ثقافة

خطوة إلى اليسار… خطوتان إلى الأمام

قراءة في كتاب كريم مروة                                  

 كمال اللقيس

اذا ما اتفقنا على انَّ اليسار، هو ضرورة موضوعية وحاجة وطنية وقومية وعالمية، جاز الحديث والبحث عندئذ عن نهضة جديدة او عن مفهوم جديد لليسار. ولأنَّ شبح السقوط المدوي لما كان يسمى اصطلاحاً  بالتجربة الاشتراكية المنجزة ما زال يخيم على العالم، سيبقى هاجس الخروج من عنق الزجاجة نحو افق يساري ما يكتسب مشروعية راهنية ومستقبلية.

كريم مروة ذلك المفكر الذي يهجس دائماً بالجديد  ويواكب حركته، والذي عارك وجادل في شأن اليسار وناضل في سبيله، يُقدم مساهمة في هذا المجال عبر كتابه “نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي” الصادر عن دار الساقي في العام 2010 في بيروت والذي يضم بين دفتيه قسمين:

– يتناول القسم الأول عدة مواضيع نذكر منها: اليسار في العالم العربي وتحولات العصر- الازمة المالية العالمية الجديدة- نحو نظام عالمي جديد – المرتكزات الاساسية في مشروع التغيير بإسم اليسار.

–   ويضم القسم الثاني نصوصًا منتقاة من ماركس وانجلز ولينين وبليخانوف وروزا لوكسمبورغ  وغرامشي .

وقبل الولوج في مناقشة الكتاب، اظن بأن هذه العجالة لن تفي القسم الثاني منه حقه من البحث النظري المعمق للماركسية عبر ممثليها الكلاسكيين، مع التشديد على العروة الوثقى بين جزأي الكتاب “إنَّ ثمة تواصلًا دائماً بين أحداث التاريخ الكبرى والأفكار التي تولد في رحمها او تسهم في صنعها، وانَّ الجديد من الاحداث الكبرى ومن الأفكار المتصلة بها  إنما يولد من ذلك القديم،  ويتخذ له بعد الولادة كياناً مستقلاً وسمات خاصة في شروط عصره” (المقدمة صفحة 9).  وبقدر ما يبتعد المرء عن إطلاق أحكام حتمية وعن استخدام عبارات حاسمة، بقدر ما يقترب من العلمية اكثر وبقدر ما يتحرر اليساري الشيوعي من ثقل التجربة الماضية مع عدم القطع معها نهائياً بقدر ما تنضج يساريته وتتفتح.

وفي هذا الصدد، وعبر اللغة غير القطعية – اعتقد بأن الكاتب عمد ونجح في استدراج المتلقي اليساري، تحديداً إلى ملعبه وتواطأ معه ايجابياً وضمنياً على بلورة مشروع يساري مستقبلي من خلال اختبار مادة الكتاب ومناقشتها. امَّا الشرطان الضروريان – في اعتقادي –  لتحقيق هذا الهدف فمتوفران:

–  هاجس الكاتب وقلقه على مشروع اليسار.

–  توخي الدقة والموضوعية في مناقشة المشكلة/الأزمة ويبدو انَّ الكاتب قد أفاد من خبرة الايام وتجارب التاريخ فجاءت أفكاره الأساسية نهضوية اي منسجمة مع عنوان كتابه وهي تتلخص بالتالي :

–  تجنب الصيغة التقريرية وهذا ما ظهر في السطر الأول من الكتاب: “هذا الكتاب هو محاولة مجرد محاولة… وهي افكار احاول فيها وبإسمها الإسهام في تقديم تصور جديد لليسار…” ويضيف مروة: “امَّا الهدف الثاني فهو استكمال معرفة او محاولة معرفة ما توصل اليه ماركس…” (صفحة8). وفي موضع آخر ينبِّه الكاتب القارئ: “إلى انني لا ادَّعي في هذا التقديم للكتاب وفي الكتاب ذاته انني سأقدم إجابات عن الأسئلة الكبرى التي تطرحها الأزمة الراهنة لليسار كلا قطعاً” (صفحة 10)

–  التحرر من عبء الايديولوجيا في قراءة التجربة الفاشلة وهذه خطوة جد جدية في الإتجاه الصحيح: “امَّا الشرط الثاني فهو ان تقوم هذه القوى الجديدة لليسار خصوصاً بقراءة غير ايديولوجية اي من دون افكار مسبقة  قراءة تتميز بقدر عالٍ من الدقة والموضوعية… والوظيفة الأساسية لهذه القراءة هي تقديم العناصر التي يمكن  لهذا اليسار الجديد ان يستند إليها  في تحديد أهدافه الملموسة بواقعية وفي تحديد وسائط نضاله بواقعية ايضاً من اجل تحقيق هذه الأهداف” (صفحة 9). وللتدليل على صحة هذا الزعم أحيل القارئ الكريم إلى ما قاله لوي التوسير يوماً: “عندما تأدلج ماركس مات كفيلسوف وكإقتصادي فذ”.

الإلتفات إلى الجوهر الفعلي لنضال اليسار إلى النواة الاجتماعية اي إلى الانسان الذي ظُلم وغُيِّب في التجارب التاريخية السابقة “…الا أنَّ لنضالنا الجديد اشكالاً جديدة علينا ان نحددها بدقة  وواقعية آخذين في الإعتبار مبدأً اساسياً يتصل بالإنسان وبحريته وبحقه الأساسي في الحياة اي أنَّ علينا ان نتجنب في نضالنا الصعب القادم الإستهانة بحقوق الانسان والاستهانة بحياته…” (صفحة 19) .

” ولأنًّ مشروع اليسار لا يتحقق بإيعاز من قوى ما فوق طبيعية او من خلال احلام طفولية ورغبات بشرية مشروعة ولإستكمال حلم ماركس بالتغيير فإنَّ على اليسار أن يعي بأنه لا يتحرك في الفراغ بل إنَّ نضاله سيكون بالغ التعقيد والصعوبة” (صفحة 27) .

ومع اقتراب الكاتب من ملامسة لب القضية اي نهضة اليسار نراه ينفض عن كاهله كل ما علق به من تعميمات واسقاطات ويقينيات لطالما كبَّلت اليسار الماركسي وجعلته رهين قراءة صنمية للماركسية افرغتها من روحها اي من جدليتها “التي تحترم اختلاف المراحل واختلاف الشروط التاريخية  بين مرحلة وأخرى  واختلاف المهمات” (صفحة 56) وهنا اعتقد بأن الكاتب ينطق بلسان حالي وحال الكثيرين الحريصين على نهضة اليسار من كبوته لا بل من سباته “مهمة اليسار الجديد في هذا الظرف التاريخي بالتحديد هي العمل على تحديد دقيق وواقعي للأهداف الممكنة التحقيق الأهداف التي تتصل بنقل بلداننا من حالتي التخلف والإستبداد ووضعها على طريق الحرية والتقدم واحترام حقوق الانسان وإدخال القوانين الديمقراطية إلى مؤسساتها التي تجعلها جزءاً من العصر وتحولاته…” (صفحة 54) “…لكنني وانا اتحدث هنا كإشتراكي بحكم انتمائي  التاريخي إلى الاشتراكية بتُّ اختلف في أمور جوهرية مع عدد غير قليل من مفاهيم ماركس التي شاخت وصارت جزءاً من الماضي وتغيرت علاقتها بالعصر الا أَنَّ اختلافي هذا مع تلك المفاهيم لا يلغي ارتباطي الأساسي بما حلم به ماركس… على امتداد حياته من تأكيد على أنَّ الانسان الفرد والانسان الجماعة هو جوهر الحياة وهدف التقدم في كل ميادينه…” (صفحة 54). وحسناص فعل الكاتب – قبل تقديم مقترحاته لنهضة اليسار- عندما حدد مفهومه لليساري اليوم: “اليساري اذن يمكن ان يكون متأثراً بأفكار الاشتراكية منذ ماركس حتى اليوم ويمكن ان يكون عضواً في حزب اشتراكي او شيوعي او في حزب قومي متأثر بالإشتراكية  ويمكن ان يكون ديمقراطياً بالمعنى الواسع للمفهوم. لذلك فاليساري الذي أتوجه اليه في هذا البحث هو الذي يريد لبلده الحرية والتقدم اللذين لا يمكن تحقيقهما الَّا بالنضال لإحداث تغيير جوهري في الوضع القائم” (صفحة 66) ويعتقد الكاتب: “بأنَّ الوظيفة الأساسية في تقديم القضايا الآتية الذكر كبرنامج لليسار الجديد هي تسليط الضوء على الوضع القائم وإثارة النقاش حوله من اجل خلق وعي جديد يمهد لنهضة جديدة لليسار في العالم العربي “(صفحة 77).

ونذكر بعضاً من هذه القضايا مثل :

– بناء الدولة الديمقراطية الحديثة – تحقيق التقدم الإقتصادي – التنمية الإجتماعية والبشرية – الإهتمام بالشباب تنشئة وتعليماً – حقوق المرأة – الإهتمام بالبيئة – القضية الفلسطينية – حماية الاقليات والتعاون بين قوى التغيير في العالم العربي.

ومع تقديري الكبير لكل ما استعرضه الكاتب من قضايا مُقترحة لبرنامج اليسار الجديد اعتقد بأنًّ ثمة قضيتين لم يُؤتَ على ذكرهما:

–  قضية النضال من اجل عالم خالٍ من السلاح النووي.

– قضية التغيير في الهيكلية التنظيمية المركزية المقفلة لأحزاب اليسار بإتجاه اعتماد النسبية في التمثيل لمختلف الآراء والإجتهادات تحت سقف الخطوط البرنامجية العامة.

واضيف بأن على قوى اليسار الجديد أن تلج الحداثة من بابها العريض بعيداً عن الإلغاء والشخصنة والنرجسية وعليها بعد التصالح مع الذات والواقع ان تعترف – إن أرادت الَّا تتخلف عن موكب الحياة – بأنَّ العولمة هي ظاهرة موضوعية ذات إتجاه تقدمي وبأنَّ الوقوف في وجهها يُصنف موقفاً رجعياً.

وعليه فهذه القوى منوط بها أن تنخرط بقوة في مسار العولمة وتناضل بكل الأشكال وفي كل الساحات ل”أنسنتها”.

واختم لأقول بأنَّ

ماركس الفيلسوف المادي حاضر بقوة. ماركس الاقتصادي الفذ حاضر بقوة. ماركس عالم الإجتماع الجدلي حاضر بقوة. ماركس الإنسان اعشقه.

امَّا ماركس الايديولوجي فألآراء والأحكام حوله بين كرٍّ وفرٍّ. وسيملأ هذا الجدل  المكان والزمان إلى أمد بعيد. وسيظل حلم ماركس بالحرية والخبز يحوم فوق الكوكب ما كان ليل ونهار .

وإذا كنت في الأصل لا اؤمن بوجود إله فكيف لي أن اؤلِّه ماركس او غيره من قبل ومن بعد؟!

Leave a Comment