زكي طه
أمر مريب أن تسقط بعض صوامع الاهراءات المتصدعة في مرفأ بيروت، في الذكرى الثانية للجريمة عصر 4 آب 2022، بعد اسابيع من اندلاع النيران داخلها، أمام انظار ألوف اللبنانيين الذين شاركوا أهالي الضحايا وألوف الجرحى الذين أودى بهم انفجار 4 آب 2020، احتجاجهم على اصرار المسؤولين متابعة تعطيل التحقيق العدلي. يستدعي ما حدث الكثير من الأسئلة، خاصة أنه تزامن مع تأكيد عدد من الوزراء الذين يمثلون جهات معينة في السلطة، العمل على هدم ما تبقى من الاهراءات، وإزالة أي أثر لها بحجج وذرائع مختلفة، وسط تجاهل تام لمطلب الأهالي المحافظة عليها شاهداً على جريمة ارتكبت ضد الانسانية، يسعى المسؤولون عنها لإخفاء معالمها، والحاقها بسائر الجرائم المقيدة ضد مجهول.
حدث ذلك في موازاة تصاعد الاسئلة حول مصير البلد الذي تعصف به الأزمات وتهدده المخاطر من كل الجهات. وفي الوقت الذي حمّل تقرير البنك الدولي السياسيين اللبنانيين المسؤولية الكاملة عن الانهيار والنكبات والكوارث الاقتصادية والمالية التي اصابت مواطنيهم، جراء سياساتهم وفسادهم المنظّم ورفضهم إعادة النظر بممارساتهم والتزام ما تعهدوا به من اصلاحات.
وفي حمأة خلافاتهم، يُسجل للوسيط الاميركي نجاحه في جمع الرؤساء الثلاثة لاطلاعهم على الموقف الاسرائيلي من الطرح اللبناني بشأن ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، والحصول منهم على جواب موحد بشأنه بديلاً عن اجتهاداتهم المتباينة التي اعتاد الاستماع لها في جولاته. أما الرد الاسرائيلي بالموافقة المشروطة، والذي قوبل بالرفض من قبل الرؤساء، فقد كان كفيلاً بتبديد ما اشيع من تفاؤل بعد اللقاء حول إمكانية الوصول إلى اتفاق، وهذا ما أكدته الوقائع لاحقاً. والاسباب تبدأ من ثوابت السياسات والمصالح الاميركية، والموقع والدور الاسرائيلي في إطارها، ولا تنتهي بعُسر مفاوضاتها مع ايران بشأن الاتفاق النووي وحول سياساتها ودورها في المنطقة بما فيه نفوذها في لبنان.
وإذا كانت طموحات العهد لتحقيق انجاز ما ضمن المهلة المتبقية له، ومحاولتة توحيد الموقف اللبناني الرسمي خلفه، تبدو صعبة وغير ممكنة زمنياً وعملياً، ليس بسبب تصاعد خلافات الرؤساء الثلاثة حول مختلف القضايا، وتناقض مصالحهم بشأن انجاز ترسيم الحدود، إنما، بالنظر لجذرية السياسات الاسرائيلية التي لا تقيم وزناً إلا لمصالحها وأمنها. في المقابل فإن مساعي حزب الله تنسيب الانجاز لدوره وسلاحه، من خلال الاستثمار في أزمة النفط والغاز وحاجات السوق العالمي للانتاج الاسرائيلي الموعود، والرهان على تحقيق نصر سياسي بقوة التهديدات والتلويح بالذهاب إلى الحرب تحت راية تحصيل حقوق لبنان في النفط والغاز وحماية حدوده، لا يبدو أنها قابلة لتحقيق أهدافها. والسبب في ذلك لا يقتصر على السياسات الاميركية والاسرائيلية حيال لبنان، والحزب وسلاحه وممارساته وحسب. إنما ايضاً قدرتهما على استغلال أداء الحزب ودوره وعلاقاته الخارجية وفئوية توجهاته، وتحميله مسؤولية فشل عملية الترسيم. وهو الذي يدعي الوقوف خلف الدولة، لكنه لا ينتظر موافقتها بشأن قراراته، وتصعيد ممارساته التي يبررها بعجزها. أما رفضه الاقرار بأن ما يقوم به هو اضعاف لها وأنه يتصرف كبديل عنها، عدا أنه لا يقيم وزناً للانقسام الاهلي حول سلاحه، ودوره وتحكمه بأوضاع البلد والحكم، وهو الممعن في تفرده ادعاء تمثيل المصلحة اللبنانية، وأن من يخالفه الرأي أو الموقف إما مشارك في التفريط بها، أو خائن ومتآمر عليها وعليه، فإنه يساهم مع الآخرين في تكريس الانقسام وإبقاء الوضع اللبناني مشرعاً على كل المخاطر التدميرية.
وما يعزز تلك المخاطر، أن مصير الاستحقاقات والملفات الداهمة التي يواجهها لبنان راهناً، بما فيها تشكيل الحكومة بدل الاستمرار بحكومة تصريف الاعمال، واستحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية، معلقة جميعها إلى أمد غير منظور، ليس على رافعة خلافات اللبنانيين بشأنها وحسب، إنما على ارتباطها بأزمات المنطقة المتفجرة، التي يستحيل فصلها عن الحروب والنزاعات المسلحة الدائرة في دول الجوار، وعلى الصعيدين الاقليمي والدولي وفي ميادين السياسة والاقتصاد.
إذ ليس تفصيلاً أن لا يتعرض لقاء الرؤساء لتأزم العلاقات في ما بينهم، ولا يتطرق للاستحقاق الرئاسي المهدد بالتأجيل وفق كل الدلائل، أو لمسألة تأليف الحكومة الجديدة التي بات مسلماً به أنها لن تتشكل. إما إدارة شؤون الحكم والدولة والادارة العامة وأوضاع البلاد والتعامل مع الازمات الاقتصادية والمالية وفقدان الرغيف والادوية وسائر الخدمات العامة وتصاعد الفوضى والفلتان الأمني، فقد بدا واضحاً أنها بمجملها محكومة بالارتجال أو الاحالة على المافيات التابعة. ما يعني أن تلك القضايا لا مكان لها في جداول اعمال الرؤساء المشغولين بتبادل اتهامات تعطيل الاصلاحات والاستحقاقات، التي لم تحد منها مشاركتهم في الاحتفال البروتوكولي لتخريج الضباط الجدد بمناسبة عيد الجيش، الذي تحاصره مضاعفات الانهيار التي تحول دون قدرته على القيام بدوره، وتديم العجز عن تأمين تجهيزاته، وابسط متطلبات تمويله وتموينه كمؤسسة وافراد.
سريعاً تكشف خواء رهانات من راودهم وهم تحقيق انجاز سريع لترسيم الحدود. سواء من تنازل طوعاً ومسبقاً عن الخط 29 مستسهلاً القبول الاسرائيلي بما يقترحه حلاً يرى فيه رافعة متأخرة لعهده ودوره. أو من راهن على تحقيق انتصار فئوي عبر رضوخ الولايات المتحدة والاسرائيل لتهديداته، وتجاهل خطر تعريض البلد مرة أخرى لحرب مدمرة. أما محاولات تضليل اللبنانيين والتعمية على التهرب من تنفيذ الاصلاحات، واحالة معالجة أزمات البلد على بدء التنقيب عن النفط والغاز وانتاجه وتصديره، فمن المؤكد أنها أضافت إلى سجلات قوى السلطة قاطبة أدلة واثباتات جديدة، حول مدى قصورها وادمان اطرافها الاستهانة والاستهتار بمصالح البلد الوطنية، وحقوق أهله ومصيرهم على مذبح حماية وتعزيز نفوذها ومواقعها في السلطة.
وامام واقع البلد الصعب والمفتوح على المزيد من الأزمات والكوارث، بفعل ممارساتها ورهاناتها القاتلة، التي تستجر تزخيماً للانقسامات والنزاعات الأهلية والصراعات بين قوى السلطة التي نجحت في تجديد شرعيتها. فإن طروحات قوى المعارضة ومجموعاتها لا تزال هي ايضاً قاصرة عن الاحاطة بما يواجهه غالبية اللبنانيين. كما وأن أداءها لا يرقى إلى مستوى التحديات المصيرية. هذا ما تؤكده دعوات تنظيم الاحتجاجات، التي لم تعد تحظى بإهتمام الغالبية الساحقة من اللبنانيين المتضررين. وهي الفئات التي تفتقد من يعبر عن مصالحها واولويات حقوقها ومطالبها. إذ إن من يدعي تمثيلها من اتحادات وأطر نقابية وروابط مهنية، اصبحت منذ عقود ملاحق وهياكل خاوية تابعة لأحزاب السلطة وتياراتها، بعدما نجحت في محاصصة هيئاتها لتعطيل ادوارها. أما الذين ادعوا أنهم مستقلون عنها، فإن عجزهم عن الانتساب إلى مصالح وحقوق القطاعات المتضررة والتواصل معها اصبح مضرب مثل، لأنهم يكتفون بتصيّد المناسبات وتصدير البيانات واطلاق دعوات العصيان المدني التي لا تلقى بالاً من أحد.
وعليه يتجدد التحدي الذي يواجه قوى المعارضة ومجموعاتها من بوابة إعادة الاعتبار لتصويب تمثيل الفئات المتضررة وتجديد شرعية الهيئات التي ترفع راية مصالحها وحقوقها، مدخلاً وحيداً لزج طاقاتها في معركة الإنقاذ من الجحيم وتدارك الاخطار الزاحفة.
Leave a Comment