صقر أبو فخر*
كثيرًا ما كان يحلو للصديق صبحي طه في غابر الأيام أن يروي لنا أُملوحة فلسطينية عن أحد كهول مدينة الخليل الذي وصل من سفرٍ إلى محطة الباصات، وراح يفتش عمن يساعده في حمل حقائبه إلى مكان قريب، فعثر على صبي قام بالمهمة على أفضل وجه. وحين نفحه المكافأة احتج الصبي على ضآلة المبلغ، وطلب ديناراً كاملاً، الأمر الذي اعتبره الكهل الخليلي غالياً، ولا يتلاءم مع الجهد المبذول. فما كان من الصبي إلا أن طفق يردد: يا أخي، لقد حملتُ معك الشنطة والمنطة، ورفعتُ أمتعتك كلها شيلة بيلة، ولم أوفر شندي بندي، أو أي حاجة ومحتاجة، وتريد أن تمنحني ربع دينار فقط؟ أي أنه ضاعف الخدمة الواحدة مرات عدة، وبألفاظ مختلفة. آنذاك لم يكن الصديق صبحي طه (شقيق الشهيد علي طه، والمناضلة عبلة طه، وزوجته المناضلة رشيدة عبيدو، وعم الممثلة الفلسطينية المرموقة رائدة طه) يعرف، ولا أنا أعرف، أن هذا الأسلوب اللغوي يُدعى “الإتباع”، أي إتباع كلمة معينة بكلمة من وزنها وصوتها من دون أن يكون لها أي معنى غير مدّ الكلام، أو الصوت، أو النغمة. وعبارة “شيلة بيلة” على سبيل المثال، تعني أن فلانًا اشترى البضاعة بلا وزن كما هي (ربما كانت مشتقة من فعل شال الذي يعني رَفَعَ أو حَمَلَ). أما “بيلة” فلا معنى لها، مع أن هنالك من أعاد العبارة إلى أصل تركي هو “شويلة بويلة”. وعبارة “شندي بندي” أصلها تركي بالفعل “شونده بونده”، أي هذا وذاك. لكن عندما جرت في مجرى اللسان العربي صارت بلا معنى، مع أنها تحمل دلالة ما.
ثمة، في عالم الإتباع، غرائب وعجائب من التفسيرات والشروح التي تعجّ بها القواميس والمعاجم وكتب اللغة. ويستطيع أي شخص أن يتجوّل في قواميس مثل معجم فصيح العامة (أحمد أبو سعد)، وقاموس ردّ العامي إلى الفصيح (الشيخ أحمد رضا)، والمنجد في اللغة والأَعلام (الأب لويس المعلوف)، فيجد كثيرًا من الألفاظ العربية التي تُوافقُ صوتيًا ألفاظ الإتباع، فيجعلها أصلًا لغويًا، وهذا تمحّل لا جدوى منه.
“عبارة “شندي بندي” أصلها تركي بالفعل “شونده بونده”، أي هذا وذاك. لكن عندما جرت في مجرى اللسان العربي صارت بلا معنى، مع أنها تحمل دلالة ما”
وعلى المنوال نفسه عبارة “سِرّي مِرّي”، التي تقال لمن يروح ويجيء حائراً محتاراً. هنا يستطيع المتمحل أن يشرح أن “سِرّي” من السير، و”مِرّي” من المرور، وهذا التفسير ضعيف جدًا ومتكلف. وفي لبنان تعاتبُ المرأة جارتها التي أعرضت عن زيارتها بقولها: “شو عَدا ما بدا؟”، أي ماذا جرى ليظهر هذا الأمر منكِ؟ (غنّت حياة الغصيني أغنية يقول مطلعها: “شو عدا ما بدا تصِرنا عِدا”). وربما كان أصل العبارة: “شو حدا مما بدا”، أي ما الذي حدا بك كي يظهر منك ما ظهر، وقد حُرّفت حدا إلى عَدا.
إن التنزه بين أبواب القواميس والمعاجم وفصولها يزودنا بفيض هائل من الكلمات التي تتباعد في المعنى وتتقارب في اللفظ (المشتَرَك وقعاً والمفتَرَق صقعًا). غير أن مطابقة بعضها على بعض يُعد في منزلة التكلّف الشديد والتمحّل غير السديد، لأن معظم مفردات الإتباع لا تتوافق دلالات لفظها مع معانيها المنثورة في المعاجم. وهذا الاختلاف يجعل محاولة استخلاص معايير أو قواعد لغوية شأنًا يقارب السخرية. ولهذا يجوز أن نستنتج أن الإتباع إنما هو مجرد إكمال كلمة بكلمة من وزنها وصوتها بصرف النظر عن معناها. وهذه المقالة التي نحن في صددها الآن ليست بحثًا في اللغة، أو حتى في قاعدة الاتباع المعروفة، بل هي التفاتة إلى طرائق الإتباع كما تنطقها العامة في كل يوم.
لا معنى لها ولها معنى
الشُرُم بُرُم: الشُرُم بضم الشين والراء لا معنى لها. هنالك الشَرْم بمعنى لجة البحر، والشُرْم أي مشقوق أرنبة الأنف. والبُرُم هم القوم سيّئوا الأخلاق. وربما كان أصل العبارة “الشرّ المبرمُ”، وهو متكلف.
الشَكَر بَكَر: لا معنى لهذه العبارة التي تشير إلى الحذق والفهلوة والاحتيال. فيقال “لاعَبَه بالشَكر بَكر”. والبكرة آلة لرفع الأثقال، فيما الشَكَر بالعامية تعني الخنثى، أي لا أنثى ولا ذكر. ولعل الأصل يطاوع عبارة “جاء بالشُقر والبُقر”، أي بالكذب.
“التنزه بين أبواب القواميس والمعاجم وفصولها يزودنا بفيض هائل من الكلمات التي تتباعد في المعنى وتتقارب في اللفظ (المشتَرَك وقعًا والمفتَرَق صقعاً)”
خَصْ نَصْ: يقال: “القهوة خَص والشاي نَص”، أي القهوة تُقدّم لشخص مخصوص أولاً. أما الشاي فيقدم من دون تخصيص بالترتيب المتتابع من اليمين.
طشْ فَشْ: يقول المثل: “طِش فِش بطانة بلا وِش” (أي بلا وجه). والطش هو أول المطر، والفَش مثل فشة الخلُق، أو فَشّ الورم. وطِشْ فِشْ لا معنى لها، لكنها توحي بعدم الأهمية.
سُختم بُختم: أي صم بُكم مثل صُلدم بُلدم أي ساكت. وهاتان العبارتان شائعتان في مصر، لا في بلاد الشام، إلا في نطاق محدود.
قَفرا نَفرا: القفرة من القفر. أما النفرا فهي بلا معنى ملائم. لكن، يمكن تطويع الكلمة لتصبح بمعنى “قفراء ينفر الناس منها”.
من الفجر إلى النَجْر: تقال لمن يعمل من الصبح إلى الليل. والفجر مفهوم، لكن ما هو النَجر هنا؟ وقد حاول الأديب سلام الراسي إيجاد معنى ملائم لها، فما وجد غير معنى “إغلاق الباب”، وتعسّفَ بالقول إن النجر هو القفل الخشبي الذي كان النجارون يصنعونه. والمعنى هو أن ذاك الشخص يعمل من الفجر حتى إغلاق الباب بالقفل الخشبي.
شَخْتَك بختك: أي “أنتَ وحظك”. والبخت مفهوم. أما الشخت فهي كلمة إتباع، لكنها جاءت هذه المرة في بداية العبارة، مع أن معناها القاموسي هو الضمور. والشخت في دمشق هو بقايا اللحم عادم القيمة التي يرميها اللحامون.
خَنْطَقْ مَنْطَقْ: يقال إن فلانًا يشبه فلانًا “خنطق منطق”، أي مثله في الخلق والنطق.
تِشْ مَشْ: العبارة هي: “قَلّو تِش جاوبوا مَش”، أي توافقا وترافقا. والتِش هو النزهة بلغة التخاطب مع الأطفال، والمش هو المشي. وشاعت حكاية عن الملك عبد الله بن الحسين، والشاعر مصطفى وهبي التل (عرار)، تقول إن عراراً دخل على مجلس الملك عبد الله الذي كان يُحيط نفسه دائمًا ببعض الشعراء والأدباء والسُمّار، فبادره الملك بالقول: “وَش”، فأجابه عرار فورًا “وَلْ”. ولم يفهم الحاضرون تلك الإشارات الملغّزة. وفي ما بعد شرح لهم عرار معنى ذلك على النحو التالي: خاطبني الأمير بعبارة “وَش”، وكان يقصد آية “والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون”، فأجبته بعبارة “وَلْ”، أي “والملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها”، وهذه من المرويات التي من المحال معرفة صحتها ودقتها.
شذر مذر
ما أوردناه أعلاه إنما هو بعض أمثلة من العبارات التي من الممكن العثور على ما يوازنها في القواميس والمعاجم، حتى لو اختلفت معانيها ودلالاتها. لكن، في جانب آخر، تعج اللغة العامية الشامية ولهجات التخاطب اليومي بأمثلة تُعد ولا تحصى عن الإتباع اللغوي، ومنها على سبيل المثال ما يلي:
كِج مِج (عناق وقُبل)، حِزِّك مِزِّك (يروح ويجيء)، طِز مِز مثل قوس الندافة (أي مثل صوت آلة ندف الصوف)، شِطّي مِطّي (وهو نوع من الحلويات الحلبية للصغار يتمغظ قبل أن يزدرده الأطفال)، بلّاعة شلّاعة (البلاعة هي البالوعة، وشلّاعة لا معنى لها هنا غير الإتباع)، حِيْص بِيْص (الحيص الحيرة والبيص بلا معنى)، ويلي وطْبيلي (ويلي من الويل، أما طْبيلي فلا معنى لها)، أعمص وبيتحملص (لا معنى لكلمة يتحملص)، شَرَوي غَرَوي (كلام غير مترابط وغير مقنع)، خُربُش بُربُش (الخربشة هي الخط الفاسد، والبُربش إتباع)، حادي بادي (تقال للأطفال الصغار، وتغني لهم الأم: يا حادي يا بادي يا كسّار الزبادي)، الهَرْج والمرْج (المرج هنا لا علاقة له بالهرج إلا من باب النغمة. فالهرج هو الفتنة أو الاختلاط المصحوب بالأصوات ومنه المهرّج)، حَكَرة بَكَرة (ويلفظ بعضهم العبارة هكذا: حَدَرَة بَدَرة، وتغني الأم لطفلها: حكرة بكرة قلّي ربي عِدّ العَشَرة)، شَنْخَر فَنْخَر (الشنخرة هي دفع الهواء من الأنف، أي النخير، والفنخرة مثل الشنخرة)، شيح بريح (المقصود هو أننا خرجنا لا لنا ولا علينا)، شَرْد مَرْد (يقال: خرج من بينهم شَرد مَرْد، أي تمكن من التخلص من خصومه بذكاء).
للاستزادة، نورد في ما يلي مجموعة من العبارات التي نشأت على قواعد الإتباع العامية.
ومعاني هذه العبارات كامنة في دلالتها وموسيقاها وطنينها لا في القواميس. وعلى سبيل المثال: شِنكر بِنكر، حُندُق بُندق، خالص مالص، حِنجِل مِنجِل، خوش بوش، كاني وماني، لا حِس ولا نِس (أي لا صوت ولا أنسي)، لا شِي ولا شِيّانة (شِيّانة مجرد تأنيت للشيء)، الخُر بُر (آلة لثقب الخشب، أو المعدن)، زلط ملط، حلالي بلالي (غنت المطربة السورية الكبيرة حنان: “يا حبيبي حلالي بَلالي ومن الشباك لرميلك حالي”).
كلمات إشارات
في لبنان، يسأل الواحد صاحبه بالقول: شو في ما في؟ وإذا أراد أن يقارن فلانًا بفلان أحسن منه يقول: شو جاب لجاب (أي شتّان بين هذا وذلك)، أو يردد عبارة ياما وياما وهو يقصد أنه كثيراً ما نبّه إلى هذا الأمر. وإذا أراد أن يعبّر عن ريبته يقول: المسألة فيها وما فيها. وإذا رغب في الإشارة إلى أن فلانًا يخفي مقاصده يقول عنه: من تحت لتحت، وجميعها عبارات لا معنى لها ولا مبنى إلا دلالتها الصوتية. وعلى هذا المنوال غنّت فيروز: “تعا ولا تجي”، أي تعالَ ولا تأتي (ناقض ومنقوض).
مهما يكن الأمر، ومهما تكن بعض اللهجات الريفية رديئة، وبعض اللهجات المدينية غليظة، فإن محاولات ردّ العبارات الاتباعية العامية إلى أصول فصيحة عبث لا معنى له، ولا جدوى غير التسلي. أما الجدوى الحقيقية لهذه العبارات فهي كامنة في دلالاتها ورشاقتها وتأديتها المعاني الملائمة بألفاظ لا تحفل بالمعاجم والقواميس.
*نشرت في العربي الجديد في 2 تشرين أول 2022 ، وقد أضيف إلى العنوان عبارة ” في الأمثال ” كي يصبح أكثر دلالة ( المحرر) .
Leave a Comment