي الناجم عن الحصار والعقوبات، وفي ظل التوترات السياسية الداخلية سواء المتعلقة بالصراع على الخلافة أو المتعلقة بالتظاهرات والتحركات الشعبية التي بدأت نسائية وتتحول تدريجياً إلى مناطقية وعرقية. وقد يشكل الاتفاق “جرعة أوكسجين” إذا نجحت إيران بمساعدة الصين والسعودية وموافقة مستترة من أميركا بتوسيع الخروقات في جدار العقوبات، على الأقل لتصدير جزء من النفط بأسعار السوق بدلاً من تهريبه إلى الصين والهند بنصف السعر تقريباً. أو إذا نجحت بالحصول على بعض الأموال المجمدة. ويتضح استعجال إيران للحصول على هذه الأموال من توقيت التسريب المسرحي عبر قناة سي. ان. أن، لمناشدة المواطن الأميركي المسجون في إيران، الرئيس بايدن “لشراء” حريته.
الكوكب الصيني
مع التسليم بأن الاتفاق يعتبر نصراً للدبلوماسية الصينية، وتأكيداً على التغيير الحاصل في السياسة الخارجية للانخراط في الشوؤن السياسية الدولية وعدم الاكتفاء بالتجارة والاستثمار. لكن المؤكد حتى الآن، انها لا تريد الاشتباك مع أميركا وتخطي الخطوط الحمراء في مقارعتها في عقر دارها. فهي كما يقال دائما تريد مشاركة أميركا في إدارة العالم وليس الجلوس مكانها. وجل ما تسعى الصين لتحقيقه من رعاية الاتفاق هو تعزيز وجودها في المنطقة بما يضمن استمرار تدفق النفط الخليجي والإيراني إليها وتوسيع علاقاتها الاقتصادية والاستثمارية خاصة تلك المتعلقة بالاتفاقيات الموقعة مع إيران والسعودية. فالمنطقة توفر كما هو معروف نحو نصف واردات الصين من النفط. ففي العام 2020 استوردت ما قيمته 176 مليار دولار من النفط الخام من المنطقة، معظمها من السعودية. وفي العام 2022 زادت وارداتها النفطية من السعودية بنحو 8 في المئة لتصل إلى 1.75 مليون برميل يوميا. أما بالنسبة لإيران، فهي لا تعلن عن حجم صادراتها، ولكن Vortexa المتخصصة في تتبع السفن قدرته بحوالي 1.2 مليون ب/ي في العام 2022، بزيادة 130 في المئةعن العام السابق. ولتبقى الجائزة الكبرى في هذا المجال، موافقة السعودية على طلب الرئيس شي جين بينغ بتسديد ثمن النفط باليوان بدلاً من الدولار.
إلى أين
الخلاصة ان الاتفاق، وبدون تحميله ما لا يحتمل، قد يرسخ معادلة جديدة في الجغرافية السياسية، قوامها أن الدول الإقليمية باتت أكثر ثقة وقدرة على انتهاج سياسات مستقلة تستند إلى مصالحها الوطنية، وأنه لن يكون هناك رابح من أي صراع ومواجهة عسكرية وأمنية بينها. وهو قد يشكل بالتالي في حال استمرار “اصطفاف الكواكب” والنجاح في صيانته وتحصينه محاولة جدية لرسم مسار جديد للعلاقات بين دول المنطقة ولحل بؤر الصراع من اليمن إلى العراق وسوريا وصولاً إلى لبنان. ولن يكون مستغرباً، حين تقرر أميركا انجاز التسوية الكبرى، بعد انتهاء الحرب الأوكرانية، ان تنجح السعودية وبقية الدول العربية في فرض حل الدولتين في فلسطين المحتلة ما يمهد الطريق للتطبيع السعودي مع إسرائل، ويمهد الطريق أيضاً أمام ايران وحزب الله للانخراط في التسوية على قاعدة “القبول بما يقبل به أهل القضية”.
12 آذار 2023 / موقع: طاقة الشرق https://taqamena.com/
Leave a Comment