استناداً إلى مناقشات المكتب التنفيذي لمنظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني لظروف وملابسات ونتائج الانتخابات النيابية التي شهدتها البلاد منتصف شهر أيار 2022، أصدر المكتب بيانا تقويمياً لمجراها، ودلالات ما شهدته وما انتجته صراعات قوى السلطة، وما حققته المعارضة من نتائج تفتح أمام اللبنانيين أفق ارتياد المزيد من الخطوات التغييرية في حال توافرت شروطها الذاتية، بالنظر إلى تراكم ظروفها الموضوعية من خلال ما يعانيه لبنان من تراكم أزمة نظامه الطائفي على مختلف الصعد والمستويات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية. وهنا نص البيان:
السياق العام للانتخابات:
تكمن أهمية الانتخابات النيابية ونتائجها في أنها جرت في ظل تصاعد أزمة نظام الطائف القائم على المحاصصة الطائفية، وتزايد حدة الانقسام الاهلي حول هوية وموقع البلد ومضاعفات مأزق قواه، وانفلات صراعاتها وسط اصرار منها على ربطها مشكلات الكيان الموروثة وأزماته المستجدة، على نحو محكم بأوضاع المنطقة، التي تشهد احتداماً للمنازعات بين المحاور الاقليمية والدولية فيها وعليها بإدارة أميركية، واستمراراً التدخلات المباشرة في شؤونها الداخلية، تسعيراً لأزماتها وحروبها الأهلية المستمرة، ما يضع مجتمعاتها وكياناتها الوطنية أمام تحديات مصيرية.
إن التحضير للانتخابات حصل بالتزامن مع تزايد مستويات الفساد السياسي، ومفاعيل الانهيار الاقتصادي والمالي وبلوغ معدلات الفقر والبطالة ذرىً غير مسبوقة عالمياً، مقابل شلل مؤسسات الحكم وأجهزة الدولة، وعجزها عن القيام بالحد الأدنى من واجباتها. إن تباين التقديرات حول تعطيل الانتخابات، والشكوك حول مصيرها عززهما أداء قوى السلطة، التي لا مصلحة لها في حصولها خوفاً من نتائجها وانعكاساتها على صعيد توازنات الحكم. ولذلك تعددت ذرائع التعطيل وطال الخلاف موعدها، وكثرت النزاعات الدستورية حول صيغة اقتراع المغتربين والشؤون الادارية المتعلقة بآليات العملية الانتخابية. مما كان له آثار سلبية نالت من حماس اكثرية اللبنانيين خصوصاً الفئات المتضررة. لكن تصاعد الضغوط الخارجية الاميركية والاوروبية والمؤسسات الدولية والمطالبة المحلية حسمت بحصولها في موعدها.
لقد تعاملت قوى السلطة مع الانتخابات باعتبارها أمراً واقعاً، ولم تتردد، سعياً منها لضمان تحقيق أهدافها، في استعمال كل اسلحتها في السياسة والاقتصاد ومؤسسات الدولة والمال والأمن. ولذلك جرى استحضار العصبيات الطائفية والمذهبية لتضليل اللبنانيين وتحشيدهم، إلى جانب توظيف المفاوضات مع العدو الاسرائيلي لترسيم الحدود البحرية، في موازاة تصعيد الاستقواء والارتهان للخارج والامعان في تبادل تهم التآمر والتخوين لتزخيم معاركها الانتخابية على رافعة المواقف من سلاح حزب الله، بين من يرى فيه سلاحاً للدفاع عن لبنان فيما هو يحمي منظومة الفساد، ومن ينسبهما للاحتلال الايراني من دعاة طلب السيادة من الخارج. كذلك حضر سلاحا المال والاعلام بابشع صورهما للتغطية على كل اشكال الفساد السياسي، تحريضاً وتضليلاً وتسويقاً لادعاءات البراءة، وتبريراً للتحلل من المسؤولية الوطنية والمهنية، واستغلالاً لمعاناة اكثرية اللبنانيين من أجل أخضاعهم خلافاً لإرادتهم ومصالحهم وحقوقهم.
إن تشكيل لوائح قوى السلطة في ضوء تعقيدات قانون الانتخاب التي تطعن بديمقراطيته، قد حكمتها التحالفات الملغومة لضمان حصصها وحماية مواقعها وتصفية الحسابات بينها، ومحاسبة من تجاوز الخطوط الحمر وهو يحاول الاخلال بميزان القوى القائم بقوة الاعتراض والاحتجاج، سواء عبر الاستنكاف عن المشاركة في الحكم، أو المواجهة مع أقرانه من أهل السلطة، والمراهنة على تبدل التوازنات الخارجية في الاطارين المحلي والاقليمي.
أما المعارضة المستقلة فقد احتشد في صفوفها كل الاحزاب الموروثة من خارج السلطة، والمجموعات والتيارات الوافدة إليها من ساحات انتفاضة تشرين، والناشطين حول قضايا مهنية أو مناطقية وحقوق فئات اقتصادية واجتماعية متضررة. لكن تلك القوى التي لم تفلح في بناء أطر تنسيق واضحة المعالم والتوافق على برنامج الحد الأدنى للانقاذ. ولذلك اندفعت لخوض الانتخابات وسط خلل فادح في موازين القوى لمصلحة أحزاب السلطة وتياراتها. أما تعدد انتماءاتها الايديولوجيه وتنوع توجهاتها الفئوية وتباين برامجها واستهدافاتها وادواتها النضالية، فقد عطل امكانية تجاوزها حالة التفكك والتشرذم، وحال دون انتظام مرشحيها في لوائح.
لم يكن مفاجئاً ان تتعامل بعض قوى ومجموعات المعارضة مع الاستحقاق الانتخابي، باعتباره الحل السحري لمشكلات البلد، ولذلك اتسم التحضير له بالتنافس والتسابق على الترشح، وتشكيل ائتلافات مناطقية هجينة، استهدفت تجميع قواها مدخلاً للبحث في امكانية تشكيل لوائح انتخابية موحدة. لكن اصرار بعض المجموعات على اختزال المعارضة، والتفرد في تشكيل اللوائح أوفرض شروطها، في ظل هامشية بنيتها وهشاشة الموقع الاجتماعي، أدى إلى اضعاف التاييد للوائحها الاساسية وتراجع التصويت لها. ما يبرر طرح الكثير من الأسئلة حول اهداف تلك المجموعات، وخلفيات تضخيم ادوارها. أما ضعف القدرة الإدارية والمالية للوائح المعارضة، فقد سهَّل استباحة بعضها من قبل المنصات التي تحيط بأهدافها ومصادر تمويلها الكثير من علامات الاستفهام.
المعركة الانتخابية
لقد أكدت مجريات المعركة الانتخابية قدرة احزاب السلطة على استباحة القانون، ومخالفة كل القواعد الناظمة لها على نحو سافر، وتوظيفها أجهزة الدولة ومؤسساتها لخدمتها وتسهيل تماديها في استغلال تعدد لوائح المعارضة وضعف إمكانات مرشحيها وتنافسهم للتفوق على زملائهم.
رغم ذلك كله، فإن المحصلة الاجمالية لنتائج الانتخابات، لم تتوافق مع ما سعت له اطراف السلطة. فمن ناحية أولى فشل حزب الله في الحفاظ على الأكثرية النيابية التي كانت له في انتخابات العام 2018. صحيح أنه نجح في حصر تقاسم تمثيل الطائفة الشيعية مع حركة أمل، التي تدنت نسبة التصويت لها. كذلك نجح الحزب في انجاز أولوية دعم التيار الوطني الحر لترجيح مرشحيه، وضمان الحد من خسائره المتوقعة في الدوائر المختلطة. غير أنه عجز عن حماية حلفائه من رموز الوصاية السورية الذين تمت الاطاحة بهم.
في المقابل ورغم ارتفاع نسبة التصويت للقوات اللبنانية، وباستثناء تحالفها الانتخابي مع الحزب الاشتراكي في الجبل، فإنها فشلت في فك العزلة عنها، ولم تفلح في تحقيق ما كانت تصبو له من طموحات غير مشروعة، بأن تكون الكتلة المسيحية النيابية والشعبية الأكبر. وبينما تراجع تمثيل المردة في عرينه لمصلحة المستقلين، الذين فاز عدد منهم على لوائح مشتركة في اكثر من دائرة. فإن الحزب التقدمي الاشتراكي نجح في تحصين مواقعه، وهزيمة خصومه التاريخيين في تمثيل الطائفة الدرزية. كما تمكن حزب الكتائب من تحقيق مكاسب محدودة.
في المقابل وامام فشل محاولات تشكيل مرجعية سنية بديلة لاستدراك مفاعيل مقاطعة تيار المستقبل، فإن محصلة الانتخابات انتجت تمثيلاً تعددياً يتعذر التنسيق بين مكوناته جراء تباين التوجهات السياسية، بين نواب صيدا المستقلين، أو الذين فازوا على لوائح المعارضة، مروراً بنواب تنظيمي الاحباش والجماعة الاسلامية، والنواب المنضوين في كتلتي حركة امل وحزب الله، أو المحسوبين على محور الممانعة. ما يعكس أزمة موقع الطائفة في توازنات السلطة وإعادة تشكيل المؤسسات الدستورية في المرحلة المقبلة.
أما فوز مرشحي المعارضة في العديد من الدوائر فقد أتى مخالفاً لكل التوقعات. ورغم أن اطراف السلطة استهانت بانتفاضة اللبنانيين واحتجاجاتهم وحقوقهم، فإن قطاعات واسعة من المتضررين شاركت في التصويت للوائح المعارضة، ومعها شرائح وازنة في جميع المناطق من جيل الشباب الطامح للتغيير وللمشاركة في الحياة السياسية. يضاف إليهم التصويت الاغترابي المهم، خصوصاً من الأجيال الشابة، التي دُفعت قسراً للهجرة، بحثاً عن فرص عمل ومصادر عيش.
ورغم تعذر اغفال التصويت العقابي للوائح السلطة الذي عكسته الاوراق البيضاء والمُلغاة. إلا أن العامل المساعد الذي ساهم في رفع عدد اصوات لوائح المعارضة ومن فاز منها، قد تمثل بحدة المعارك الطاحنة بين اطراف السلطة في سائر الدوائر، خاصة التصويت الانتقامي غير المتوقع من قبل تيار المستقبل على نحو غير معلن. والذي ساهم في اسقاط جميع المرشحين الذي لم يلتزموا بقرار قيادته مقاطعة الانتخابات. وفي موازاته يقع تصويت الجمهور الاشتراكي الشبابي الذي استهدف خصوم الحزب، الذين مارسوا عدائية مفرطة ضده، تجاوزت الخطوط الحمر في الصراع على تمثيل الطائفة، عبر الالتحاق والاستقواء بقوى الهيمنة ومحور الممانعة الاقليمي.
المنظمة والانتخابات
شكلت مشاركة المنظمة في الانتخابات اختباراً لصواب قراءتها وتوجهاتها ولصحة المواقف التي حكمت علاقتها مع سائر مجموعات المعارضة وقواها، خاصة أن أداء رفاق المنظمة اتسم بالنزاهة السياسية، والايجابية في مواجهة اشكاليات العلاقات بين مكوناتها. وكانت من اكثر الاطراف مبادرة لتشكيل ائتلافات جبهوية لخوض الانتخابات في مناطق تواجدها، واشدها التزاماً بالوجهة التوحيدية لقوى المعارضة، وبذلاً للجهد لتشكيل لوائح موحدة. ما ساهم في تعزيز حضور المنظمة السياسي والنضالي، ومكَّن الرفاق المعنيين من إدارة اوسع العلاقات مع سائر الاطراف والمرشحين. أما ترشّح أحد قياديي المنظمة على لائحة المعارضة في دائرة البقاع الغربي وراشيا فقد شكل تجربة مهمة لها وكانت نتائجها واصداؤها ايجابية، كذلك دعمها لمرشحين ديمقراطيين ومستقلين في سائر الدوائر.
إن مشاركة المنظمة في الانتخابات وضعتها امام تحديات استخلاص دروسها للإفادة منها واستمرار العمل لتعزيز امكاناتها، وتطويرها مستقبلاً على نحو يؤهلها لخوض جميع معارك النضال الديمقراطي، بما فيها الانتخابات. وهذا يستدعي تحصين ما ارسيناه واستعدناه من علاقات مع الاوساط الديمقراطية، والمجموعات الناشطة وخاصة الشبابية منها، وايلاء اهتمام خاص بأوضاع المغتربين والعلاقات معهم نظراً لأهمية دورهم الوطني، والسعي لتكريس وتطوير اطر العمل المشترك حول قضايا المناطق والقطاعات الاجتماعية، إلى جانب اشراك النواب المنتخبين في انشطتها.
ترى منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني أن المعطيات التي رافقت الانتخابات النيابية ونتائجها، قد برّزت مخاطر تصعيد الانقسام الاهلي وأكلاف الكوارث المتراكمة والمشكلات المدمرة التي يواجهها اللبنانيين وسط تسارع واتساع حالة الفوضى العارمة التي تجتاح البلد من شتى بواباته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية. كما ظهَّرت احتدام أزمة النظام وعجزه ومأزق قواه وخطورة سياساتها، التي لا تقيم وزناً لمصالح البلد وحقوق اللبنانيين ومستقبلهم، واصرارها على تغليب مصالحها الفئوية الضيقة، للتغطية على ممارساتها وتبرير خياراتها ورهاناتها الخارجية، ما يضع البلد أمام خطر انفجار الصراعات حول موقعه وهويته، والاطاحة بالاستحقات الدستورية الداهمة في غمرة انفلات الازمات الناجمة عن الانهيار الشامل والدفع به نحو المجهول. هذا ما بدأ اللبنانيون يشهدون طلائعه قبل أن يكتمل صدور نتائج الانتخابات. وما يزيد الوضع خطورة، استمرار القدرة التعطيلية لحزب الله وسواه، والاصرار على ربط أوضاع البلد بمجرى تأزم المفاوضات الاميركية مع ايران حول دورها الاقليمي.
لقد انتهت الانتخابات ولم يكن مفاجئاً للبنانيين والخارج أن يتنافس اطراف السلطة على تنظيم مهرجانات الانتصار، والتباري في استعراض الحشود وتقديم الحيثيات والإحصاءات لتبرير ادعاءاتهم، وتجديد رهاناتهم على الخارج وإدارة الظهر لأوضاع البلد ومآسي أكثرية مواطنيه. رغم ذلك فإن نتائج الانتخابات قد أكدت بما لا يقبل الجدل أن التغيير في لبنان ليس مستحيلاً، وأن اللبنانيين قادرون على تحقيقه، وأنهم على استعداد للدفاع عن حقوقهم، والنضال في سبيل مطالبهم وانقاذ وطنهم وبناء الدولة التي تعبر عن طموحاتهم وتضمن مستقبل اجيالهم.
وعليه، إن قوى المعارضة المستقلة معنية بمطالبة ودعوة النواب الديمقراطيين والمستقلين، وكل الحريصين على انقاذ لبنان دون استثناء، أن يتحملوا مسؤولياتهم، وتنظيم اطر التواصل والتنسيق بينهم على الصعيدين الوطني والمناطقي، سعياً منهم لإعادة الاعتبار للعمل النيابي المتصل بقضايا الوطن وهموم مواطنية. كذلك فإن تلك القوى مطالبة ببذل كل الجهود المتاحة، من أجل تشكيل حركة معارضة ديمقراطية تعددية مستقلة، تتجاوز ما كان بين مكوناتها من صراعات وخلافات في محطات سابقة من تاريخ البلد. وذلك في سبيل التوافق على برنامج الحد الادنى القادر على تحشيد واستقطاب كل الفئات المتضررة، واصحاب المصلحة في مواجهة سياسات المحاصصة والفساد السياسي والمالي والإرتهان لمصالح الخارج، إنقاذاً للبلد والعمل على بقائه كياناً وطنياً يستطيع السيطرة على أزماته ومعالجة مشكلاته، بديلاً عن الاكتفاء بانتظار تعليمات الخارج وبعيداً عن الإستقواء به.
بيروت 6 حزيران 2022
المكتب التنفيذي لمنظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني
Leave a Comment