على مدى العقود الأربعة الماضية، حافظت قلة من البلدان على تطلعات أوضح أو أكثر اتساقاً، مما امتلكته إيران. منذ عام 1979، حينما حوّل الثوار الإسلاميون البلاد من نظام ملكي متحالف مع الولايات المتحدة إلى نظام ثيوقراطي [السلطة المستندة إلى الدين في شرعيتها وقوانينها] معادٍ بشدة لأميركا، سعت طهران إلى طرد الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، واستبدال إسرائيل بفلسطين، وإعادة تشكيل المنطقة على صورتها. وخلافاً لاستراتيجية الولايات المتحدة تجاه إيران والشرق الأوسط الكبير، التي تغيرت بشكل ملحوظ مع الإدارات المختلفة، أظهرت الاستراتيجية الإيرانية تجاه الولايات المتحدة والشرق الأوسط استمرارية ملحوظة. في الواقع، لم تحقق طهران أياً من طموحاتها الكبيرة، لكنها أحرزت تقدماً نحوها، وقد تشجّعت وأصبحت أكثر جرأة بسبب نجاحاتها الأخيرة.
وخلال العقدين الماضيين، رسّخت إيران سيطرتها في العراق ولبنان وسوريا واليمن، الدول الأربع المنهارة، أو في طريقها إلى الانهيار، التي تشكل ما يسمّيه المسؤولون الإيرانيون بـ”محور المقاومة” الخاص بهم. وفعلت ذلك من خلال نجاحها في زرع وتعزيز الميليشيات الإقليمية، على غرار “حزب الله” في لبنان والحوثيين في اليمن، واستغلال فراغ السلطة الذي خلّفه الغزو الأميركي للعراق عام 2003 والانتفاضات العربية في 2010 و2011. في المقابل، لم تُظهِر الولايات المتحدة، أو خصوم إيران الإقليميين الإرادة أو القدرة على تحدي موطئ قدم طهران الثابت في تلك البلدان.
وبطريقة موازية، عملت إيران أيضاً على مفاقمة عدد من التحديات الأخرى التي تواجه الأمن القومي الأميركي، بما في ذلك انتشار الأسلحة النووية والحرب الإلكترونية والإرهاب وانعدام أمن الطاقة والصراعات في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن والصراعات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وعلى الرغم من أن طهران وواشنطن واجهتا عدداً من التهديدات المشتركة منذ عام 1979، بما في ذلك الاتحاد السوفياتي والعراق تحت حكم صدام حسين، وتنظيم “القاعدة” وحركة “طالبان” وتنظيم “داعش”، إلا أن محاولات الولايات المتحدة الرامية إلى إقناع إيران، أو الضغط عليها لتغيير المسار بشكل متكرر فشلت.
في المقابل، مثل لاعب كمال الأجسام الذي يعاني من خلل في الأعضاء، تُظهر إيران نشاطاً خارجياً يخفي أمراضاً داخلية مستعصية تماماً. في ذلك السياق، يُعرِّف المؤرخ جون لويس غاديس الاستراتيجية الكبرى بأنها “توافق بين تطلعات غير محدودة على الأرجح، وقدرات محدودة بالضرورة”. في الواقع، استثمرت إيران ما يفوق قدراتها المحدودة في تطلّعها لقلب النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، أكثر من أي دولة أخرى في العالم، بما في ذلك الصين وروسيا. وإذ فعلت إيران ذلك، فقد أهملت رفاهية شعبها وجعلت نفسها أكثر فقراً وأقل أماناً. علاوة على ذلك، إن الهوّة بين تطلعات إيران وقدراتها تعني أنها ستستمر في استنزاف الموارد الوطنية من أجل دعم الميليشيات الإقليمية والصراعات الخارجية، ما يعمق الإحباط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي يعانيه الشعب، ويفاقم وتيرة القمع.
على الرغم من خيبة الأمل التي أحدثتها الثورة الإيرانية، إلا أنها لم تضعف مع مرور الوقت، إذ إن آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى للبلاد البالغ من العمر 82 سنة، هو واحد من أكثر المستبدين المعمرين في مناصبهم في العالم، وأكثرهم تزمتاً. منذ أن أصبح المرشد الأعلى عام 1989، وهي آخر مرة غادر فيها البلاد، هزم خامنئي بمهارة أربعة رؤساء إيرانيين، وقمع بوحشية انتفاضات اجتماعية عدة، ونشر القوة الإيرانية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وصمد أمام جهود ستة رؤساء أميركيين ترمي إلى تهميشه أو التعامل معه أو الضغط عليه. لم يلتقِ قط بمسؤول أميركي وجهاً لوجه، ومنع حتى الآن الدبلوماسيين الإيرانيين من التحدث إلى نظرائهم الأميركيين خلال المفاوضات الجارية حول إحياء الاتفاق النووي لعام 2015. ومن أجل إدارة أقوى مؤسسات النظام، اختار بعناية زملاءه المتشددين “المبدئيين” الذين أطلق عليهم هذا الاسم بسبب ولائهم لمبادئ الثورة.
وتجدر الإشارة إلى أن الدافع وراء التزام خامنئي المبادئ الثورية الإيرانية هو غريزة البقاء. على غرار كثير من الأنظمة الديكتاتورية، تواجه إيران معضلة إصلاحية، إذ يتوجّب عليها أن تنفتح وتتأقلم من أجل البقاء، بيد أن ذلك يمكن أن يدمرها. على خلاف الثوار الإيرانيين الأكثر براغماتية كالرئيسين السابقين أكبر هاشمي رفسنجاني وحسن روحاني، اللذين فضّلا انفتاحاً اقتصادياً على الطريقة الصينية والتقارب مع الولايات المتحدة، خلص خامنئي منذ فترة طويلة إلى أن التخلي عن مبادئ الثورة، بما في ذلك معارضتها للولايات المتحدة وإسرائيل، سيكون بمثابة استخدام مطرقة ثقيلة لتدمير ركائز المبنى. في ذلك الصدد، إن انهيار الاتحاد السوفياتي الذي يعتقد خامنئي أنه تسارع بسبب إصلاحات سياسة الانفتاح والشفافية (غلاسنوست) التي التزمها الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، قد أقنعه أكثر بحكمة تحذير أليكسيس دي توكفيل من أن “أكثر اللحظات خطورة بالنسبة إلى حكومة سيئة هي تلك التي تسعى فيها إلى إصلاح أساليبها”.
وعلى الرغم من أن إنهاء حربهما الباردة التي دامت أربعة عقود سيخدم مصالح إيران والولايات المتحدة معاً، إلا أن واشنطن لن تكون قادرة على التوصل إلى تسوية سلمية مع نظام إيراني ترتكز هويته على معارضة الولايات المتحدة، ويعتقد زعيمه أن تخفيف تلك المعارضة يمكن أن يكلفه كل شيء. وبطريقة موازية، لا توجد حلول سريعة، سواء في شكل تفاعل أكبر من قبل الولايات المتحدة أو حدوث زيادة في ضغوطها، يمكنها أن تغيّر بسرعة طبيعة العلاقة الأميركية الإيرانية أو النظام الإيراني. لهذا السبب، على الولايات المتحدة التعامل مع إيران مثل أي خصم آخر، بمعنى اعتماد التواصل من أجل تجنب الصراع والتعاون عند الإمكان والمواجهة عند الضرورة والاحتواء مع الشركاء.
الأيديولوجيا قبل الأمة
على غرار حضارات قديمة عدة شهدت انتصارات ضخمة ومذلّات كبرى، تشعر إيران بالثقة بالنفس وفي الوقت ذاته تعاني من تزعزع كبير في تلك الثقة. ثمة شبه توافق على أن الإمبراطورية الفارسية القديمة شكّلت أول قوة عظمى في العالم. في المقابل، على مدى قرون قبل عام 1979، انتهكت القوى الأجنبية أراضي إيران وسيادتها. بين عامي 1813 و1828، استولت الإمبراطورية الروسية بالقوة على مناطق شاسعة في القوقاز من بلاد فارس على أيام حكم سلالة ملوك القاجار. عام 1946، احتلت القوات السوفياتية مقاطعة أذربيجان الشمالية الغربية الإيرانية وسعت إلى ضمها إليها، لكنها طُردت بفضل جهود الرئيس الأميركي هاري ترومان. بعد سبع سنوات، عام 1953، دبرت المملكة المتحدة والولايات المتحدة انقلاباً أطاح رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق.
استناداً إلى ذلك التاريخ، يعتقد عدد من الإيرانيين، بغض النظر عن سياساتهم، أن القوى العظمى تريد الحؤول دون ازدهار بلدهم واستقلاله. وعلى غرار كثير من الأنظمة الديكتاتورية، تستغل إيران ذلك التاريخ في تبرير قمعها الداخلي وطموحاتها الخارجية. وفي ذلك السياق، يوصف المتظاهرون السلميون ونشطاء الحقوق المدنية والصحافيون، دوماً بأنهم عملاء أجانب ويتعرّضون للعنف والسجن. في المقابل، تدافع إيران عن طموحاتها النووية وإنشائها الميليشيات الإقليمية التي تنتهك بشكل صارخ سيادة جيرانها العرب، باعتبارها حقاً راسخاً وشكلاً من أشكال المقاومة ضد الإمبريالية الأجنبية.
منذ نشأة نظام طهران الثوري، وضع تطلعاته الأيديولوجية فوق ازدهار الشعب الإيراني وأمنه. بالتالي، اتخذ ذلك النظام بشكل روتيني قرارات تضر بشدة بالمصالح الوطنية للبلاد، على غرار إطالة أمد حربه المدمرة التي دامت ثمانية أعوام مع العراق في ثمانينيات القرن العشرين من أجل تعزيز القوة الداخلية. وجاء مثل آخر في الآونة الأخيرة، متمثلاً في قرار حظر لقاحات كورونا من الولايات المتحدة وسط جائحة عصفت بإيران (بعد الآلاف من وفيات كورونا التي يمكن الوقاية منها، أُلغي الحظر بهدوء).
واستطراداً، لا يوجد بلد في الشرق الأوسط لديه المزيج الذي تملكه إيران من الحجم الجغرافي ورأس المال البشري والتاريخ القديم والموارد الطبيعية الهائلة. في المقابل، بدلاً من استفادة إيران من تلك الهبات كي تصبح قوة اقتصادية عالمية أو تعزز مصالحها الوطنية، عمدت إلى بناء سياستها الخارجية على ركيزتين هما مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل. وباستخدام ثلاث أيديولوجيات متميزة، متمثّلة في معاداة الإمبريالية والطائفية الشيعية والقومية الإيرانية، نجحت في تنمية شركاء متنوعين في جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه، واستخدمتهم كوكلاء ضد أعدائها.
في الواقع، تتجسّد الرؤية المثالية لطهران في شرق أوسط لا وجود فيه للولايات المتحدة، واستفتاء شعبي يجعل إسرائيل دولة فلسطينية، إضافة إلى تحوّل الثيوقراطية الخمينية إلى مصدر إلهام لقلوب العرب والمسلمين وعقولهم. بيد أن تلك الرؤية بعيدة كل البعد من أن تصبح حقيقة. على الرغم من الانسحاب العسكري من أفغانستان والعراق، تحتفظ الولايات المتحدة بما يتراوح بين 45 ألف و65 ألف جندي في الخليج العربي، في الغالب لردع إيران. في المقابل، أصبحت إسرائيل مركزاً تكنولوجياً عالمياً أكثر اندماجاً في العالم العربي من أي وقت مضى، خصوصاً الآن بعد أن طبّعتْ العلاقات مع البحرين والمغرب والإمارات العربية المتحدة. وفي ذلك الصدد، إن النموذج الذي يطمح إليه معظم العرب يتمثّل في دولة الإمارات العربية المتحدة الليبرالية على الصعيد الاجتماعي، والمندمجة بشكل تكاملي مع المجتمع العالمي، والمزدهرة اقتصادياً، وليس إيران الخمينية.
وعلى الرغم من ذلك، تُعتبر إيران أقرب إلى تحقيق رؤيتها مما كانته قبل عقد من الزمان. في ذلك الوقت، امتلكت الولايات المتحدة قرابة 200 ألف جندي في أفغانستان والعراق. أما الآن، فقد أصبح العدد 2500. في هذه الأثناء، تعمل الحكومات العربية على تطبيع العلاقات مع الزعيم السوري بشار الأسد الذي كان مهزوماً ويدين بحياته للدعم الإيراني. وإضافة إلى “حزب الله” في لبنان ومختلف الميليشيات الشيعية في العراق، يمكن لإيران أن تعتبر الحوثيين في اليمن حلفاء مخلصين مستعدين لشن هجمات ضد خصومهما المشتركين.
محور البؤس
يُعزى نجاح إيران في الشرق الأوسط إلى الانتهازية بقدر ما يُعزى إلى العزيمة. في الواقع، خلقت الحرب الأهلية اللبنانية والغزو الأميركي للعراق والانتفاضات العربية فراغات في منظومة القوى ملأتها إيران بشبكتها من الميليشيات الأجنبية، التي يبلغ مجموع صفوفها الآن ما بين 50 ألف و200 ألف مقاتل. بعبارة أخرى، تدور حكاية الشرق الأوسط الحديث حول الضعف العربي أكثر منه حول القوة الإيرانية، إذ إن الفوضى العربية سهلت الطموحات الإيرانية، والطموحات الإيرانية فاقمت الفوضى العربية.
وتجدر الإشارة إلى أن جوهرة تاج الثورة الإيرانية هي “حزب الله”. تأسست المجموعة عام 1982، بعد الغزو الإسرائيلي للبنان، وكانت رائدة في الاستراتيجية التي تبنّتها إيران لاحقاً مع وكلاء آخرين. وتضمنت تلك الاستراتيجية شن هجمات مميتة ضد القوات الأميركية في الشرق الأوسط من أجل قلب الرأي العام الأميركي، وإضعاف عزيمة الولايات المتحدة. في أكتوبر (تشرين الأول) 1983، شنّ [حزب الله] هجوماً على قوات حفظ سلام متعددة الجنسيات باستخدام شاحنات مفخخة، ما أسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص أثناء نومهم، بما في ذلك 241 جندياً أميركياً. واحتفلت إيران و”حزب الله” بالهجوم، لكنهما نفيا مسؤوليتهما الرسمية. وبعد أربعة أشهر، بدأت إدارة ريغان بسحب القوات الأميركية من لبنان.
حاضراً، يشكل “حزب الله” أقوى قوة في لبنان. يغتال خصومه السياسيين ومنتقديه ويفلت من العقاب، وكذلك، يدير اقتصاده السري، ويملك أكثر من 100 ألف صاروخ وقذيفة قادرة على ضرب إسرائيل، وفق ما يرِد في تقارير عدة. إضافة إلى ذلك، يدين خصومه اللبنانيين فيصفهم بالخونة، وفي المقابل لم يعُد يدّعي حتى مجرد استقلاله عن إيران. وفي سياق متصل، أورد حسن نصر الله، زعيم “حزب الله” في خطاب ألقاه عام 2016، “نحن منفتحون على حقيقة أن موازنة حزب الله ودخله ونفقاته وكل ما يأكله ويشربه وأسلحته وصواريخه من إيران”. وتابع، “ما دامت إيران تملك المال، فلدينا المال. ونحن نتلقّى أموالنا مثلما نتلقى الصواريخ التي نستخدمها لتهديد إسرائيل”.
واستكمالاً، اتبعت إيران نهجاً مشابهاً من أجل تحويل العراق إلى جحيم بالنسبة إلى الولايات المتحدة، خوفاً من أن تخطط واشنطن لاستخدام عراق ديمقراطي ناجح كمنصة لتخريب إيران أو تهديدها. وهكذا، استخدمت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران عبوات ناسفة لإحداث ما يصل إلى 1000 ضحية أميركية. وخلافاً للولايات المتحدة التي كانت مثقلة بمهمة إعادة بناء العراق، لم تسعَ طهران إلا لإحباط جهود واشنطن. ووفق ما نقله قيس الخزعلي، زعيم الميليشيا الشيعية المدعومة من إيران في العراق، إلى محققين عسكريين أميركيين، تنفق الولايات المتحدة “المليارات” على الحرب، بينما تنفق إيران “الملايين”، وعلى الرغم من ذلك تُعتبر إيران أكثر فاعلية. حاضراً، تشكّل الميليشيات الشيعية الإيرانية أقوى قوة قتالية ومافيا مفترسة في العراق، وتعمل في الوقت ذاته على زيادة ثروتها وتأمين مصالح إيران في البلاد.
واستطراداً، لعبت إيران وميليشياتها دوراً حاسماً في منع انهيار نظام الأسد الوحشي في سوريا، الحليف الحكومي الوحيد لطهران في المنطقة. في الواقع، إن ما بدأ كشراكة تكتيكية ضد عراق صدام في الثمانينيات، دعمته الكراهية المشتركة تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل وغرائز البقاء المشتركة. وعلى الرغم من الجهود المتجددة التي بذلتها الدول العربية لاستدراج الأسد بعيداً من طهران، تعتمد الحكومتان الآن على بعضهما البعض، إذ يحتاج الأسد إلى أموال إيران وسلاحها، وتحتاج طهران إلى الأراضي السورية كجسر لـ”حزب الله” وموقع عسكري ساحلي ضد إسرائيل. في عام 2017، ذكرت “هيئة الإذاعة البريطانية” (بي بي سي) أن إيران كانت تبني “قاعدة عسكرية دائمة” في سوريا كجبهة إضافية ضد الدولة اليهودية.
وعلى الرغم من الادعاءات الأخلاقية الصادرة عن إيران الثيوقراطية، تحوَّل وكلاء إيران تحت الإكراه الاقتصادي، نحو الاقتصاد غير المشروع بشكل متزايد من أجل تنمية ثرواتهم. وحاضراً، يُعتبر الكبتاغون أكثر الصادرات قيمة بالنسبة إلى الحكومة السورية التي تعاني من ضائقة مالية، وهو عقار غير قانوني مشتق من مادة الـ”أمفيتامين” [تعمل في الدماغ على مراكز التحفز والتأهب والشعور بالسعادة، ويزيح أحاسيس الكآبة والإحباط]، ينهض “حزب الله” بأمر تهريبه على مستوى العالم بدعم ضمني من طهران. إذاً، أصبحت الحكومة الإيرانية، التي أعدمت الآلاف من مواطنيها لارتكاب جرائم مخدرات، الزعيم الفعلي لواحدة من أكبر شبكات تهريب المخدرات في العالم.
وأخيراً، أضافت طهران اليمن إلى قائمة الدول التي تمارس فيها نفوذاً كبيراً من خلال الميليشيات التي تعمل بالوكالة عنها. في الواقع، تزوّد إيران الحوثيين، الذين استولوا على السلطة في صنعاء عام 2014، بالأسلحة وأشكال أخرى من الدعم، ويُقال إن تمويلهم يأتي جزئياً من خلال البيع غير المشروع للمخدرات. وقد ثبُت أن هذه وسيلة منخفضة التكلفة تعتمدها طهران لإلحاق أضرار مادية هائلة، وكذلك بهدف الإضرار بسمعة المملكة العربية السعودية. في ذلك الصدد، إن حكم الحوثيين غير المتسامح وشعاراتهم الاستفزازية التي تتمنى الموت لأميركا وإسرائيل واليهود وأتباع الديانة البهائية [مذهب ظهر في إيران في منتصف القرن التاسع عشر، ويعطي صفة إلهية لمؤسس المذهب، بهاء الدين، والقادة من بعده]، يعبّر عن أيديولوجيا رعاتهم الإيرانيين. وسعت المجموعة لأن تفعل بالسعودية ما فعلته “حماس” و”حزب الله” منذ فترة طويلة بإسرائيل، لكن من خلال استخدام طائرات مسيّرة دقيقة، وتقنيات أخرى من القرن الحادي والعشرين، بدلاً من الصواريخ القديمة والعمليات الانتحارية.
واستطراداً، تعلمت إيران، بصفتها الدولة الثيوقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، أن تُسَخِّر الراديكالية الإسلامية السنية والشيعية على حد سواء، بشكل أفضل من أي من أقرانها. ومن بين الأسباب التي جعلت طهران تتفوق على منافسيها من العرب السنة أن جميع الراديكاليين الشيعة تقريباً على استعداد للقتال من أجل إيران، في حين أن معظم الراديكاليين السنة، بما في ذلك “القاعدة” و”داعش”، يعارضون الحكومات العربية الحاكمة. في الواقع، يتمثّل المعيار الأعلى لطهران بالنسبة إلى التحالفات الاستراتيجية، في الأيديولوجيا وليس الدين، بحسب ما يتضح من علاقاتها الوثيقة مع الجماعتين السنيتين الراديكاليتين “حماس” و”الجهاد الإسلامي الفلسطيني”، اللتين منحتهما مليارات الدولارات لمحاربة إسرائيل. في مقابلة أُجريت في 2021 مع موسى أبو مرزوق، مسؤول في “حماس” يشعر بالامتنان حيال طهران، أورد أن “إيران من أكثر الدول التي تساعد حماس. إنها الدولة الوحيدة التي تتجاهل القيود المفروضة على حماس. وتساعدنا عسكرياً في التدريب والأسلحة والخبرة”.
في ذلك الصدد، بلغ الأمر حدّاً عملت معه طهران من حين لآخر مع الأصوليين السنة، بما في ذلك تنظيم “القاعدة” وحركة “طالبان”، الذين يهاجمون بانتظام الإخوان الشيعة في إيران، إذ يعتبرونهم زنادقة. بالتالي، فبدلاً من إعطاء الأولوية للمصالح الوطنية الإيرانية، تستند الاستراتيجية الكبرى لإيران إلى تسلسل هرمي للعداء، بمعنى أن أي عدو للولايات المتحدة وإسرائيل يكون شريكاً محتملاً لطهران. ووفق كلمات خامنئي في 2021، “سندعم ونساعد أي أمة أو أي مجموعة في أي مكان تعارض وتحارب النظام الصهيوني، ولا نتردد في قول ذلك”.
النجاح يولد الغطرسة
إن ما بدأ كثورة ضد فساد وقمع الشاه محمد رضا بهلوي، أصبح الآن فيلقاً إسلامياً أجنبياً متورطاً في ما ارتكبه بنفسه من قمع سياسي واغتيالات واحتجاز رهائن وفساد اقتصادي وتهريب مخدرات. على الرغم من نجاح إيران في إنشاء الجماعات المسلحة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، إلا أن هناك دلائل ملموسة على أنها تجاوزت حدودها. في الواقع، تظهر استطلاعات الرأي أن حوالى ثلثي الشباب العربي في المنطقة ينظرون الآن إلى إيران على أنها خصم، وفي المقابل، ترغب غالبية كبيرة من العرب من جميع الأعمار بأن تنسحب إيران من الصراعات الإقليمية، فيما يمتلك نصف الشيعة العرب نظرة “سلبية” تجاه إيران. في الأعوام الأخيرة، هاجم المتظاهرون العراقيون القنصليات الإيرانية وأضرموا النار فيها، في النجف وكربلاء، المدينتين المقدستين لدى الشيعة واللتين شكّلتا معقلين إيرانيين قديمين في العراق، بينما نهض الشيعة اللبنانيون باحتجاجات ضد “حزب الله” في مدينة النبطية بجنوب لبنان.
وعلى نحو مماثل، ساعدت المخاوف المشتركة من إيران على ولادة “اتفاقات إبراهام”، وهي اتفاقات التطبيع في 2020 التي منحت إسرائيل موطئ قدم استراتيجي على بعد عشرات الأميال من الحدود الإيرانية. في ذلك السياق، يستمر خامنئي الذي ندد بتلك الاتفاقات ووصفها بأنها “خيانة للعالم الإسلامي”، في التأكيد على أن محنة الفلسطينيين تشكّل أهم قضية في العالم الإسلامي، ويواصل تكريس موارد كبيرة لمقاومة إسرائيل. وأدى دعمه للوكلاء الإقليميين في الأراضي المحتلة وأماكن أخرى، إلى خلق محور بؤس يمتد عبر الشرق الأوسط، إذ لا تزال سوريا واليمن غارقتين في الحرب الأهلية، وكشف استطلاع أجرته مؤسسة “غالوب” أخيراً في لبنان أن 85 في المئة من السكان وجدوا أنه من الصعب تدبير أمورهم، مقابل أكثر من 50 في المئة لا يستطيعون شراء الطعام، و63 في المئة يريدون مغادرة البلاد بشكل دائم.
وفي ذلك الإطار، قد تؤدي سياسات إيران الإقليمية إلى تنفير العرب، لكن من غير المرجح أن تثير رد فعل كبير من الولايات المتحدة. خلافاً للجماعات المتطرفة التي شنت هجمات مباشرة على الأراضي الأميركية، كـ”القاعدة” و”داعش”، إن الثيوقراطيين الإيرانيين الذين يسيطرون على دولة قومية ذات موارد هائلة، بالتالي لديهم الكثير ليخسروه، يستهدفون المصالح الأميركية في الشرق الأوسط باستخدام وكلاء وطائرات من دون طيار، ما يمنحهم درجتين من التباعد [تفيد نظرية شائعة في العصر الرقمي أن أي شخص في الأرض لا يُبعده عن أي شخص آخر سوى ست درجات أو روابط]. علاوة على ذلك، تهدف إيران إلى استخدام نفوذها المهم في الشرق الأوسط من دون تحمّل أي مسؤولية في ما يتعلق بالشوؤن العملية للحكم اليومي. في الواقع، لا يمكن اتخاذ قرار رئيس يتعلق بالأمن القومي في العراق أو لبنان من دون مباركة الميليشيات الشيعية الإيرانية، لكن تلك الميليشيات نفسها لا تتحمل أي مسؤولية في معالجة البطالة أو الفساد أو جمع القمامة. إذاً، تمتلك الميليشيات الإيرانية القوة، فيما تُلقى المسؤولية على الحكومة.
في سياق موازٍ، إن المكان الذي تشكّل فيه الاستراتيجية الكبيرة المتبعة من النظام الإيراني تهديداً لصموده بالذات، يتمثّل في الجبهة الداخلية. مع تدهور الاقتصاد الإيراني، بدأ الإيرانيون بطبيعة الحال التشكيك في سياسات الحكومة، بما في ذلك عداؤها للولايات المتحدة ومغامراتها الخارجية. ومن بين الشعارات التي تُسمع عادة في الاحتجاجات الشعبية في إيران: “إنسوا أمر سوريا، فكروا بنا” و”هم يكذبون أن عدونا هو أميركا، عدونا هنا”. في المقابل، غالباً ما يكون هناك شرطان أساسيان لانهيار النظام الاستبدادي، يتجسّدان بالضغط من الأسفل والانقسامات في الأعلى. على الرغم من أن إيران تشهد اضطرابات شعبية متزايدة، إلا أن قوات الأمن التابعة للنظام تبدو الآن، على الأقل من بعيد، متّحدة ومستعدة للقتل، في حين أن الجماهير الساخطة في البلاد منقسمة وبلا قيادة.
بالتالي، يشير هذا الاستقرار القريب المدى إلى أن الاستراتيجية الكبرى لإيران لن تتغير طالما أن خامنئي هو المرشد الأعلى، ومن المحتمل أن تدوم [الاستراتيجية الكبرى] فترة أطول من فترة حكمه، بالنظر إلى نجاحها الملحوظ. وفي مقلب مغاير، أسهم انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان في تشجيع طهران على محاولة إجبار واشنطن على التخلي عن العراق وقواعدها العسكرية في الخليج العربي. وبالنظر إلى العقوبات المنخفضة نسبياً التي دفعتها إيران مقابل سياساتها الإقليمية، وبالتأكيد بالمقارنة مع التكاليف الهائلة التي تكبدتها طهران على شكل عقوبات وتخريب نتيجة تعنتها النووي، فإنها لا تمتلك سبباً وجيهاً لوقف دعم الميليشيات في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
جبهة موحدة
أربعة عقود من العداء أنتجت ما يعادل حجم مكتبة من الوصفات السهلة لإنهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وإيران. لماذا لا تسعى الولايات المتحدة ببساطة إلى الدبلوماسية، أو تصنع السلام مع إيران، أو تقف إلى جانب الشعب الإيراني لإطاحة النظام؟ في المقابل، ليس من إجابات سهلة عن السؤال الأكثر جوهرية وهو كيف ينبغي لواشنطن أن تتعامل مع خصم يتجنب الحوار المباشر، وتقوم هويته على أساس العداء للولايات المتحدة، ولديه الموارد والعزيمة التي تخوّله زرع الفوضى في جميع أنحاء الشرق الأوسط وقتل الآلاف من مواطنيه للحفاظ على قوته؟
في الواقع، تجدر الإشارة إلى أن الانطباع المُكوّن لدى واشنطن عن إيران عانى النأي عن الواقع والنرجسية الاستراتيجية، على مدار أربعة عقود، إذ يعتقد صُنّاع السياسة أن أيديولوجية إيران الثورية يمكن تعديلها من خلال الانخراط والتعاون الأميركي أو إخمادها من خلال الصلابة الأميركية. كذلك يعتقد عدد من التقدميين أن عناد طهران يشكّل مجرد رد فعل على سياسات الولايات المتحدة العدائية، في حين يفترض عدد من المحافظين أن المصاعب الاقتصادية الأكبر تجبر طهران على الاختيار بين أيديولوجيتها وبقاء النظام. لكن بالنسبة إلى خامنئي، إن الحفاظ على الأيديولوجية الثورية الإيرانية يشكّل غاية في حد ذاتها ووسيلة لضمان بقاء النظام.
وبحسب ما يُذكر في أحيان كثيرة عن روسيا، سعت إيران إلى الأمن من خلال انعدام الأمن لدى الآخرين. ومثلما استغلت إيران الانقسامات الأيديولوجية والطائفية والدينية من أجل كسب نفوذ في الدول الضعيفة، أثبتت أنها بارعة بالمقدار ذاته في استغلال المنافسة بين القوى العظمى. وبالنظر إلى أن واشنطن لا تتمتّع سوى بنفوذ محدود على طهران، إذ إن كل التبادلات التجارية الإيرانية تجري تقريباً مع دول أخرى غير الولايات المتحدة، فالاستراتيجية الفاعلة لاحتواء إيران ومواجهتها ستتطلب بناء إجماع أميركي ودولي.
واستكمالاً، تتمثّل الخطوة الأولى نحو استراتيجية مماثلة [لاحتواء إيران] في تكوين إجماع سياسي داخلي. في الواقع، كان الديمقراطيون والجمهوريون على اتفاق واسع النطاق حول طبيعة النظام الإيراني وتهديداته للأمن الإقليمي، إلى أن جرى توقيع الاتفاق النووي عام 2015. ثم أدّى الاتفاق المذكور الذي رفع العقوبات الأميركية والدولية مقابل التنازلات النووية الإيرانية، إلى استقطاب الجدال السياسي على أسس حزبية، إذ اتهم الجمهوريون إدارة أوباما بالمهادنة، في المقابل، اتهم الديمقراطيون الجمهوريين بأنهم دعاة حرب.
وعلى الرغم من ذلك، إن الخطوط العريضة لاستراتيجية الحزبين تجاه إيران واضحة. قد يعارض الجمهوريون بشدة النظام الإيراني والاتفاق النووي، لكنهم يدركون أيضاً أن ناخبيهم لا يريدون صراعاً أميركياً آخر في الشرق الأوسط. وعلى نحو مشابه، ربما يكون الديمقراطيون داعمين بشكل عام للتواصل مع طهران والعودة إلى الاتفاق النووي، لكن استطلاعات الرأي التي أجراها “مركز بيو للأبحاث” تظهر أن 70 في المئة من الناخبين الديمقراطيين لديهم وجهة نظر “سلبية” تجاه إيران. بعبارة أخرى، هناك أرضية مشتركة كافية بين الحزبين لبناء إجماع حول فهم طبيعة النظام الإيراني بشكل واعٍ، وهو فهم لا يبالغ في التهديد الذي تشكله إيران على الولايات المتحدة نفسها، لكنه لا يقلل أيضاً من التهديد الذي تشكله على مصالح واشنطن وشركائها في الشرق الأوسط.
وفي مقلب مغاير، يُعتبر الإجماع عبر الأطلسي أيضاً أمراً بالغ الأهمية. على مدى العقود القليلة الماضية، سعت الدول الأوروبية بشكل متقطع إلى الحوار مع طهران، وقدمت حوافز اقتصادية، على أمل تلطيف السياسات الإيرانية في أربعة مجالات هي حقوق الإنسان وانتشار الأسلحة النووية والإرهاب والسلام في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من ذلك، فشل هذا الحوار في تحقيق أي تغييرات ذات مغزى في سياسات إيران الداخلية أو الخارجية. وعلى العكس من ذلك، هددت طهران بمفاقمة أزمة اللاجئين في أوروبا من خلال سياساتها الإقليمية، واحتجزت رهائن ممن يملكون إقامات في بلدان أوروبية والمواطنين الأوروبيين أيضاً، حتى إنها أعدمت في 2020 أحد الذين يملكون إقامة في فرنسا. وبأثر من تلك المعطيات، ولو جزئياً، يستمر الرأي العام الأوروبي ينتقد إيران، على غرار الرأي العام الأميركي.
في الحقيقة، يمكن القول إن المرة الوحيدة التي أثرت فيها السياسة الأوروبية بشكل إيجابي في السلوك الإيراني حدثت عام 2012، حينما توقف الاتحاد الأوروبي عن استيراد النفط الإيراني بالتنسيق الوثيق مع إدارة أوباما، ما مهّد الطريق أمام الاتفاق النووي لعام 2015. تجدر الإشارة إلى أن حكومة إيرانية تشعر أن أوروبا تقف إلى جانبها، على غرار ما فعلت عام 2018 بعد انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب أحادياً من الاتفاق النووي، لن تتنازل في وجه المطالب الأميركية.
في مسار موازٍ، ستحتاج واشنطن إلى السعي وراء التعاون خارج أوروبا. بحسب بعض التقديرات، تضاعفت صادرات إيران من النفط إلى الصين أربع مرات خلال العام الماضي، ما خفف حاجة طهران الملحة للعودة إلى الاتفاق النووي. وأي جهد لتغيير حسابات إيران سيتطلب موافقة الصين. على الرغم من أن واشنطن وبكين تنظران إلى إيران بشكل مختلف، إلا أنهما تتقاسمان هدفاً مشتركاً يتمثل في الرغبة بتجنب حصول طهران على قنبلة نووية، إضافة إلى تجنب الصراع معها. علاوة على ذلك، تسعى الصين إلى شرق أوسط مستقر لضمان التدفق الحر للنفط من المنطقة. بيد أن احتجاز إيران ناقلات النفط وهجمات الطائرات من دون طيار التي تشنّها ضد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة (علماً أن تجارة كل منهما مع الصين تتجاوز التجارة مع إيران)، يهدد المصالح الصينية أكثر مما يهدد المصالح الأميركية، بالنظر إلى أن الولايات المتحدة أصبحت مصدّراً صافياً للطاقة.
أخيراً، ستحتاج الولايات المتحدة إلى المساعدة في تقوية تلك الدول العربية التي تسيطر فيها إيران حالياً وتعزيز الوحدة في ما بينها، إذ إن طهران تستغل الدول العربية ذات الحكومات الضعيفة والواقعة في ورطة أو المجتمعات الممزّقة. ومثلما لعبت القومية دوراً فاعلاً في محاربة الاستعمار السوفياتي والغربي في القرن العشرين، ستكون القومية العراقية واللبنانية والسورية واليمنية أو القومية العربية الجماعية، ضرورية لصدّ النفوذ الإيراني واستعادة سيادة تلك البلدان. واستطراداً، تُعتبر الوحدة بين العرب أمراً حاسماً أيضاً. والجدير بالذكر أن الخلاف الأخير بين أعضاء “مجلس التعاون الخليجي” الذي نتج منه حصار فرضته المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على قطر من عام 2017 حتى أوائل عام 2021، أضعف بشكل كبير قدرة المجلس على التعبير عن مخاوف مشتركة بشأن سياسات طهران النووية والإقليمية.
على الرغم من أن الولايات المتحدة وأوروبا والصين لديها مصالح متباينة تجاه إيران، إلا أن أيّاً منها لا يريد خوض حرب معها أو رؤية طهران تحصل على القنبلة النووية. وبالاسترجاع، وحّدت واشنطن تلك القوى خلال المفاوضات التي سبقت الاتفاق النووي لعام 2015، وعليها أن تحاول فعل ذلك مرة أخرى في محادثات جديدة حول أمن الشرق الأوسط. في الواقع، أي منطقة لا تحترم سيادة القانون أو الاستقلالية أو التدفق الحر للطاقة، لا تخدم مصالح أحد (باستثناء مصالح روسيا ربما). وينطبق الشيء ذاته على منطقة يتجدد ظهور الجماعات الإرهابية فيها. إذاً، يجب أن تعمل واشنطن على إقناع شركائها بتلك الحقيقة، ثم تحشدهم لفضح أنشطة إيران الخبيثة وتقييد قدراتها والتصدي لها.
ملكة الركام
تبدو القوة الإيرانية في الشرق الأوسط تصاعدية، لكن الأرجح أنها ستكون سريعة الزوال، إذ إن العرب الذين رزحوا تحت وطأة قرون من الهيمنة التركية والغربية، لن يقبلوا النفوذ الإيراني بسهولة. وحتى أولئك العرب الذين يُنظر إليهم على أنهم متعاطفون مع إيران كرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الذي أمضى سنوات من المنفى في طهران قبل مسيرته السياسية، يضمرون استياء سرياً تجاه البلاد. في ذلك الإطار، أخبر المالكي ذات مرة السفير الأميركي في بغداد، “إنك لن تدرك إلى أي درجة قد تسوء الأمور، إلى أن يُفرض عليك كشخص عربي أن تعيش مع الفُرس”.
وتجدر الإشارة إلى أن استراتيجية طهران الكبرى ترهق موارد إيران ومصداقيتها، وتصدّر إلى الخارج القمع السياسي ذاته، والتعصب الاجتماعي، والبؤس الاقتصادي الذي عانى منه الإيرانيون في الداخل فترة طويلة. وربما تظل إيران ملكة الركام طيلة أعوام أو حتى عقود. في الواقع، قلة من القوى الأجنبية أو الإقليمية لديها الرغبة أو القدرة على تحدي الهيمنة الإيرانية في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وبعد عقدين من الحرب في أفغانستان والعراق، لا يوجد دعم أميركي تقريباً لإرسال مزيد من القوات الأميركية إلى الموت في الشرق الأوسط. بالتالي، مثل ناطحة سحاب ذات أساس متعفّن، يمكن لإيران الاستمرار في إلقاء ظلالها على أجزاء من الشرق الأوسط، حتى لو بشكل غير آمن، في المستقبل المنظور.
في المقابل، من الممكن أن ينهار ذلك البناء. وفي سياق متصل، لا تستطيع واشنطن تغيير التطلعات الإيرانية في مواجهة النفوذ الأميركي وإنهاء وجود إسرائيل، لكنها تستطيع بمساعدة دول أخرى، احتواء طهران حتى تحصل تلك الدولة على حكومة تسعى إلى فعل ما هو جيد لإيران بدلاً من سعيها إلى فعل ما قد يؤذي أعداءها الأيديولوجيين. في نهاية المطاف، لن تُهزم الاستراتيجية الإيرانية الكبرى على يد الولايات المتحدة أو إسرائيل، بل على يد الشعب الإيراني الذي دفع مقابلها الثمن الأكبر.
* كريم سادجابور، زميل رفيع الشأن في “مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي”، وقد نشرت المقالة على موقع اندبندت العربية، يوم السبت الموافق 23 أبريل 2022
Leave a Comment