وليد شقير*
حين يُفتقدُ رجال من أمثال محسن ابراهيم يُقاس الحنين إليهم بالأحداث التي وقعت في غيابهم، فتعود الذاكرة بالمرء إلى ما يمكن أن يكون موقفه إزاءها بالاستناد إلى فكره ومواقفه ونهجه. يمكننا أن نتخيّل خيبة هنا أو فرحة هناك، أو تريثاً في حالة ثالثة.
أحداث السنة الماضية من رحيل القائد السياسي الذي يفتقده كثر، على الصعيدين العربي واللبناني من الأهمية والضخامة اللتين تفرضان التبصر في ما كان يمكن أن تكون ردود فعله عليها.
في نوفمبر 1977 حين زار الرئيس المصري أنور السادات إسرائيل، مدشناً بذلك المسار السلمي مع الدولة العبرية، قال محسن ابراهيم إنه من “الصدف أن كمال جنبلاط ليس موجوداً في هذه الدنيا، فهو كان سيشهد على زيارة السادات إلى إسرائيل من دون أن يكون في إمكانه أن يفعل شيئاً للحؤول دون هذه الخطوة. لكان القهر الشديد أصابه”… كان كمال جنبلاط اغتيل قبل 9 أشهر.
ما قاله محسن ابراهيم ينطبق عليه راهناً، في شأن واحد من أحداث الأشهر الماضية ذات الأثر البالغ في مجريات تاريخية في المنطقة : ما الذي كان سيصيب الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي، المناضل القومي العربي، الفلسطيني الهوى الذي كان من أوائل من اعتقدوا أن فلسطين هي القضية المركزية، في زمن اندفاع دول عربية عدة نحو التطبيع مع إسرائيل في وقت لم يحصل الفلسطينيون على أي بارقة أمل بحقوقهم؟ لكان أصابه بدوره القهر الشديد، وذلك الانقباض النفسي والسياسي جرّاء ما آلت إليه دنيا العرب بنتيجة الصراعات الإقليمية. هذا مع أنه كان غادر منذ عقود ذلك الوهم بأن مسؤولية تحرير فلسطين تقع على الأنظمة العربية، لمصلحة الإيمان بأن لا بديل عن نهوض الحركة الوطنية الفلسطينية وتجددها، بين حركة مقاومة من جهة، وتفاوض من موقع الثورة من جهة أخرى، على تحصيل تلك الحقوق، في وجه الاستعمار الاستيطاني. هو راقب عن كثب مع أبو عمار وسائر القيادة الفلسطينية هذه العملية المزدوجة المعقدة، التي شكلت مرحلة من مراحل نضال الشعب الفلسطيني، لا سيما بعد انسحاب منظمة التحرير من لبنان تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي عام 1982 ، والذي دفعه في ذلك العام إلى إطلاق “حركة المقاومة اللبنانية” للاحتلال الإسرائيلي مع الشهيد الراحل جورج حاوي.
قبل أشهر من رحيله شهد محسن ابراهيم على بداية الانهيار المريع للاقتصاد اللبناني جراء تداعيات التزاوج بين فساد الطبقة السياسية ومصادرة القرار اللبناني بالقوة، لمصلحة توسع النفوذ الإيراني في المنطقة. فهذا التوسع فاقم أزمة البلد الاقتصادية، جرَّاء تعميقه عزلة لبنان العربية والدولية، بعد استخدامه منصة لخدمة أغراض طهران. كم كان يتمنى ألا يشهد على تلك اللحظة التي صار معها البلد مفلساً. ولربما ينطبق على خيبته ما آل إليه الوضع العربي حيال فلسطين، أن الاستعصاء اللبناني على التطويع، لم يتمكن من أن يحد من إلحاق لبنان بمشروع إقليمي يغير وجه البلد المنفتح وتاريخه التعددي، على رغم قناعته بأنه استعصاء راسخ ستصطدم به محاولات استتباع لبنان واللبنانيين، عاجلاً أم آجلاً.
حدث واحد كان ليُفرح محسن ابراهيم لو كان ما زال بيننا، هو الهبّة العارمة لفلسطينيي 1948 خلال حرب القدس-غزة التي شهدتها المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية خلال شهر أيار، احتجاجاً على مواصلة حكومة اليمين الإسرائيلية إجراءات تهويد القدس. في هذه الهبة، والانتفاضة الواسعة على امتداد فلسطين التاريخية، انطلاقاً من حي الشيخ جراح، ومن اقتحام المستوطنين المسجد الأقصى، ما يجعله يراهن على أن الجيل الجديد الذي سيستكمل الطريق، لم يخذل تطلعاته.
*صحافي ومحلل سياسي
Leave a Comment