أنطوان شلحت*
صدرت أخيرا في إسرائيل ترجمة بالعبرية لكتاب سوزان نيمان عن الدروس التي اكتنزتها ألمانيا من تجربة النازية، وتعمل على تطبيقها بغية ترسيخها، وفي مقدمها تحمّل المسؤولية حتى على المستوى الفردي عن الآثام المرتكبة، بما من شأنه أن يحول دون تكرارها، بالأساس لأسبابٍ جوهريةٍ وبنيوية كامنة، من ضمن أشياء أخرى، في وجود منعةٍ بين السكّان تحول دون نشوء قوى في القاع تدقّ الطبول لمن تسوّل له نفسُه تكرار مثل هذه التجربة الرهيبة.
وأعطت نيمان لكتابها العنوان المُوحي “لنتعلم من الألمان .. العِرق وذاكرة الشرّ”، مخاطبة بالأساس الولايات المتحدة بوجوب مثل هذا التعلّم في مضامير شتّى، سيّما في ما يتعلق بالتمييز على أنواعه، بما في ذلك على أساس العِرق أو الجنس أو اللون. وهي تشير على وجه الخصوص إلى كيف عمّمت ألمانيا ما تصفها بأنها “ثقافة ترحيب” بما يزيد عن مليون لاجئ، فيما تعتبره “أكبر وأوسع حركة اجتماعية في ألمانيا منذ الحرب” العالمية الثانية. كما تشير إلى أن “أنجح” أحزاب اليمين المتطرّف خلال حقبة ما بعد تلك الحرب، وهو “البديل من أجل ألمانيا”، حاول تقويض هذه المقاربة الألمانية، لكنه مني بالفشل مرّة بعد أخرى، ولم يفلح في توسيع نطاق قاعدته الصغيرة، وبات يعاني، أخيرا، من حروبٍ داخل صفوفه، واستراتيجيا متخبّطة تجاه التعامل مع وباء كورونا، الأمر الذي دفعه إلى الهامش من جديد. علاوة على ذلك، نجحت محاولات هذا الحزب لنفي حجم الماضي النازي للبلد أو تقليصه، بدلًا من ذلك كلّه، في تعزيز مشاعر مناهضة العنصرية بألمانيا.
وبرأيها، يُثبت هذا النكوص الواسع والمستمر لأنصار أفكار التفوّق العِرقي والعنصري، أن ألمانيا حققت حتى الآن درجة عالية، وإن لم تكن مثالية، من المنعة تجاه نمط سياساتٍ سامّة تعصف بالولايات المتحدة وبغيرها خلال الأعوام الأخيرة. وبموجب ما تؤكّد، تفضل كل دولة أو أمّة أن تنظر إلى تاريخها بمفاهيم بطولية، غير أن ألمانيا كسرت هذا النمط من التفكير، وأقامت نصبًا تذكارية لتخليد ممارسات النازية أطلق عليها بعضهم اسم “نُصب العار”، وهذا يعني أنها لا تخشى من المجاهرة بإخفاقاتها.
وتشدّد نيمان على أن هذه المنعة لم تتحقق بين عشية وضحاها، إذ استغرق الأمر، كما تكتب، عقودًا من العمل المُضني قبل أن يقرّ من ارتكبوا ما اعتبرت الجرائم الأشد فظاعةً في التاريخ بتلك الجرائم، ويشرعوا في التكفير عنها.
نيمان كاتبة وباحثة يهودية أميركية نشأت في الجنوب الأميركي الذي غلب عليه التمييز العنصري، ثم عاشت في إسرائيل وفي برلين أعواما طويلة. وبناء على ذلك، كان من الطبيعي، في ضوء ترجمة الكتاب إلى العبرية، أن تُثار مرة أخرى مسألة تعلّم إسرائيل دروس ألمانيا من النازية باعتبار أن ماضي كل من الدولتين ينطوي على “ذاكرة شرّ”. كما أن كشف مزيد من وثائق الأرشيف الإسرائيلي في الفترة الأخيرة، والتي تعيد إلى الأذهان خلفيات مجازر ارتكبتها دولة الاحتلال ضد الفلسطينيين ودوافعها، على غرار مجزرة الطنطورة مثلًا، ساهم في تعالي أصواتٍ تطالب بالاستفادة من الاستنتاجات الذهنية التي خلص إليها كتاب نيمان من أجل أن تنظر إسرائيل إلى نفسها في المرآة، وأن تقرّ بما اقترفته يداها من جرائم، كون ذلك الإقرار الخطوة الأولى للشروع في التكفير عنها.
ولا بُدّ من إضافة أن نيمان نفسها أكّدت، في مقابلة لصحيفة هآرتس، بمناسبة صدور ترجمة كتابها أن ماضي إسرائيل في ما يتعلق بالنكبة الفلسطينية سيظل يلاحقها إذا لم تواجهه بشجاعة، معتبرة هذه المواجهة بمثابة خطوة حاسمة نحو النضوج.
أخيرًا، تكتب نيمان أن معظم الألمان شعروا، في 1945، بأنهم عمليًا الضحايا الحقيقيون للحرب، ولكن بمرور عدة عقود أدركوا ذنب آبائهم، وأن معاناتهم نتيجة مباشرة لخياراتهم الخطأ وعنفهم الدموي، ما يحيل إلى التجربة الصهيونية، وربما إلى مسؤولية كل إسرائيلي عما اقترف بحق الفلسطينيين، كما تؤكد حتى الآن فئة قليلة من الإسرائيليين.
*نشرت في العربي الجديد في 10 اب / اغسطس 2022
Leave a Comment