زهير هواري
لا الطلاب، ولا الأهالي، ولا الأساتذة في الجامعة اللبنانية، باستطاعتهم الجزم أن العام الدراسي 2022 – 2023، يمكن أن ينطلق أسوة بالأعوام السابقة، بما فيها تلك التي شهدت عدوى كورونا وتفشيه، والاضطرار إلى التعليم عن بُعد. هذا ولم نتحدث بعد عن تلك السنوات التي سبقت الوباء وتبعها الانهيار الاقتصادي – المالي الذي أطاح بموازنتها السنوية ورواتب وأجور أساتذتها، وقدرتها على تأمين الوقود لمحركاتها التي تعمل على المازوت، ناهيك بالانترنت والقرطاسية والتجهيزات المكتبية ومواد المختبرات، والخدمات الضرورية كالنظافة وغيرها من مستلزمات أي جامعة في عالم اليوم.
أما السر في عدم اليقين في القدرة على تأمين انطلاقة للعام الدراسي الحالي، فيعود إلى أن الموازنة التي تصرفها الجامعة، وهي من حساب موازنة وزارة التربية والتعليم العالي ضمن موازنة الدولة العامة قد شهدت هبوطاً كارثياً. وقد انخفضت بموجبه مما يقدر يـ 265 مليون دولاراً إلى 13 مليون دولار فقط العام الحالي. ما قاد العام الماضي إلى ثلاثة اضرابات للأساتذة سواء أكانوا في الملاك أو متعاقدين بالتفرغ أو الساعة استغرقت أشهراً عدة. فأساتذة الملاك والتفرغ هبطت رواتبهم بشكل دراماتيكي إلى ما لا يزيد عن 150 دولاراً اميركياً فقط، بينما تراجعت تغطية المرض والطبابة وما شابه مما كان يقدمه صندوق التعاضد من تقديمات، إلى ما يماثل ما خسره النقد اللبناني، أي إلى حوالي 90% من القيمة السابقة. أما أساتذة التعاقد بالساعة فقد باتت ساعات عملهم لا تعادل أجرة الخادمة المنزلية. ثم إن ما يستحقون من بدلات عمل عن ساعات العام السابق، لم تدفع لهم أصلاً. وبالنظر إلى تسارع انهيار قيمة الليرة اللبنانية، يمكن القول بثقة أن كل يوم يمضي دون قبض أصحابها لها يجعلها أدنى قيمة من اليوم السابق. وعلى الأستاذ الجامعي الذي كان يستعد للعودة إلى التدريس المباشر هذا العام تأمين بدل مواصلاته إلى الكلية والمعهد، بما يعادل راتبه كاملاً مع مكملاته من مواصلات واستشفاء وطبابة. أما الذين يتقاضون أجوراً على الساعة فهم في أسفل الدرك الاجتماعي بطبيعة الحال، ولا يكفيهم أجر ساعات شهر كامل ثمناً لصفيحة البنزين أو بدل أجرة مولد الكهرباء في بيوتهم. في ضوء ذلك يمكن أن نفهم تكرار الاضرابات واجتماعات الأساتذة مع رئيس الجامعة من جهة، ومع وزير التربية والتعليم العالي ورئيس الحكومة من جهة ثانية. وهي الاجتماعات التي لم تسفر حتى تاريخه عن تقدم يذكر، بدليل البيان الذي أصدرته رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية في الثامن من الجاري، وأكدت فيه على مواصلة الاضراب دون تراجع قيد أنملة عن المطالب المطروحة، ومنها رفع قيمة موازنتها التي لم يطرأ عليها تعديل منذ العام 2019، والتي تشمل رواتب أهلها، وكلفة تشغيل وتطويرتجهيزاتها، علماً أن “الدولة اللبنانية عدلت موازنات التشغيل في وزاراتها لتأمين الوقود والقرطاسية والمواد الأساسية والصيانة والتنظيف، واستثنت من ذلك وبشكل فاضح الجامعة اللبنانية”. كما أن أساتذتها وموظقيها ومدربيها لم يتقاضوا اي مساعدة اجتماعية من الدولة اللبنانية منذ أكثر من ثمانية أشهر. ولم يتقاضوا حتى اللحظة مساعدة نصف الراتب المقررة للقطاع العام منذ مطلع العام الحالي، وقد فقدت قيمتها بفعل الانخفاض المخيف لسعر صرف الليرة. وكذلك لم يتقاضوا بدل النقل عن الحضور منذ العام الماضي، والراتب الإضافي عن شهري تموز وآب. وكذلك حرموا من مساعدات الـpcr المتفق عليها مع إدارة الجامعة منذ أشهر عديدة. وتمت سرقة وقحة لمستحقات الجامعة اللبنانية من أموال الـpcr عبر مطار رفيق الحريري الدولي. وأضافت الرابطة في بيانها: “نريد كل ذلك، ونطالب بالحفاظ على مكانة الأستاذ الجامعي في سلم الرتب والرواتب التاريخي في الدولة، بالمقارنة مع مختلف الفئات الوظيفية. وحفظ حق الناس براتب مناسب للوضع المستجد وبالضمانات الصحية والاجتماعية. وهناك 52 مليون دولار من حق الجامعة مسروقة، نريد استعادتها، والسارقون معروفون”.
كذلك فإن ملفات الجامعة الأساسية والضرورية لاستمرارها من ملاك وتفرغ وعقود المدربين وتعيين مجلس الجامعة لم يتم اقرارها في مجلس الوزراء لاعتبارات طائفية واقتصادية وكونها خارج الاهتمام. والجامعة تستنزف بفقدان كادرها الأكاديمي والإداري الذي لم يعد باستطاعته احتمال ما آلت إليه أوضاعها.
وشددت الرابطة على أنها غير مستعدة للنقاش في أي موضوع قبل تحويل جميع المستحقات المتأخرة. وقالت: “في حال عدم وجود استراتيجية واضحة لعودة التعليم الحضوري، وتعديل رواتب الأساتذة بما يتناسب مع الوضع الحالي، فليعلم الجميع بكل وضوح أنه لا عام جامعياً مقبلاً ولا إنهاءَ للعام الحالي”.
اذن اضراب الجامعة اللبنانية مستمر، ومعه تعليق امتحانات الفصل الثاني وبعض مواد امتحانات الفصل الاول، وكذلك تنظيم الامتحانات والتحضيرات للعام الدراسي الجديد، من خلال إطلاق الاستعدادات وتنظيم امتحانات الدخول إلى الكليات للطلاب الجدد.
وختمت الرابطة بيانها بالقول “إن كل مزايدة يتعرض لها الأساتذة بما يتعلق بمصلحة الجامعة والطلاب هي مزايدة مرفوضة وظالمة وغير موضوعية”. وتؤكد أن كل دعوة توجَّه الى الأساتذة للعودة عن الإضراب في هذه الظروف المذكورة أعلاه، هي دعوة في غير مكانها وغير واقعية.
نقاش مع الرابطة
وصفت الرابطة المواقف التي تتناقض مع توجه أساتذتها “تحت ذريعة” مصلحة الجامعة والطلاب “بالمزايدة المرفوضة والظالمة وغير الموضوعية”، وأن الدعوة للعودة عن الاضراب بأنها “في غير مكانها وغير واقعية” كما هو واضح من نص الفقرة السابقة. لكن هذا الموقف يفتح الكلام على مصراعيه مع فئة يفترض أنها بمثابة النخبة في المجتمع اللبناني، والتي تدرك أكثر من سواها مدى عمق الانهيار الذي يعانيه المجتمع والشعب اللبناني، وطبيعة “الدولة الغنائمية” أو “المناهبة” أو “قوى المحاصصة الطائفية” أو “السلطة البونزية” وموقع الجامعة اللبنانية من اهتماماتها وسياساتها.
بداية لا يمكن لأحد أن يجادل في حق الجامعة اللبنانية في الحصول على موازنة قادرة على تأمين حقوق أساتذتها وادارييها، سواء أكانوا في الملاك أو التفرغ والتعاقد والتدريب والإدارة كرواتب وتقديمات صحية واجتماعية. اذ هذا أبسط حقوقهم وأن لا تتعرض لهذا الانهيار المدمر الذي يجعل قيامهم بواجباتهم الاكاديمية والعلمية والمعيشية من سابع المستحيلات. ثم إن هؤلاء من حقهم أن يحصلوا على تعويض نسبي عن انهيار قيمة العملة الوطنية التي يتقاضون أتعابهم بها. لكن كل هذا يدفعنا إلى عدم إغماض الأعين عن طبيعة هذه السلطة، التي لا يعنيها مصير هذه المؤسسة التي تعادل مؤسسة الجيش وقوى الأمن الداخلي في الدور التعليمي والبحثي والوطني المناط بها. فالمعروف أنه قبلاً والآن وغداً، سيظل أولياء الأمور من الطبقة المافياوية يرسلون أبناءهم إلى الجامعات الخاصة، أو يبعثون بهم إلى خارج البلاد. وعليه، يرى هؤلاء أن الجامعة اللبنانية بمثابة عبء على موازنة الدولة لا مانع لديهم من التخلص منها، ولكن هذه المرة بمشاركة من الأساتذة أياً كانت فئاتهم وتراتبيتهم الوظيفية. من يقرأ بيان الرابطة لا يلمح أي طلب اصلاحي للمؤسسة، ومدخله رفع أيدي الطوائف والمكاتب الحزبية ومرجعياتها بما فيه مجلس الوزراء عن قراراتها وسياساتها. وكذلك لا يعلن رفضه المحاصصة الطائفية للمواقع الاكاديمية بدءاً من الرئيس مروراً بالعمداء والمديرين وحتى الموظفين، وهو أمر معروف، وبات بحكم الطبيعي إلى درجة أن تعيين مدير للفرع من خارج الطائفة المتعارف على إشغاله صار يثير عاصفة مضادة. ويعرف الأساتذة أكثر من الجميع طبيعة الدور الذي تلعبه الجامعة اللبنانية، بالنسبة لأبناء الطبقات الوسطى وما دون في مجال التعليم العالي، وبالتالي في الترقي الاجتماعي. فالثابت أن العدد الذي قدرته الرابطة بنصف مليون خريج ليسوا من أبناء الطبقات الميسورة. هذا في الماضي، وفي الوضع الحالي لا شك أن دفع أقساط الجامعات الخاصة بعد أن جرت دولرة أجزاء منها، بات خارج قدرة فئات وشرائح كانت بالأمس تستطيع دفعه، وإن من حساب قدراتها ورفاهيتها. اذن يعمد ممثلو الفئات الميسورة إلى قصد التعليم الخاص، وليس لديهم أي مشكلة في اقفال الأبواب العام الحالي وبعده في كليات ومعاهد الجامعة اللبنانية. وهذا يعني في ما يعنيه قطع الطريق على الفئات المتضررة من الانهيار على نيل حقها في الحصول على هذا التعليم. ما يؤشر إلى أن التعليم العالي يتجه كي يصبح حكراً على الفئات المقتدرة في المجتمع دون سواها، وبما يفتح على موت الجامعة اللبنانية بأدوارها الوطنية والعلمية والاجتماعية، فهل هذا ما يريده أساتذة الجامعة؟ بالتأكيد هو بالنفي.
لمزيد من التوضيح نشير إلى أن هذا التكرار للاضرابات قاد إلى تراجع سنوي بين أعداد طلاب الجامعة اللبنانية. ففي الإحصاءات الأخيرة يظهر أن عدد طلابها قد بلغ حوالي 80 ألف طالب وبما يعادل أكثر من 35% من طلاب التعليم العالي في لبنان. المقياس السابق هذا كان يمكن وتحت وطأة انهيار المداخيل أن يعيد الاعتبار لعدد طلاب القطاع العام في التعليم العالي والعام، في القطاع الرسمي، ولكن عندما يجد الأهالي أبناءهم خارج مقاعد الدراسة معظم أشهر السنة بفعل تكرار الاضرابات يضطرون لبيع ” الغالي بالرخيص” وإرسالهم إلى التعليم العالي الخاص حيث يجري استنزاف ما تبقى لديهم من بقايا مقدرات.
قبل أن نختم نشير إلى أن الرابطة أوضحت في بيانها أن “أساتذة الجامعة لن يتراجعوا هذه المرة عن هذه المطالب، وعن حقهم في راتب حقيقي ضامن مرتبط بسعر الصرف الحقيقي. ويتوجهون إلى الشعب اللبناني وإلى طلابنا الأعزاء وأهلهم: لقد خُيرنا بين تخريج الطلاب هذا العام وبين الجامعة، فاخترنا الجامعة لكم ولأبنائكم ولكل الأجيال القادمة. وندعوكم للتحرك للحفاظ عليها. لن يقبل الأساتذة توزيع شهادات مجانية لأحد، ولا بالتعليم من بعد. فلتتخذ كافة الإجراءات التي تؤمن مقومات عودة التعليم الحضوري إلى الجامعة”. هذا ما ذكرته الرابطة، وهو لا يجيب على الأسئلة حول مصير العام الدراسي والجامعة كمؤسسة، في بلد تستطيع سلطته التشريعية أن تتجاهل ما يدور في الجامعة بذريعة التفرغ في الأسابيع المقبلة للاستحقاق الرئاسي. وحكومة تصريف الاعمال عاجزة عن التقرير، وبالتالي حل المعضلات التي تعانيها الجامعة. كما أن حكوماته لم تتورع عن وضع حلقة الاصلاح في دائرة مقفلة ، وأن تشل يد المحقق العدلي في جريمة تفجير المرفأ، وأي محقق عدلي في جرائم نهب أموال المواطنين المودعين وإخراجها من البلاد، وإيصال الدولة إلى الافلاس والمواطنين إلى حافة الجوع… ألا يدفع كل هذا الوضع إلى البحث عن مخرج أو تسوية تعيد فتح أبواب الجامعة أمام طلابها، وهو حل وإن كان لا يفي الأساتذة والاداريين حقوقهم في راتب مرتبط بسعر الصرف، الا أنه يجب أن يكفل قيامهم بواجباتهم أمام أجيال ليس أمامها سوى الجامعة اللبنانية بفروعها وكلياتها كافة، لارتياد آفاق مستقبل مختلف عما ينتظرهم من واقع الحال الجهنمي المزري.
Leave a Comment