كتب محمد قدوح
توقفت خلال عودتي إلى بيروت عند بائع قهوة أكسبرس، وفي ما كان يعد فنجان القهوة، بادرني بالقول: شو هالحالة اللي ما عادت تنحمل؟ أجبته عليك أن تتوجه بالسؤال إلى من انتخبت. أجاب: الله يطول بعمرو ( الزعيم ) ما إلنا غيرو. أجبت: ولكنه وأمثاله في الطوائف الأخرى نهب اللبنانيين المقيمين والمغتربين .. ثم إن المواد والسلع المدعومة التي خصصت للناس لم تنجُ من نهمهم. أجاب: هذا صحيح، لكن الجميع يستهدف الطائفة، والله يطول عمرو هو رمزنا وقوتنا وحامينا.
يتضح من حديث البائع على بساطة كلماته ثلاثة مؤشرات:
أولاً: إن جدار الخوف بين الطوائف والمذاهب عالٍ ومتينٍ إلى درجة بالكاد يسمح بالتواصل بين أفرادها بالحد الأدنى الضروري.
ثانياً: إن قيمة الوطنية اللبنانية هي في أدنى مستوياتها، وتكاد تكون غير موجودة لدى جماهير الطوائف.
ثالثاً: إن الطبقة السياسية ما تزال محمية بجماهيرها أكثر من أي وقت مضى، وبما يكفي لفرض تجديد سيطرتها على الدولة والمجتمع.
ماذا تعني هذه المؤشرات في ظل الانهيار الشامل بتأثيره الفادح على حياة اللبنانيين؟
يبين الواقع اللبناني بوضوح ما يتعرض له الانسان في هذا المجتمع من قهر وهدر لكيانه وكرامته وقيمته الانسانية، رغم أن هذا الانسان نفسه فاعل في بُنى هذا المجتمع ومحرك لها، ومحدد لأنماط العلاقات والاستجابات لها، وإنما بشكل مقنّع وغير مباشر، ولا شك أيضاً أن الانسان في هذه المجتمع يعيش حالة استلاب اقتصادي واجتماعي. والأهم هو الاستلاب العقائدي ويقصد به جملة قيمه وسلوكه ونظرته إلى الوجود، بما يتماشى مع القهر الذي فُرض عليه، لذا يعمد إلى تبريره، ويجعله جزءاً من طبيعته، وهو بذلك يرسخ البُنى التسلطية التي فُرضت عليه، ويعمل على تعميمها على الآخرين. ففي مثل هذه الحالة تتحول الطوائف والمذاهب إلى جماعات مغلقة تمثل بالنسبة لأفرادها “الأم المعطاء الحامية” التي تستقطب كل الولاء؟ من هنا يأتي التعصب لتقاليد الجماعة ومعاييرها وردود الفعل العنيفة ضد كل من يحاول خرقها من الداخل، أو الاعتداء عليها من الخارج. وتبعاً لذلك ينقسم العالم بالنسبة إلى أفراد هذه الجماعات إلى عالمين متناقضين . الخارج هو العدو ومصدر الخطر والعلاقة معه عدائية، والموقف منه انسحابي، تهجمي وتدميري. أما عالم الداخل فهو الخير كله ومصدر الأمن والشعور بالإنتماء ومصدر الهوية الذاتية. وتشتد الأواصر بين أفراد الجماعة المغلقة بقدر حاجتهم لتجنب قلق الانفصال، ويجري إنكار الصراعات الداخلية، وترتفع درجة النرجسية فتتضخم قيم الجماعة بحيث تصبح القيمة المطلقة والوحيدة، وتتضخم معها وبنفس الدرجة قيمة تعاظم الخطر الخارجي والإحساس بالتهديد للذات والمصير. ويصل الذوبان في الجماعة إلى درجة يفقد فيها الفرد استقلاليته وهويته الذاتية، ولا يعود له من هوية سوى هوية الجماعة التي ينتمي إليها. وتتصف العلاقة الدمجية بين الفرد والجماعة بإتكال الفرد الشديد على رموز القوة وعناصر السلطة المادية والنفسية في الجماعة، والتي تتضخم بدورها بشكل لا واقعي، بقدر الحاجة إلى الاحساس بالأمن والحماية. ويذكر في هذا السياق أن أكثر الناس ذوباناً في الجماعة وتعصباً لها هم في معظم الأحوال الأكثر عجزاً عن الاستقلال الذاتي والوصول إلى مكانة فردية وذاتية تنبع من شخصياتهم.
أما أخطر درجات الاستلاب فتحدث على صعيد العلاقة مع الزعيم عبر التماهي معه، ومع قيمه وأسلوب حياته ولأنه يحدث من دون عنف ظاهر، وإنما من خلال رغبة الفرد في الذوبان بعالمه. وهو يرى في ذلك حلاً لمأزقه الوجودي وإرتقائه إلى مرتبة ترضيه فتبث في نفسه الكبرياء. وفي سبيل ذلك يبذل كل جهد ممكن في هذا السبيل متنكراً لمصالحه الحقيقية التي تكمن في التغيير الجذري لهذه العلاقة وللبنية الاجتماعية التي تستند إليها. وتخلق هذه العملية حالة عنيدة في مقاومة التغيير. والفرد في هذه الحالة يؤمن فقط بالمرتبة والحظوظ، ويرى بأن ليس لمحروم أو مغبون أن يعترض على ما يلحق به من حيف، ويتطاول كي يأمل بالمساواة مع الفئة المحظوظة، وعليه أن يتقبل وضعية الاستغلال ويعترف بسيادة الزعيم. وأن كل ما يطمح إليه هو الأمل بالتفضل عليه من جانب ذوي الحظوة. وكل ذلك يعطي الزعيم مشروعية تصل حد التقديس، وهي حالة يحرص الزعيم على تعزيزها بجميع الوسائل. وفي هذه الحالة يرى الفرد أن لا فائدة من قيم التمرد والتصدي والثورة، ويعتبرها آفات يجب التعبير عن الرفض لها ومحاربتها. والفرق ليس كبيراً بين الجماهير العفوية غير المنظمة سياسياُ التي لم تتح لها الفرصة في التعامل مع الواقع، وبين الفئات المنظمة سياسياً والتي لها تاريخ في الممارسة السياسية، لكنها لم تتخلص فعلياً بعد من قيود التخلف ذهنياً وانفعالياً وعلائقياًـ إذ يلاحظ تداخل بين أعلى درجات التنظير الفكري وأشد أشكال التخلف في الممارسة. كما يلاحظ نوع من الهوة بين الفكر والمعُاش اليومي خارج الممارسة العامة.
إن ما تقدم قد يمثل جواباً على سؤال: لماذا لم ينتفض اللبنانيون ضد السلطة التي أوصلتهم إلى جحيم الحياة؟ خصوصاً وأن التماهي بالزعيم يشكل ايديولوجية مضادة للتغيير الجذري والحقيقي، وبالتالي تبدو اللحظة الراهنة غير مؤاتية للتغيير الذي تنشده قوى ومجموعات الانتفاضة والتي تعمل لتحفيز وعي اللبنانيين، ودفعهم للمشاركة في التحركات. ولكن هل يمكن أن يحصل تغيير في مواقف اللبنانيين؟
وفقاً لوجهة نظر د. مصطفى حجازي في كتابه “سيكولوجية الانسان المقهور” إن الآلام المعنوية والوجودية التي تنبع من وضعية القهر، لا يمكن احتمالها الا بقدر ولمدة معينة، لأن جميع وسائل الهرب والاجترار لا تحل المشكلة بشكل جذري ومقبول. وهي لا تسمح للانسان المقهور بالاحتفاظ بتوازنه النفسي الضروري لكي يستمر بالعيش. وهكذا لا بد للتوتر أن يزداد، وللعدوانية أن تتراكم. وهنا يدخل في مرحلة الاضطهاد، وهي مرحلة وسطى بين الرضوخ ومرحلة التمرد. وبتداخل مع كل من المرحلتين السابقة واللاحقة، فيلاحظ حالات رضوخ اضطهادي على طرف، يقابلها حالات اضطهاد تمردي على الطرف الآخر. وتتوقف هذه المرحلة من حيث امتدادها وشدتها على نوعية بنية المجتمع من ناحية، وعلى المعادلة الشخصية للفرد من جهة ثانية. وهذا لا يعني تساوي الميول الاضطهادية عند جميع أفراد المجتمع.
إن الحل الاضطهادي يظل واجباً، ولكن بعد فترة تطول أو تقصر يتشكل الوعي بمصدر المأساة الحقيقي، وهو المتسلط الداخلي وحليفه الخارجي. لذا لا بد من توجيه العدوانية والعنف نحو هذا المصدر بعد فترة إعداد واختمار تتضح خلالها إمكانية التمرد. في هذه المرحلة يصل الفرد والجماعة إلى قناعة أن ليس هناك من لغة ممكنة مع قوى التسلط سوى لغة مماثلة للغتها، أي لغة القسوة. ويترسخ الاحساس بضرورة العنف، والا تحول الشعب إلى ضحية دائمة، أي إنه يكون أمام الظاهرة التي يسميها علماء الأحياء برد الفعل الحرج والتي تتلخص في خياري الفناء أو المجابهة.
في هذه المرحلة يكون احتمال الجنوح إلى العنف مرجحاً، بما يمثل انتصاراً على الخوف والياس، وانتصاراً على قلق الحاضر والمستقبل. لذلك يتعرض العمل التمردي إذا لم يكن منظماً بشكل كاف إلى نوع من الانتفاضة السحرية التي تقلب الواقع لأن الشعب المقهور لا يستطيع الانتظار طويلاً، فهو يريد نتائج عاجلة.
هذه الحاجة إلى خلاص سريع قد تخلق عقبة فعلية في وجه عملية التنظيم والإعداد لمعركة طويلة النفس. ومن الأخطار التي تنتشر في هذه المرحلة غياب الأطر المرجعية الجديدة (التغييرية)، وعدم حلولها محل الأطر المرجعية القديمة. وانطلاقاً مما تقدم، يمكن القول إن احتمال انفجار انتفاضة شعبية جديدة أمر أكيد. ويبقى السؤال: متى يحصل هذا الانفجار؟ وكيف يمكن السيطرة عليه وضبطه ضمن اطار سياسي ـ يستطيع أن يبقيه سلمياً وموجهاً نحو السلطة السياسية ورموزها؟.
Leave a Comment