يوسف اللقيس
إن أكثر ما يثير شغفي، هي تلك المواد السينمائية التي تضج بثقل نصي مشبّع، بصور أشبه بألغاز يصعب فكها عند المشاهدة الاولى، فتبدأ بترتيب أوراقك قبل أن تصل لطريق مسدود، لتعمد بعدها إلى لعب دور المحقق والحريص على كشف معالم حبكةٍ تمتحن عقلك، وتأخذه على محمل الجد .
فبعد أن تبنت السينما اسلوب الاسترجاع الفني في الكتابة الروائية، عرف هذا الاخير نضجاً و تنوعاً، ففتحت أبوابها لاعمالٍ كان للسرد الروائي فيها دور كبير ، وبالتالي اكتشفت آفاقاً جديدة في الفضاء السردي، وأثرت بذلك على الكتابة الروائية ، مثلما أثرت الرواية بدورها على السينما .
والحبكة الدرامية وفقًا لتعريف الكاتب الأمريكي السيناريست سدني الفين فيلد مؤلف الكتاب الشهير “السيناريو”، هي الشيء الذي يحوّل مجرى الأحداث في اتجاه آخر ليدفع بالقصة إلى الأمام، وتعد الحبكة أداة أساسية لتحقيق هدف القصة أو “الثيمة”، عبر إيجاد صراع بين قوى متضادة، وصولًا إلى ذروة الأحداث وحل لغزها. فالحبكة تعتمد أساساً على الصراع و في نهايتها تكون الشخصية قد تخطت صراعاتها، ونجحت في أن تتغير بحسب ليندا ج. كاوغيل، مؤلفة كتاب “فن رسم الحبكة السينمائية”.
وها نحن بصدد حبكة شكلت دسماً روائياً من العيار الثقيل، تُرجِم صورياً ليحمل متانة و صلابة القصة ومعالمها كافة، خيوطاً مخبأة خلف أبواب موصدة باغلال من الدقة والمتابعة الثقيلتين، لتبدأ شيئاً فشيئاً باظهار اطرافها، وتبيان معالمها حتى نصل الى وقت يكشف لنا العمل بما يملك من اوراق، فنعيد ترتيب رفوفنا جرّاء إعصار غير رحوم، عصف بها و زاد من حيرة أفكارنا .
و كمثال حي اعتبره عرَّاب هذا الصنف من الأعمال يتضمن جوهر ما تطرقت إليه أعلاه فيلم “shutter island” للمخرج الأميريكي العبقري مارتن سكروسيزي من بطولة الأميريكي العملاق وابن هوليوود ليوناردو ديكابريو .
تحفة عابرة للزمان والمكان لا تشيخ ابداً، يضفي عليها الوقت وهجاً و قيمة كل ما مرت أيامه عليها، استمتع بتذوقها في وقت متأخر من الليل مع فنجان من القهوة، آمل عبره أن يكون عكازي في ليلة لا مكان للنعاس فيها .
هذا العمل الضخم والمقتبس عن رواية تحمل الاسم نفسه صدرت عام 2003 للكاتب الأميريكي دنيس ليهان، استطاع عبرها سكورسيزي وببراعة أن يبرز لنا كيف تكون الافلام المقتبسة عن الروايات، عبر اظهار أبعاد وأعماق لا نستطيع أن نبلغها في الرواية.
لنتصاحب معاً إلى مرحلة ضبابية في سبر غور العمل، نفقد معها القدرة على التمييز بين الخيال والواقع، التي تميز بها فيلم shutter island مما زاد من جو الغموض المربك و المحير، من المشهد الاول الذي احتوى بدوره على مفتاح الفيلم بأسره، أثناء مقابلة الحرس عند بوابة الدخول الى الجزيرة. فسكورسيزي قدم لنا الجواب منذ البداية من دون عناء البحث، ولكنه كان مغلفاً بباقة سَهِرَ على انتقائها زهرةً زهرة، لتصل بعدها الى الذروة في المشهد الاخير والرائع الذي احدث شرخاً في فهمنا، فكان أشبه بصفعة توقظنا من سباتنا العميق، لتعود علامات الاستفهام وتغزو سلامنا الداخلي قائلة لنا: “لا تظن الظنون بعقلك، و ترتاح لنهاية مرضية لاستيعابك ، لأن الفيلم سينتهي فقط على الشاشة، ولكنه سيبقى معك اينما ذهبت”.
لقد أتت الجملة الأخيرة على الشكل التالي وفيها من العمق والحيرة حدّ النخاع : “ايهما افضل ؟ ان تعيش كوحش أو أن تموت كرجل صالح”.
تحفة فنية خالدة، على المتابع أن يعاود مشاهدتها مراراً و تكراراً لأن الاولى ستكون استكشافية بطبيعتها، لتمر الثانية حاملة العديد من المفاتيح، التي لم تكن لتراها في البداية.
المخرج الكبير سكورسيزي ليس غريباً عن هذا المستوى، الذي استطاع عبره أن يقدم لنا عملاً نادراً، مُظهراً اجمل ما في عالم الغموض والحبكة، التي كانت في اعلى مستوياتها .
لنأتي الآن الى الموهوب ديكابريو الذي قدم دروساً في تجسيد اصعب الشخصيات المركبة والمضطربة والعميقة، حيث استطاع بكل اتقان أن ينقل لنا جرعة مليئة بالادرينالين، والتشويق اللذين قاما بتسميرنا طوال الوقت .
وهنا أن أشير إلى أن هذا العمل من انجح الأعمال التي شاهدناها والتي جمعت بين سكورسيزي و ديكابريو، هذا الثنائي الذي شكل مسيرة فنية ناجحة بكل المقاييس، مزدحمة برصيد مذهل وكبير من الجوائز والإنجازات، والذي أثمر عن خمسة مشاريع نالت نجاحاً واستحساناً كبيرين :
-Shutter island
-gangs of New York
-the departed
-wolf of wall street
-aviator
في حين أن التعاون السادس والمنتظر، سوف يحمل اسم “قتلة زهرة القمر” أو “killers of the flower moon “، وهو بالتعاون مع عراب السينما الكبير روبرت دي نيرو نهاية هذا العام .
الجدير بالذكر ان فيلم shutter island هو الفيلم الوحيد لسكورسيزي الذي لم يترشح لأي جائزة اوسكار على الرغم من الإشادة الكبيرة من قبل الجمهور والنقاد على حد سواء، و الاقبال الكبير الذي حصده. وهذا كان نتيجة تفضيل فيلم Avatar عليه، و إدراجه على لائحة الجوائز من قبل شركة الإنتاج، الأمر الذي يعني أن المصلحة التجارية من قبل حيتان هوليوود المتمثلة في الاستديوهات، هي التي دقت المسمار الاول في نعش القيمة الفنية للسينما من خلال تفضيل افلام المؤثرات البصرية و”السوبر هيرو” المكررة والخاوية من روح السينما وأصالتها .
حصل shutter island على تقييم 8.1/10 على موقع IMDB و %68 على موقع rotten tomatoes””.
Leave a Comment