كتب محمد قدوح
باتت الطبابة والاستشفاء مجرد حلم يحلم اللبنانيون باستعادته. فالمنظومة الصحية برمتها كما هو واضح تنقلب رأساً على عقب. وما هجرة الأطباء والممرضين سوى غيض من فيض ما يعيشه القطاع على ضوء أبرز معالم الانهيار بما هو تراجع قيمة الليرة اللبنانية وارتفاع سعر صرف الدولار الاميركي. يضاعف ذلك تصاعد وتيرة النهب الذي يمارسه مستوردو الأدوية والمستلزمات الطبية، التي بات البسيط منها مفقوداً بما فيه مستلزمات الصور الشعاعية والمختبرات والأجهزة التعويضية، فضلاً أدوية الأمراض المستعصية والمزمنة والقلب وغسيل الكلى، حتى المسكنات منها ك”البنادول” وغيرها وغيرها. وكي لا ننحي باللائمة على صعوبة الاستيراد وتعقد اجراءات المصرف المركزي للحصول على موافقاته على دعم هذه الضرورات الحياتية، من المعلوم أن المستودعات تفيض بالمواد التي لا تصل إلى السوق الذي فقد ما يزيد عن 70% من حاجاته للأدوية والمستلزمات، في ما نجد المستشفيات والصيدليات والمختبرات تقفل أبوابها أو أقساماً منها.
وما يزيد الطين بلة هو ما تعتمده العديد من المستشفيات التي ترفض التجاوب مع العقود الموقعة مع الجهات الضامنة سواء أكانت مدنية أو عسكرية. ففيما كانت نسبة مساهمة هذه الجهات هي 85 % على عاتقها و15 % على عاتق المريض إنقلبت الآية، وباتت تطلب من المرضى المضمونين المساهمة ب 80 % من الكلفة ونقداً قبل القيام بأي إجراء طبي، وهكذا تحولت مساهمة المضمون الشخصية من 10 أو 20 % إلى 80 بالمئة. هذا مع العلم أن العديد من المسشتشفيات ترفض أصلاً الاعتراف بوجود جهة ضامنة وتشترط تسديد المريض لللاكلاف كاملة.
وفي ظل تسارع الانهيار ومع غياب كل أشكال الرقابة من قبل الجهات الضامنة تفرض إدارات المستشفيات على المرضى كل ما يخطر ولا يخطر على بال، بما فيه اشتراط بعضها تسديد كلفة الأعمال بالدولار الاميركي. وينطبق الغياب في المقام الأول على وزارة الصحة المسؤولة الأساسية عن الأمن الصحي للمواطن. فالوزارة لم تعمد للقيام بإجراءات يتيحه القانون لها على مستوردي الأدوية والمستلزمات الطبية، أو على ما تقوم به المستشفيات من تجاوز وتعديل من طرف واحد لبنود الاتفاقات المعقودة مع الجهات الضامنة.. ومعنى ذلك أن اللبنانيين يسيرون حثيثاً نحو العجز الكامل عن الحصول على العلاج والاستشفاء. وعليه، لن يصبح أمامهم من سبيل سوى الموت في بيوتهم، أو أمام وعلى أبواب المستشفيات التي لا تقيم وزناً لأوضاعهم وتآكل رواتبهم وتبخر مدخراتهم..
إن بلوغ هذا المصير ليس قدراً محتوماً على اللبنانيين اذا ما توافرت الإرادة أمام المعنيين وفي المقدم منهم وزارة الصحة بوصفها الجهة المسؤولة عن صحة المواطنين. اذ إن المسار الذي تندفع نحوه الأوضاع من شأنه أن يقود إلى وفاة غالبية المرضى الذين لا يستطيعون التعامل مع الواقع المفروض في ظل خسارة الليرة اللبنانية حوالي 90% من قدرتها الشرائية، ووصول نسبة تتراوح بين 60 و65 % من اللبنانيين إلى خط الفقر، وبالتالي العجز عن تأمين طعامهم وشرابهم فكيف بصحتهم في ظل ما يشهده القطاع من “دولرة”. وفي ظل هذه التهديدات الفعلية لا بد من مبادرة وزارة الصحة إلى اتخاذ الخطوات الآتية:
- مناقشة الوضع على حقيقته مع الجهات المعنية بما هي نقابات الأطباء والممرضين وأصحاب المستشفيات وتجار ومستوردي الأدوية والمستلزمات الطبية. والتوصل من خلال الحوار إلى اعتماد خطة طوارئ لمواجهة مضاعفات الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي المتوالي فصولاً. على أن تتيح هذه الخطة مواجهة تداعيات ما تعيشه البلاد والقطاع الصحي، وبما يضمن حصول اللبنانيين على العناية الصحية اللازمة، وذلك على قاعدة أن كل الأطراف معنية بإيجاد الحلول الممكنة انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية الوطنية والمواثيق والشرع الدولية التي تعتبر العناية الصحية حق من حقوق الانسان.
- تطوير وتفعيل القطاع الصحي والاستشفائي الحكومي ودعمه وتفعيل الرقابة على أدائه على جميع المستويات الطبية والإدارية والمالية. لقد أثبت هذا القطاع، الذي عانى من إهمال مزمن وأُخضع كغيره لمنطق المحاصصات، أنه يتمتع بقدرات وفعالية عالية المستوى خلال مواجهة جائحة كورونا، هذا على الرغم من الملاحظات الكثيرة على إداراته وأدائه. إذ ثبت أن لدى القطاع الحكومي قدرة استيعابية ومقدرات طبية لا يستهان بها. حدث ذلك في ما كان القطاع الخاص يرفض التفاعل مع أحكام تفشي الوباء في مراحله الأولى. وتجاوب القطاع بفعالية وبسرعة مع توجهات الوزارة وسياسات الطوارئ الصحية التي قررتها منظمة الصحة العالمية على كل البلدان والدول.
- مبادرة وزارة الصحة إلى استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية الرئيسية من مصادر مختلفة أو منحها الأذونات للاستيراد، وتقديم التسهيلات للشركات الجديدة التي تستطيع تولي مثل هذه المهام، وفق شروط تحددها هي تضمن لها ربحية مقبولة، إلا أن الأهم أنها تضمن وصول الدواء والتجهيزات إلى المرضى المحتاجين بأسعار عادلة، تجعلها في متناول المواطنين بدل ما نشهده حالياً من الاقتصار على المرضى الذين يستطيعون تحمل الأعباء المفروضة.
- التأكيد على المستشفيات لاستقبال جميع المرضى تحت طائلة المسؤولية القانونية التي ينص عليها قانون العقوبات، والأمر عينه ينطبق على مستوردي الأدوية والمستلزمات الطبية. إن العراضات الاعلامية ومداهمة المستودعات أمام الكاميرات لا تبشر بخير، ولا يمكن أن تنطلي على أحد، طالما أن المخالفات على قدم وساق، بدليل فقدان الأدوية وإخفائها في المستودعات تمهيداً لرفع الدعم وتحقيق أرباح غير مشروعة لدى بيعها في حينه.
- ضبط أسعار الأدوية والأجهزة والمستلزمات وضمان وصولها إلى المستهلكين، وجعل الإقدام على تهريبها كونها من السلع المدعومة بمثابة جريمة يعاقب عليها القانون، ودعوة الهيئات القضائية إلى التشدد في العقوبات، ضماناً لحصول المواطنين والمقيمين على حقهم بالأدوية التي يحتاجونها بدل تهريبها إلى الأسواق القريبة والبعيدة على حد سواء لتحقيق أرباح سوداء.
إن الخطوات الآنفة الذكر لا يتطلب تنفيذها أموالاً، بقدر ما يتطلب إرادة سياسية وشعوراً بالمسؤولية الوطنية والانسانية في مثل الظروف التي يجتازها لبنان، ومواجهة سياسات التلاعب بصحة وحياة اللبنانيين تحقيقاً للرغبة في مراكمة الثروات، ولو على حساب المرضى والمحتاجين منهم للعلاج. إن انهيار خدمات ودور المؤسسات الضامنة الذي ما نزال في بداياته ينذر بأوخم العواقب التي لن تقتصر على المرضى، إذ ستطال حتماً كل حلقات السلسلة الصحية، لأن أحداً لن يقبل أن يجد أحد أفراد أسرته يعاني الوجع أو خطر الموت ويقف مكتوف الأيدي. ويظل المطلوب هو احترام حق الانسان بالصحة، وهو ما يتطلب تكامل أدوار الأطباء والممرضين والمستشفيات ومستوردي الأدوية والتجهيزات، حتى لا تعم الفوضى وتطيح بكل ما تراه أمامها من هياكل، فتدمرها على ما فيها ومن فيها، وبذلك تكون الخسارة مضاعفة: خسارة للقطاع الذي طالما تباهى به لبنان، وخسارة للمرضى الذين لا يجدون دواءً لهم أو مكاناً يخفف من عذاباتهم والآمهم.
Leave a Comment