زهيرهواري
لن يصعد محسن ابراهيم وفؤاد شبقلو إلى المختارة اليوم ليضعا وردتين حمراوين على ضريح المعلم، سيظل الرخام بارداً. فقد رحل صديقاه عن هذه الحياة، وانقطعت تلك العلاقة السنوية والرمزية، التي دأبا على ممارستها في أحلك الظروف وأصعب الأوقات. سيعاني صاحب المزار من وحدة غيابهما عما تعوده منهما. لقد غادرا وغيَّرا عادتهما مرغميْن في مثل هذا اليوم. وحده أبو راشد – توفيق سلطان أمد الله بعمره باق من أصدقائه، ورفاقه المؤسسين في الحزب والحركة الوطنية، يعيد تطريز ذكرياته عن تلك المرحلة بكل ما شهدته من معاناة وشجاعة على من يلتقيهم.
أن يرحل كمال جنبلاط في يوم 16 آذار من العام 1977 مضرجاً بالشهادة، ليس أمراً خارج المألوف في بلد ومنطقة بات الاغتيال السياسي جزءاً من تراث سلطات الاستبداد الحاكمة فيها، طالما أنها تفلت من العقاب. العقاب المفقود على جرائم تقيد ضد مجهول معلوم. بات ذلك من طبائع الأمور، أو بالأصح من طبائع الاستبداد الذي تحدث عنه النهضوي عبد الرحمن الكواكبي. على أن الاغتيال كجريمة، لم يعد قتلاً لأفراد، بل اتسع ليصبح ما يوصف في القوانين الدولية بالجرائم ضد الانسانية. فأن يباد مئات الألوف ويقذف بالملايين إلى المنافي وعشرات الألوف إلى الأقبية والمعتقلات، هو اغتيال موصوف يطال شعوباً بأمها وأبيها. ضأصلاً جرى اغتيال كمال جنبلاط كتمهيد لاغتيال أحلام مرحلة بكل ما حفلت به من جموح إلى تحرير الانسان والبلاد، والحؤول دون طموحات أكثرية رجال ونساء المجتمع وأماني أجيال الشباب والفتيات والأطفال، وسط استسهال الدفع بهم إلى المسالخ أو اليأس دون سواه. ثم أن المحاولات لاغتيال تراث الرجل ودروس حياته لم تتوقف، بل تصاعدت منذ أن أطلقت عليه رصاصات الغدر ذات صباح شتوي. كل ما عمل من أجله حتى لا يقبع هذا الوطن داخل القفص القمعي الكبير، جرى تدميره في عمل منهجي، للتأكيد أن هذا البلد مجرد ساحة مفتوحة ومتاحة لكل أنواع الارتكابات. مساحة لتصفية الحسابات وإرسال الرسائل بين قوى اقليمية ودولية، وليس وطنا يحق لأبنائه أن يعيشوا فيه بأمن وسلام واستقرار، لا تطالعهم الحروب الأهلية والفتن صباح كل يوم، وبين كل فينة وأخرى. وطن يتفيأ الناس فيه ظل نظام حياة ديمقراطي علماني يحفظ لهم تنوعهم، ويصون مصالحهم وحقوقهم، يحمي حدوده ويفرض قوانينه بمعزل عن الإنتماءات الطائفية اوالمذهبية التي وُلد الناس عليها، وهم يحملون مذهبها على خانة قيودهم، قبل أن تقودهم إلى المقابر، حيث لا ألواح رخام، ولا ورود حمراء عندما موعد رحيلهم الاجباري في حمأة صراع لا يرحم.
كان اغتياله هو المقدمة كي يدرك الآخرون حدود تفلتهم عن الأوامر العليا، التي يجب أن تنفذ وبدم بارد كصقيع هذه الأيام. مواطن حر وشعب سعيد قال المعلم، يفصل بين “ما لله لله وما لقيصر لقيصر”، وينظم شؤون حياتهم اليومية والعامة، ضمن أسس وشروط المواطنية، ويبني دولة العدالة الاجتماعية، حيث يستطيع العامل والفلاح أن يأمن على عرقه وكدحه وكرامته، كبني البشر، له حقوق وعليه واجبات. كل تلك الأحلام هي التي أصابتها رصاصات الجريمة، فبات أقصى طموح المواطن في المفصل الراهن الذي نعيشه، تأمين خبز يومه وحبة دوائه وإضاءة بيته وتدفئة أضلاعه من صقيع يترامى ثلوجاً حوله. رحل كمال جنبلاط قسراً وغيلة، وخلال عقود وعقود تلاشى بناؤه بفعل التزوير والهيمنة والمصادرة. تزوير وتزييف الوقائع، والهيمنة على سيادة البلد، ومصادرة الدولة التي جرى نهب مقدراتها بين أطراف المحاصصة. وفي مثل هذه الحال حصة الأسد تذهب لصاحب القوة وليس لصاحب الحق. باتت شريعة الغاب مطبقة ولن تتراجع أو ترعوي، فقوافل الاغتيالات التي عبرت مع اغتياله تبقى متواضعة على ما جرى بعدها من مقتلة آخر فصولها ما شهده مرفأ بيروت من مذبحة موصوفة. والرسالة واضحة لكل من له أذنان وعينان ولسان وعقل: أنتم لستم مواطنين بل مجرد رعايا تساقون إلى حتوفكم عندما تفكرون بالعيش كما سائر البشر، أو بالتمرد فيتقرر حينها تصفيتكم وإزالتكم من الوجود.
في مثل هذا اليوم أغتيل المعلم كمال جنبلاط، سقط واقفاً على قدميه. لم تثنه الرصاصات عن الاستمرار في المنازلة، التي خاضها حتى الرمق الأخير من أجل لبنان وطناً ديمقراطياً علمانياً.. تراثه الغني والزاخر وصيته لنا نحن الذين تربينا على أقواله وممارساته، يقيناً أن المؤامرة التي قضت باغتياله لن تمر، ولن يكتب لها النجاح.
Leave a Comment