بول طبر
يتناول هذا المقال الطائفية في لبنان كـ “رأسمال سياسي-إجتماعي”. أما الهدف من ذلك فهو أن نكشف أن “الطائفية” ليست ظاهرة مكتملة المعالم لمرة واحدة وأخيرة (إشارة إلى تعريفها بالظاهرة الأوَّلانية التي نولد ونموت معها)، من حيث التعريف والديمومة والحدود الفاصلة بين الطائفة المعنية وغيرها، وتعيين العلاقة بين “ممثلي” الطائفة وأبنائها. جميع هذه المسائل هي دوماً موضع نزاع يصب في النهاية في إطار “رسْملة” الطائفية، أي تحويلها لرأسمال أو مورد يكون مصدراً للنفوذ والسيطرة السياسية والإجتماعية وفق “كمية” الموارد المسْتحوذ عليها.إذاً أن نعْتبر أن الطائفية السياسية (المقال يركز على هذا الجانب من الطائفية) كناية عن رأسمال يمكِّن من تحديد المكانة والنفوذ السياسي للفرد (أو القوى) الذي يمتلكهما، هي خطوة أولى على طريق فهم وتحليل هذه الظاهرة. فبقدر ما تستطيع أن تقدم نفسك وتقنع أبناء الطائفة بأنك خير من يمثِّلهم، ويحقِّق مصالحهم السياسية، بالقدر نفسه تكتسب الوكالة “بجدارة” لتمثيل وقيادة الطائفة سياسياً والدفاع عن “مصالحها”.
يقودنا هذا الأمر لفهم أفضل لمسألة الصراع والتنافس على “زعامة” الطائفة بعيداً عن تشييع الوهم الذي يروِّج بأن الطائفة هي في الأساس متضامنة وموحدة، ولا يشوبها أي انقسام داخلي. إن الخيارات والمصالح المختلفة والمتناقضة التي يرفعها زعماء الطائفة تؤدي إلى نزاعات “باردة”، وأحياناً “ساخنة” فيما بينهم، وتدفعنا أيضاً للإقرار بـ “عارضية” تلك الخيارات والمصالح على عكس الطابع الثابت والجوهري التي يُروَّج له في الكتابات العديدة عن الطائفة وهويتها. وإذا قمنا بجردة سريعة للطوائف في لبنان نجد أن داخل كل واحدة منها، يوجد تنافس بين تيارين على الأقل. يسعى كل واحد منهما أن يصبغ طائفته بخصائص لا تتطابق في أغلب الأحيان مع الطرف الثاني والمنافس له، وقد تتعارض لدرجة الإنزلاق إلى التقاتل بين الطرفين لإثبات وجود وزعامة أحد التيارين على حساب التيار الآخر. على سبيل المثال، نجد التنافس والنزاع المفتوح ضمن الطائفة المارونية بين ما يطلق عليهم “السياديين”، كحزب القوات اللبنانية وحزب الكتائب، وبين “الممانعين” المنتمين إلى التيار الوطني الحر. وهناك أيضاّ الثنائي الشيعي المكوَّن من حزب الله وحركة أمل والتنافس المضبوط راهناً بينهما حول زعامة الطائفة الشيعية ، وتحديد خصائصها، إما من مدخل ديني فقهي بنسخة لبنانية، وإما من مدخل طائفي هوياتي تماشياً مع النموذج الكلاسيكي للمارونية السياسية. ويدخل النزاع بين الحزب الديموقراطي اللبناني برئاسة الزعيم طلال إرسلان، والحزب الإشتراكي اللبناني بزعامة وليد جنبلاط، في السياق نفسه للنزاعات داخل الطائفة على قيادتها سياسياً.
والتنافس على هوية الطائفة سياسياً واجتماعياً لا ينحصر ضمن الطائفة الواحدة، بل يتعداه ليطال الموقف من “الآخر” الطائفي. وبذلك يكون الموقف من “الآخر” هو جزء من تكْوين هوية “الأنا”، وقد يكون هذا “الآخر” حليفاً في داخل لبنان لا يتم التخلي عنه بسهولة، أو حليفاً داخلياً بالمعنى “التكتيكي”، أو عدواً داخلياً يرمز إلى الصورة المعكوسة لـ”أنا” الطائفة المعنية. وقد تمْتَد سلْسلة “الآخر” إلى الخارج لتشمل دولاَ إقليمية، وصولاً إلى دول وأقطاب عالمية.
هكذا يتبين لنا أن النزاعات داخل الطائفة، وما بين الطوائف، تجعل من خصائص تعريف الهوية الطائفية مسألة “عارضية” ومتحولة بالمعنيين القريب والبعيد (أي التاريخي) للكلمة. ويترتب على هذه النزاعات إنتاج ما أسميته بـ “الرأسمال الطائفي” الذي يتحدد بموجبه وبموجب التوزيع المتفاوت له علاقات السيطرة والتحكم ضمن الطائفة الواحدة، وفيما بين الطوائف المتنافسة على موارد الدولة والغنيمة.
ليس المقصود من هذا التحليل الإقفال على العمل السياسي والقوى المتحكمة به ضمن الخيارات والهويات الطائفية. ذلك أن المشاكل والأزمات التي تستولدها الأطر الطائفية للعمل السياسي في الأساس، والإنسدادات التي يواجهها أبناء وبنات كل طائفة من داخل هذه الأطر، قد دفعت تاريخياً ولا تزال فئات واسعة منهم لاستيلاد أطر غير طائفية ذات طابع مدني للإنتظام السياسي، والتعبير عن مصالحها وتطلعاتها السياسية. وما انتفاضة 17 تشرين عام 2019، وما أفرزته من مجموعات وحركات ومطالب سياسية تميَّزت أساساً بالدعوة لبناء دولة المواطنة العابرة للإنقسامات الأهلية، وعلى رأسها الإنقسام الطائفي، دولة القانون والمؤسسات والعدالة الإجتماعية ومحاربة الفساد، وما تلا الإنتفاضة من تداعيات لا سيما على صعيد إنتاج خطاب سياسي وثقافي غير طائفي، ما هو إلا دليل قاطع ليس فقط على عارضية الطائفية، وإنما أيضاً على إمكانية إفتتاح مسار تفكيكها بالكامل.
أخيراً، مع التأكيد المنهجي على ضرورة فهم وتحليل الطائفية السياسية من ضمن حقلها الخاص والعلاقات والنزاعات المكونة لها، لا ينبغي أن نغفل أن دائرة السيطرة المنبثقة عن هذا الحقل قد تطال موارد إقتصادية (الغنيمة)، عائدة إلى النشاط الإقتصادي والعلاقات الخاصة به. ويشكل النفوذ السياسي للطائفية وتأثيرها على إنتاج وتوزيع “الرأسمال الإقتصادي” (مشاركة في الإستثمارات والأرباح والصفقات على أنواعها، إلخ) سنداً مهماً لدعم وديمومة “الرأسمال السياسي الطائفي”، إلى جانب الفوائد المترتبة على امتلاك هذا الأخير (السيطرة على أجهزة الدولة وتقاسم النفوذ والسيطرة المترتبة على ذلك، كما السيطرة على موارد وخدمات الدولة وتقاسمها). كذلك فإن الخروج على الإنتماء السياسي الطائفي وافتتاح مسارات تصب في الإنتظام السياسي الذي يستند إلى المواطنة وتطبيق القانون والعدالة الإجتماعية، يجد ما يسنده ويعززه من فئات إجتماعية ومصالح قد تتشكل بدوافع إقتصادية وثقافية، لا تخضع للمنطق الطائفي ونفوذه (إتحادات العمال والمستخدمين، الثقافة الحداثية لفئات واسعة من الشباب والشابات، كتابات وأبحاث المثقفين التنويرين).
Leave a Comment