سياسة مجتمع

نحو بناء حركة معارضة ديمقراطية لبنانية مستقلة

زكي طه

بصرف النظر عن نتائج الاستشارات النيابية وصيغ تأليف حكومة جديدة، سواء تشكلت أو استمر تصريف الاعمال، فإن وضع البلد الراهن يحكمه التعطيل وانسداد الأفق امام إمكانية خروجه أو إخراجه من الجحيم الذي دُفع إليه قسراً، وسط انعدام قدرة النظام السياسي على تجاوز أزماته، وواقع قواه السياسية المقفل على أي اصلاح. لا ينطوي هذا الحكم على دعوة لليأس أو لنفض اليد، بل هو دعوة لحث الخطى والإقدام  لبناء مسارات، وإيجاد مخارج تؤدي إلى فتح الآفاق نحو تجاوز المأزق الراهن، والحد من الأخطار الزاحفة في ركاب الانهيار الشامل، والفوضى العامة المشرعة على كل الاحتمالات، في امتداد تحول الدولة ومؤسساتها وأجهزتها إلى هياكل مشلولة وعاجزة، ومستباحة من قوى الطوائف الميليشياوية والمافياوية في آن.

والوضع الراهن هو نتاج أزمة إعاقة تطور البلد، كياناً وهوية وطنية، وحياة اقتصادية اجتماعية سياسية، وعلاقات خارجية على امتداد مائة عام. ومصدرها معضلة الكيان اللبناني في إعاقاته الداخلية، وفي الهيمنات السابقة، أو الراهنة الممسكة بتلابيب البنية اللبنانية ومختلف مناحي الحياة فيها، كما في أواصر علاقاته بمحيطه العربي والاقليمي، وما كان أو استجد فيهما من أزمات وصراعات اتصالاً بالوضع العالمي.

وإذ تميزت المرحلة التي اجتازها البلد منذ الاستقلال لغاية الآن بعسر مسار تطوره الديمقراطي في مختلف الميادين، من مجتمعه المدني إلى دولته مروراً بحياته السياسية، إلا أن منسوب العسر بات أكثر فداحة وتعقيداً، مع اتفاق الطائف الذي كان المخرج الوحيد المتاح لوقف الحرب الأهلية العبثية. لأن تطبيقه وفق ما يلائم مصالح الوصاية السورية على صعيد إعادة انتاج قوى السلطة وإدارة صراعاتها، لتشريع الهيمنة عليها والشراكة معها استناداً لقواعد المحاصصة الطائفية والفئوية. كل ذلك ساهم دون أدنى شك في إفناء ما لم تدمره الحرب، مما كان البلد قد راكمه من انجازات حداثية على صعيد بُناه في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، منذ تأسيس الكيان.

إن الاقرار بأن البلد ما زال يجتاز مخاضاً عسيراً مُعطلاً لقدرته على كسر قيود الاقامة في دوائر التخلف، وعلى تجاوز العجز عن التقدم نحو طور رأسمالي اقتصادياً وليبرلي سياسياً وثقافياً وأيديولوجياً. يُحدد وجهة وأهمية المساهمة في صياغة الجواب على السؤال المتعلق بطبيعة الحركة السياسية التي يحتاجها البلد راهناً. باعتباره السؤال الذي يؤرق الغالبية الساحقة من اللبنانيين، والذي يتعلق بمستقبل وجودهم ومصيرهم وسط المجهول. سواء الذين وضعوا قسراً امام تحديات معركة الانقاذ، أو الباحثين منهم عن حركة تستجيب لطموحاتهم، في مواجهة ما آل إليه الواقع العام من انهيار شامل، كي يبقى وطناً قابلاً للحياة.

وبما أن احوال البلد الراهنة هي خير حكم على فشل التجارب السابقة، صيغا وبرامج، وعلى عسر ولادة حركة معارضة حداثية تستجيب لحاجاته. والشاهد أن غالبية قوى المعارضة المتحدرة من تلك التجارب، لا تزال اسيرة  محاولات تكرارها دون مراجعتها. مما يبقيها في المأزق ويجدد أزماتها، ويديم تخبطها على هامش أزمات البلد دون القدرة على الانتساب لها. ولا تختلف عنها أكثرية المجموعات المتشكلة حديثاً، التي تكتفي بإعلان الأهداف واطلاق الشعارات العامة، والتنافس على خوض المعارك الاعلامية لتحقيقها، بعيداً عن اصحاب المصلحة فيها.

والعسر تؤكده أحوال وواقع حركة المعارضة اللبنانية وقواها وتياراتها، وما هي فيه من سوء تفاهم وفهم وانعدام رؤية، وعجز عن الحركة الفعلية في مواجهة الازمات. وقد برّزت محطة الانتخابات النيابية مدى الخلل والشرذمة السائديْن. وما زاد طين المعارضة بِلّةً، غياب المبادرة المسؤولة التي تفتح البحث ولا تقفله، وكثرة التفرد وادعاءات امتلاك الحقيقة، واصرار البعض على الاقامة في متاريس الانقسام الطائفي ومواقع الحرب الأهلية الموروثة. ما سهَّل الوقوع  في أفخاخ سياسات وصراعات قوى السلطة، التي تتقن تمويهها وتحديثها، إلى جانب قدرتها على تجاوزها ساعة تشاء وفق ما تقتضيه حاجاتها ومصالحها.

إن انسداد افق الوضع الراهن هو نتاج  استمرار وتجدد مأزق النظام وانغلاق قواه، وغياب معارضة  فاعلة ومستقلة في آن. وكلاهما دليل قاطع على أن الغائب الأكبر عن مجريات اوضاع البلد ومسارات أزماته يتمثل في حجز انفتاح آفاق تطوره الديمقراطي. ما يعني أن حاجة البلد الأساسية هي وجود حركة معارضة ديمقراطية لبنانية شاملة. حركة قادرة على أن تطل على قضايا تطور الوضع اللبناني كياناً ونظاًماً وهوية وطنية من موقع الحداثة والتقدم والديمقراطية.

والمؤكد أن انتاج هذه الحركة لا يولد عفوياً، ولا يختزلها وجود بعض المنتديات الفكرية، التي تدعو وتحلم بضرورة انتقال البلد إلى ضفة هذه الحداثة. فيما المطلوب تأسيس وبناء حركة  ديمقراطية مجتمعية متقدمة، قادرة على تجاوز أمراض الديمقراطية اللبنانية كما عرفها البلد، نظاماً وحركة سياسية واحزاباً وتجربة منذ الاستقلال. مما يستدعي دوراً أساسياً يقع على عاتق اليسار الديمقراطي، في الصراع من اجل إعادة انتاجها، وتحولها على نحو متدرج طرفاً في معركة صعبة ومعقدة تستهدف دفع التحديث على الصعيد السياسي والاقتصادي، الثقافي والاجتماعي العام خطوات إلى الامام.

ومصدر الصعوبة فيها، أنها تقع في مواجهة انهيار الدولة ومؤسساتها، وفي مواجهة موروثات المجتمع الأهلي وبناه المتخلفة وانقساماته الطائفية، وفي التصدي لمعضلة لبنان الاقتصادية في طورها الراهن، معطوفة على اعطابها الاصلية، بعدما اصبح واحداً من أكثر بلدان العام فقراً. أما جلاء هوية البلد الوطنية الجامعة ديمقراطياً، والمعبرة عن مصالحه فإنها تكمن في مواجهة علاقاته الطبيعي منها والقاهر، سواء مع المحيط العربي والاقليمي والنفوذ الايراني، أو ما هو قادم منها في ركاب التطبيع الزاحف مع العدو الاسرائيلي، ومحاصرة وتهميش القضية الفلسطينية، وبدء تشكل نظام شرق أوسطي جديد في موازاة صعوبات التقدم نحو توقيع الاتفاق الاميركي ـ الدولي مع النظام الايراني.

ولأن تأسيس وبناء هذه الحركة يشكل المهمة الأكثر تقريراً لإمكانية إنقاذ البلد، ولمجمل قضايا تطوره الديمقراطي كياناً وطنياً واقتصاداً ومجتمعاً حديثاً. فإن التوافق على قراءة واقعية لأوضاعه، ولطبيعة المرحلة التي يجتازها ضمن الاطارين العربي والعالمي. قراءة تنطوي حكماً على نقد تجارب الديمقراطية فيه نظاماً ومعارضة، سلطة واحزاباً وقوى. يشكل مدخلاً لتعريف الديمقراطية المنتسبة إلى قيم التقدم والحداثة، وتعيّين وظيفة وطبيعة المسار الديمقراطي الصعب، والتسويات التي تحكم تحشيد وتجميع الامكانات في مسيرة تأسيس وبناء حركة ديمقراطية لبنانية شاملة، وخوض الصراع الاجتماعي تحت سقف عسر وتحديات وشروط التطور الديمقراطي لانتزاع وتحقيق تسويات متتالية، بعيداً عن أوهام التغيير الثوري الجذري الشامل والناجز.

وفي هذا السياق وبعيداً عن التبسيط والمناشدات التي لا تقدم ولا تؤخر، ولأن الحركات الديمقراطية المجتمعية لا تؤسَّس بمراسيم وقرارات تصدرها قيادات حزبية، ولا تولد مكتملة وفق ترسيمات لم يعد لها مكان، بقدر ما هي  حصيلة تلاقي مبادرات وحركات نضالية متعددة ومتنوعة المستويات والاشكال والاحجام والأمكنة، ولأن المخاطر الزاحفة على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية العامة والقطاعية والمناطقية، قد بلغت حداً يستحيل الهروب من أحكامها، ولا يفيد فيها انتظار معالجات وحلول لن تأتي. فإن التحدي الذي يواجه اليساريين الديمقراطيين والليبراليين والعلمانيين والنقابيين التقدميين والناشطين في ميادين الحقوق المجتمعية والانسانية، وجميع النواب المستقلين والتغيريين، يتمثل في تضافر الجهود وتنظيم أطر النقاش والحوار والعودة إلى ميادين النضال في آن، سواء على الصعيد العام، أو المناطقي والقطاعي المهني السياسي الاجتماعي والثقافي، من أجل تطوير ما هو قائم، والمبادرة إلى تشكيل المزيد من الاطر، وتوسيع دوائر التواصل والتنسيق، مما يشكل خطوات ملموسة نحو توليد وتأسيس حركة معارضة ديمقراطية لبنانية شاملة وهي حركة لا بد وأن تكون مستقلة واستقلالية على نحو حقيقي وفاعل.

Leave a Comment