ابراهيم حيدر*
ليست السنوات العشرون الأخيرة التي قضاها محسن إبراهيم منكفئاً عن الإطلالات السياسية العامة، مجرد أعوام عابرة، لا تُحسب في تاريخ الرجل الذي كان مؤثراً من موقعه كأمين عام منظمة العمل الشيوعي وفي الأمانة العامة للحركة الوطنية اللبنانية خلال الحرب. ربما لو كانت الظروف مختلفة في البلد وفي الحياة السياسية لأخرج الانتاج الفكري والمراجعة النقدية التي عكف عليهما أبو خالد داخل المنظمة إلى الفضاء العام كأكثر شخصية سياسية يسارية تصدت لهذا الجانب المهم والمفصلي، في سياق إعادة تشكيل الموقع من مدخل مستقل، بعيداً من الرهانات الملتبسة التي كان يعرفها ابراهيم عن كثب، وكان في إمكانه أن يكون متربعاً وفي المقدمة لو كانت خياراته قائمة على استسهال الموقع، الذي أخذ كثيرين إلى الالتحاق والذوبان داخل الطوائف والمذاهب وهيمناتها المختلفة.
أكب محسن ابراهيم على مراجعة نقدية تاريخية. كانت منظمة العمل الشيوعي التي يتولى مسؤولية أمانتها العامة، والتي ارتبطت به تغالب الأوضاع الصعبة في البلد، فلم يكن ممكناً خروجها مجدداً إلى العلن تحت الهيمنة التي أخذت لبنان إلى مكان آخر، وفتكت بنسيجه الاجتماعي، فكان من الصعب أن تعود بالموقع نفسه وبالممارسة السياسية ذاتها وبالخيارات التي أنهتها الحرب، فإذا بمحسن ابراهيم يختار الأصعب. وهو يعلم أن إعادة اطلاق المنظمة اليسارية سيختصرها موقعه واسمه ما لم يُعَد نفض الجسم ووضعه على مشرحة النقد والاستقطاب مجدداً على قواعد أخرى وخيارات فكرية أوسع وأرحب، عندها فقط يمكن القول إن منظمة العمل الشيوعي يمكنها أن تنطلق من خارج قيود الاسم، وإن كانت هذه العملية تأخرت كثيراً، ودفع الجسم الحزبي ثمناً باهظاً، علماً أن الظروف التي مرَّ بها البلد والوضع الخاص لمحسن ابراهيم لم يساعدا في العودة السريعة، إلى حد أن أبو خالد غرق في المراجعة الفكرية منكفئاً عن الفضاء السياسي العام، وهو الذي طالته الضغوط والتهديدات من دون أن يتراجع عن مواقفه وخياراته وموقعه المستقل.
أكثر المراحل مفصلية في سيرة محسن ابراهيم، كانت عملية الانتقال إلى وضع جديد بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. منذ ذلك الوقت خاض محسن ابراهيم غمار المراجعة الفكرية عندما كان البلد قد اصبح تحت قبضة الاحتلال الاسرائيلي فيما كانت منظمة العمل الشيوعي بقيادته تنخرط في المقاومة الوطنية كطرف أساسي فيها. لم يخرج محسن ابراهيم من بيروت وبقي فيها متخفياً. انتهت تجربة الحركة الوطنية وخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، وبات على أبو خالد مواجهة تحديات كبرى وخطيرة على مستوى البلد، وفي جسم المنظمة وفكرها وخياراتها. المراجعة النقدية بدأت بنقد تجربة الحركة الوطنية وإعادة النظر بالانخراط في الحرب الأهلية وحدود التغيير في البلد عبر هذا الطريق. لكن الخيار الوحيد والأول كان في مقاومة الاحتلال، وهو الذي فتح الطريق على إمكان المراجعة، إذ كانت هذه المرحلة الأصعب والمليئة بالتحديات، بعدما انتقل محسن من موقع سياسي مؤثر ومقرر، بالرغم من كل ما حل من ترهل في الحركة الوطنية وأحزابها، إلى العمل السري في مواجهة ما حل بالبلاد من مآسي.
أثبت محسن ابراهيم في مرحلة ما بعد الاجتياح الإسرائيلي أنه الأكثر قدرة على فهم التحولات التي حدثت في البلد، وكذلك في مواقع الاحزاب اليسارية، وهي مرحلة غيّرت لبنان إلى ما شهدناه من حروب أهلية طائفية ومذهبية، كان حسم إبراهيم بالابتعاد عنها والدخول في مقاربة أخرى تختلف عن كل التجارب السابقة. وفي الأخيرة يُحكى الكثير عن أبو خالد، من حركة القوميين العرب إلى منظمة الاشتراكيين اللبنانيين ثم منظمة العمل الشيوعي، إلى علاقته بعبد الناصر وياسر عرفات وكمال جنبلاط. لكن محسن ابراهيم من موقعه اليساري كان دائماً يخوض المعارك الصعبة، ويبقى أميناً للقضية الفلسطينية حتى آخر لحظة من حياته ومدافعاً عن القرار الوطني الفلسطيني المستقل، بالرغم من اتهامه بالتبعية العمياء لمنظمة التحرير وياسر عرفات. انكفأ محسن ابراهيم منذ أواخر العام 1982، لكنه كان انكفاءً اضطرارياً لم يراهن معه على تسلم موقع أو ممارسة دور خلال حروب الطوائف في لبنان طوال الثمانينيات من القرن الماضي بعدما كان من موقعه اليساري في الحركة الوطنية الوحيد القادر على إدارة الخلافات والتناقضات بين فرقائها. الخيار المهم والتاريخي كان اطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وهي شكلت رهاناً أيضاً على إعادة النهوض من موقع مستقل ونهوض اليسار مجدداً. لكن البلد كان دخل في منعطف جديد من الحروب الأهلية فحسم محسن كقائد لمنظمة العمل الشيوعي الخروج مبكراً من الحرب الأهلية الطائفية والمذهبية والتدخل الإقليمي في شؤون البلد.
في الممارسة السياسية طوال فترة الثمانينيات، حسم محسن ابراهيم خياراته، في سياق المراجعة النقدية تحت راية اليسار، ولو قيّض له أن يكون مرجعية سياسية في البلد ضمن موازين القوى الطائفية لرفض مطلقاً، حتى أن جسم المنظمة الحزبي وهو ينزف قرر المضي في المراجعة للبناء بخيارات فكرية وبرنامجية مختلفة، إذ إن إعادة بناء المنظمة واطلاقها لا يتقرر ببيان ولا بوثيقة، والأمر يحمل الكثير، بين الموقع والعمل الحزبي الصعب في عملية تأسيس معقدة لا يختصرها اسم محسن ابراهيم فحسب، بل لأامر يتعلق بمدى الاستمرارية والقدرة على اجتذاب فئات تستطيع أن تحمل خيارات مستقلة بعنوان يساري جديد، إضافة إلى أن التغيير في ظل صراعات الطوائف وتحت سلطة الهيمنة السورية يحتاج إلى نضال طويل وصعب، والكثير من الصمود وحتى الانكفاء في أحيان كثيرة، وهذه الوقائع والاعتبارات كانت من أسباب عزوف أبو خالد عن إعادة اطلاق المنظمة خصوصاً بعد اشتداد الإطباق السوري وأذرعه على البلد.
كان لتجربة محسن ابراهيم اليسارية وزن استثنائي جعلته يتصدر المراجعة النقدية الصريحة والشفافة، ليس لمشاركته في الحرب الأهلية فحسب، إنما للخيارات الفكرية لمنظمته، إلى حد لم يستطع أحد أن يتجرأ على خوض غمارها. بناء اليسار مجدداً وعملية التغيير مسألتان شاقتان. الطوائف كتل لا يمكن خرقها وهي مستعدة للمغامرة بالبلد عبر العنف الأهلي، فيما الأحزاب لم تكن قادرة على القيام بمراجعات تاريخية، لكن محسن ابراهيم أطلق المراجعة النقدية في محاولة لإعادة الاعتبار لمعنى الأفكار وللسياسة ولدور الحزب، وانكفأ إلى الخلف أمام آلة القتل والاغتيال. الحقيقة، ربما كانت كلمته الشهيرة في آب 2005 في ذكرى أربعين اغتيال جورج حاوي، نعياً للأحزاب، فهو قدم نقداً ذاتياً لتجربة الحركة الوطنية، على الأقل علناً سمعه أهل اليسار وقوى الطوائف والأحزاب والرأي العام، لكنه كان في صلب مراجعته قبل سنوات، وعندما أعلنه بان عقم الحياة السياسية التي دجنتها سلطة الوصاية السورية وقوى الطوائف تحت رايتها. قال أبو خالد إن “الحركة الوطنية في معرض دعمها نضال الشعب الفلسطيني ذهبت بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وانصافاً”. أما الخطأ الثاني ، “فهو استسهالنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديموقراطي”. كان محسن ابراهيم في كلمته يشير إلى أن التغيير ربما بات صعباً جداً، وينبه إلى أن الحروب وسياسات الطوائف والمذاهب والرهانات على الخارج تحمّل لبنان كله ما لا يحتمل أيضاً، ونحن ندخل في أيام مظلمة سوداء.
يُنسب لمحسن ابراهيم خطّه طريق الخروج من الماضي، وعدم التنكر لتاريخه في الوقت نفسه، ففلسطين بقيت عنوانه الأول رغم كل المصائب والويلات التي حلت بمرجعيتها الوطنية وبقضيتها. وبينما كل اليسار، كان أسير الماضي ويستند إليه بما فيهم الحزب الشيوعي، من دون التقدم بمراجعة نقدية حقيقية، تقدم محسن ابراهيم وتحمل المسؤولية، وهو يعرف أنه سيتهم من أهل اليسار أنفسهم العاجزين عن شق مقاربة جديدة ومفردات للحاضر والمستقبل. ومنذ عام 1982 لم تكن القضية القيام بمصالحة وطنية شاملة أو طي صفحة الماضي وإغلاقها على عجل. رهانات يساريين آخرين كانت تنهض على محاولة إقناع أطراف السلطة والوصاية بالاعتراف بهم، ومنحهم مقاعد نيابية حتى لو كان الالتحاق ثمناً لذلك. والمسالة ليست الاعتذار، فذلك محاولة للهروب إلى الامام. النقد الذاتي والمراجعة الفكرية ليسا اعتذاراً على طريقة بعض اليسار وقوى الطوائف الأهلية التي تستسهل العنف، علماً أن اليسار استسهل ركوب سفيتة الحرب من أجل التغيير على قول ابراهيم. لذا لا يمكن الرهان على اقناع الطوائف بعدم استمرار مغامراتها واستسهالها العنف، واليسار لا يمكن أن يكون مؤثراً بالتحاقه فيها.
لم يخف محسن ابراهيم ولا مرة خوفه من انزلاق البلد الى حروب لا يعود معها الكيان موجوداً. النقد الذاتي الذي افتتح به محسن ابراهيم مراجعته النقدية منذ عام 1982 وإعادة بناء منظمة العمل الشيوعي لم تسمح له الظروف لاستكمالها، فخسرت المنظمة الكثير من رصيدها، طالما أن إعادة التأسيس على أفكار جديدة مسالة صعبة وتحتاج إلى النحت باللحم الحي. ربما لم يكن يريد هذا القائد اليساري أن تعاود المنظمة الانطلاق باسمه، فتأثيره بقي وسطوته وتجربته تطغى على أي عملية خروج إلى العلن بحلة جديدة، لذا بقي في دائرة الانكفاء، وإذا قيض لنا الاطلاع على المراجعات والنقاشات التي قادها ابراهيم في منظمته سنكتشف عمق الغنى الفكري في التجديد اليساري، وهي بالتأكيد تفتح على مجالات أرحب لإعادة بناء حزب يساري ديموقراطي علماني بعيداً من الهياكل الجامدة الأسيرة للماضي ولأمجاده التي تلاشت وانتهت معها الحياة السياسية في البلد.
محسن ابراهيم اليساري، رغم انكفائه توغل أكثر في يساريته هوية لا يحيد عنها فكرياً وسياسياً واجتماعياً. ربما كانت لديه أسرار كثيرة وحسابات في الطريقة التي اختار فيها الانزواء تجنباً للعصف الذي فتك بالبلد، لكنه وهو يخوض غمار المراجعة الفكرية الطويلة كان بحق يريد تجديد المنظمة بالعباءة الاشتراكية الأرحب والاوسع. لم يخرج ايضاً لإعلان إعادة إطلاق منظمة العمل الشيوعي، وهو الذي اختار الإنكفاء بدلاً من السعي إلى الالتحاق تحت سلطة الوصاية السورية منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي، على رغم إدلائه بمواقف سياسية في منعطفات مختلفة كان يمر بها البلد. اختار أن يكون خلف الستارة، وفي جعبته الكثير لقوله في الحياة السياسية اللبنانية وفي الوضع العربي وفي البرنامج الفكري وماركسيته التي أرادها إحدى روافد يساريته من الفضاء الاشتراكي. وبالمراجعة حسم في انتمائه الفكري بدل أن يبقى اسيراً لتحجر إيديولوجي لم يستطع الإجابة عن تساؤلات الإخفاقات العديدة.
الإنكفاء كلّفه الكثير في بلد توغلت فيه الاصطفافات الطائفية، ووصل إلى ذروة أزمته بحيث أن التغيير بات مسالة صعبة، وهو يبقى من مهمة اليسار، لكنه يسير متلازماً مع بناء حاضنة شعبية مستقلة. لم يُكتب لمحسن ابراهيم استكمال تجربته النقدية، لكنه أسس للثبات في موقع اليسار، والدفاع عن ضرورته اللبنانية. أما تجديد اليسار اللبناني، فلا يمكن أن يبقى عند اسوار الماضي، فهو يتطلب إعادة النظر بالهوية الفكرية وهذا ما فتح أبوابه محسن ابراهيم، فالأساس في هذه الهوية الفكرية أنها لم تعد تلتزم الماركسية اللينينية حرفياً، مجددة انتسابها إلى الإشتراكية، وهي التي تعيد الاعتبار للأصل الرحب، المتنوع والخصب للخيار الإشتراكي، ما يعني أنها أجنحة وتيارات واجتهادات ومواقف وخيارات.
انجز محسن ابراهيم في انكفائه مهمة صعبة في مسار التجديد، من دون أن يتهمه أحد بأنه تخلى عن عباءته اليسارية، فالتجديد ضرورة بعد انكفاء اضطراري قد يبرره كثيرون على رغم تفرّق الرفاق وانفراط عقد بعضهم وتوزعهم في مشارب مختلفة، وهذا الإنكفاء عن الممارسة السياسية العلنية منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي كان سببه الأول تحكّم سلطة الوصاية السورية وتكريس هيمنتها على مفاصل الحياة السياسية اللبنانية التي فقدت الحد الأدنى من استقلاليتها، ما جعل الحياة السياسية محصورة بالقوى الطائفية المشاركة في الحكم أو المعترضة عليه والمتضررة منه. لكن لا أحد يستطيع القول إن محسن ابراهيم من موقعه المستقل كان ملتحقاً بأحد أو مستشاراً لأحد، وإن كان في القضية الفلسطينية له دوره وموقعه التاريخي ومكانته واستشرافه، على رغم نكساتها واخفاقاتها وما حل بقياداتها.
غاب محسن ابراهيم بعد غياب اضطراري عن الساحة السياسية. كأن أحداً لم يتنبه إلى ذلك الدور التاريخي الذي ضحى بالكثير، لكن بقي خيار التجديد حاضراً بعيداً من الرهانات والمصالح والحسابات الضيقة.
في ذكرى رحيله الاولى، لا يمكن إلا أن نتحدث عن سيرة ناصعة، وان كانت تحمل الكثير من الجدل والإشكاليات، لكنها تفتح على آفاق ديموقراطية وعلى التأسيس ليسار ديموقراطي علماني جديد.
*صحافي وكاتب
Leave a Comment