مع اقتراب انتخابات رئاسيّة ربما تشكّل الحدث – المفاجأة عربيّاً، يلوح في أفق الجزائر فصل جديد نوعيّاً في علاقاتها المعقّدة مع الإسلاموية المعاصرة. هل أخطأت الكلمات السابقة ما أرادت التعبير عنه؟ الأرجح أن نعم! إذ يجدر القول مثلاً أنّ الجزائر تقدّم أساساً نموذجاً عن دولة الحداثة العربيّة التي لم تتوقف عن التخبّط في فشل مستمر: لا صنعت دولاً ولا كانت حداثة! ويعطي الرئيس المشلول وشبه الغائب عن الوعي باستمرار نموذجاً مكثفاً عن تلك الحداثة الفاشلة (“الربيع العربي” كشفها كليّاً)، بل يصلح تشبيهاً مباشراً لها. إنه عبد العزيز بوتفليقة: المناضل السابق في “جبهة التحرير الجزائرية” التي كانت جزءاً من المرحلة القومية في الحداثة العربيّة، خصوصاً الناصرية منها. المفارقة أنه في ثنايا تلك الجبهة، كان هناك “التباس” إسلامي أيضاً، جرر نفسه “بخفاء” ولفترات طويلة قبل أن يتحوّل الخفاء إلى حرب أهلية دمويّة استمرت عشر سنوات في تسعينات القرن العشرين. في “جبهة التحرير…”، التبست الرغبة في التحرّر الوطني والقومي من المحتل الأجنبي، مع نزعة إسلاموية كانت ترى في الاحتلال صراع هويّات دينية، وليس مساراً سياسيّاً وطنيّاً وقوميّاً، وأحياناً مزيجاً من تلك الأمور كلها.
بديهي القول أن فكرة الحداثة الأساسيّة تتمثّل في الانتقال من الديني في العلاقة بين البشر (مع بقائه علاقة بإرادة حرّة مع السماء)، إلى نسج تلك العلاقات على أساس العقل الإنساني ومعطياته. وتكرّس ذلك في عصري النهضة والتنوير، وفي السياسة والمجتمع، وجد ذلك الامر تعبيره في دولة “معاهدة وستفاليا” (1648) الذي أنهى حروباً دينية طويلة في أوروبا، ومهد لانتقال خطوط السياسة والثقافة الى الوطنية والقومية غرباً. ومع الخيط الاستعماري في الحداثة الغربيّة، شرع الغرب في نشر دولة الحداثة الوستفالية عالمياً، بالتصادم مع معطيات شتى من بينها مفهوم الحداثة الغربيّة نفسها عن الحرية والشعوب والدول!
بوتفليقة “أيقونة” شلل الحداثة
في تلك المشهديّة المتناقضة، ظهرت الحداثة العربيّة ودُوَلَها، وحملت كل التناقضات الممكنة لكن من دون وعي كافٍ لها. واقتبست فكرة القومية من قلب تجربة الحداثة الغربيّة (كما فعلت مع أفكار كبرى اخرى كالاشتراكية)، وخاضت مسألة التحرر الوطني تحت ذلك الأفق. لا يتسع المجال لنقاش تلك الأبعاد الضخمة، لكن يمكن العودة إلى الجزائر، التي تشابكت قصتها مع الحداثة أكثر بإدّعاء فرنسا أن الجزائر هي جزء منها، ما نقل الاحتلال إلى إلغاء كامل للشعب الجزائري وكينونته ووعيه ووجوده. وارتفعت حدّة التناقض مع الحداثة الغربيّة بالنسبة للحداثة العربيّة في الجزائر، إذ توجّب دوماً الأخذ بمشروع الحداثة والعقلانية من جهة، والصدام الوجودي الجذري معه من الناحية الثانية، إضافة إلى الخروج من عباءة الدين السياسي عبر ترك الدولة الدينية. ويضاف إلى ذلك معطى التخلف والتفاوت في التطوّر بين الغرب والدول العالمثالثية، وكذلك قصور الحداثة العربيّة عن صوغ مشروع فكري أساسي متجذر في الثقافة العميقة لشعوبها، ولا حتى غرس مشروع العقلانية الغربيّة الكبير في عمق تربة ثقافاتها.
في ذلك السياق، تكون الجزائر تعبيراً مكثفاً عن تناقضات عميقة في الحداثة الغربيّة، وفشل الحداثة العربية فيها وهو جرجر نفسه منذ استقلال الجزائر، إضافة التى تخبطها في التخلف والقمع اللذان فاقما إحباط مشروع الدولة الحديثة فيها (= الدولة المحايدة دينياً، والمستندة إلى المواطنية والحقوقية وفصل السلطات)، وصولاً إلى تخشّبها وتحوّلها شللاً يعيق وجودها في التاريخ المعاصر! ألا يبدو الرئيس المشلول وشبه الغائب عن الوعي أيقونة مكثفة عنها. في زمن “أفضل”، كان بوتفليقة تحرراً حداثياً عربياً، ثم تجربة لبناء دولة عربيّة حديثة، ثم حلاً إجباريّاً لتغوّل الإسلاموية المسلحة التي كان فشل الحداثة العربيّة(وتناقضات الغرب أيضاً) جزءاً من أسباب انفلاتاتها التكفيرية الدموية.
خروج مزدوج من الزمن
يمكن الاستمرار في التشبيهات نفسها، مع ملاحظة أنها بالضرورة تتضمن كثيراً من الخطأ والنسبية، في الحديث عن الاقتحام “المفاجئ” لـ”حركة مجتمع السلم” (“حمس”) الإسلامية، بترشيح رئيسها عبد الرزاق المقري للرئاسة الأولى في الجزائر. وتذكيراً، دعمت “حمس” بوتفليقة عند وصوله إلى الرئاسة في نهاية التسعينات من القرن الماضي، خصوصاً برنامجه للمصالحة الوطنية لإخراج المجتمع الجزائري من الآفاق المسدودة التي خلفتها “العشرية السوداء” آنذاك. ولم يكن ذلك الطموح البوتفليقي سوى بداية لفشل جرر نفسه على ولاياته الرئاسية المتتالية من دون نهاية، فابتعدت “حمس” عنه منذ 2012. وأكثر ما يلفت هو أنّ الخطاب المعتمد من المقري يركز على التوافق الوطني، وعدم الانحصار في الكتلة الإسلامية، إضافة الى النأي تماماً عن فكرة إقامة دولة إسلامية، وهو أحد أبرز ما سقط فيه “الاخوان المسلمون” في مصر إبان رئاسة محمد مرسي. وتشي التصريحات المبكرة للمقري وقيادات “حمس”، بخطاب قريب من طروحات “حركة النهضة” في تونس، بما في ذلك الأخذ بآليات الدولة الحديثة والابتعاد عن الدولة الدينية.
وتذكر تلك الصورة بجزائري آخر هو المفكر الراحل محمد أركون، وهو من أصول أمازيغية. وتذكيراً، فشلت الحداثة والإسلاموية عربياً في حل إشكالية الهويات كالكرد والأمازيغ، إضافة إلى الهويات الدينية. وفي كتابه “نقد العقل الديني”، شدّد أركون على أنه يمارس نقداً مزدوجاً للحداثة الغربيّة (التي انتقد موقفها التمييزي تجاه الإسلام) والإسلاموية التي شرّح طويلاً فشلها تجديد الفكر الديني ونسج علاقة منطقية مع العقل الإنساني ومشاريعه وانجازاته، بما في ذلك انغلاقها على نقد هويّاتي أيديولوجي حيال الغرب. وشدد أركون على ضرورة أن تستند الحداثة العربيّة الى تفكير نقدي جريء، بمعنى التفاعل نقدياً مع الغرب ومجمل مشروع العقلانية الكبير، ومع الإسلامويّة بمعنى النقاش المعمّق مع احتكارها البعد الديني إلى حدّ أنها قطعت العلاقة مع النص الأساسي (القرآن) وغرقت في التفاسير الفقهية المتوالية التي صارت فضاءً مغلقاً على تلك الإسلاموية! في ذلك الكتاب، لمس اركون قصور الحداثة العربيّة بأنها لا تساهم في مشروع الحداثة عالميّاً، وتعجز عن مقاربة الظاهرة الدينية ككل، عبر معطيات العقل الإنساني الذي يقاربها باعتبارها تشمل الأديان كلّها.
[author title=”احمد مغربي” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]