مروان عبد العال*
من السهولة بمكان أن نحكم على الامور بأثر رجعي. ومن الصعوبة سبر غور تقييم سنوات البداية بكل ما فيها من آلآم المخاض وازمة الخيارات وصراع الافكار، وخاصة لجيل المؤسسين الكبار الذين شقوا الطريق، وبحجم الرفيق محسن إبراهيم، العابر في كل المراحل، رفيق البدايات دائماً من بداية الحركة القومية الى بداية الحركة الوطنية. من بداية صعود الثورة الفلسطينية إلى زمن الانسحاب. ومن صرخات الحلم إلى سكون الخيبة، ومن لحظة التمرد إلى مأثرة السكون. من بدايات رصاصات المقاومة الوطنية إلى رايات التحرير، “أبو خالد” ابن ورفيق القضية مع بداية الفكرة والطلقة والجدل الذي لم ينته.
في كل مناسبة يطيب لبعض رفاق البدايات من قيادة الجبهة يطلب مجالسته، بقصد التعرف على رأيه بأحداث شتى ومن موقع المختلف معه احياناً، في محاولة لقراءة تفكيره في الأمور من زاوية آخرى. منهج صحيح في إدارة الاختلاف، كيف ومتى نختلف دون قطيعة، ومعنى وضرورة النقد الذاتي، بقصد احداث تغيُّرات مرجوة في واقعنا الصعب والمعقد، الأولوية للنقد الذي يجعلنا أكثر قابلية للتطور.
لذا، فإن انتاج ابجديات الفكرة ظل محل جدل واسع على مر التاريخ، تطرق إليها معظم المفكرين، مهمة خلق الوعي عن طريق التحفيز النقدي او رفض القوالب الجامدة، فالفكرة المستهلكة والجاهزة بعيدة غالباً عن أن تكون فكرة حقيقية، ومن يتبناها لا يمكن أن ندرجه في قائمة المفكرين، بغض النظر عن قيمة هذه الفكرة، وعن اتفاقنا أو اختلافنا معها.
يوم اطلق محسن ابراهيم مراجعته النقدية كان يهدف إلى بناء مشروع تجديدي لليسار في لبنان، مع معايير جديدة ومعطيات موضوعية لقياس صدقية المواقف على اساسها، وعلى اعتبار أن تصحيح الأفكار واجب،
لقد انطلق من نقطة النهاية التي رافقها اثارة جديدة للجدل مجدداً. أراده نقداً ذاتياً لتجربة الحركة الوطنية التي كان امينها العام التنفيذي، بأن الحركة “في معرض دعمها نضال الشعب الفلسطيني ذهبت بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل”.
تستوجب ذكراه اليوم أن نستذكر البداية. نفتح الدفاتر القديمة لأسرار الذاكرة المليئة بالاسئلة العميقة والمتشعبة، في وثائق التأسيس وانطلاقاً من بديهية بسيطة انها ليست خارج الزمن، لأنها أصيلة وجدل ثوري قادة الرفيق محسن، و لم يتوقف يوماً. يستمر بمسميات اخرى في نقاش فكري معين ومشابه وفي كل اتجاه وقضية من القضايا، وتستذكر بعضها على لسان معاصريه، وقامات التأسيس والمناظرات والمناطحات الفكرية، ثم يجادلك أحدهم بواحدة من الأفكار الجاهزة ويعتقد أنها فكرته!
من نقطة البداية، لتجربته السياسية من سنوات التأسيس الأولى لحركة القوميين العرب حتى العام 1959 ، شكلت يومها الحركة لجنة سمّيت ” اللجنة الفكرية” أو “لجنة التثقيف” وأوكلت إلى الرفيق محسن إبراهيم مسؤولية اللجنة، وطلبت القيادة من اللجنة اعداد برامج تثقيفية للقاعدة الحزبية، ووضع وثائق تطرح فيها “فكر حركة القوميين العرب”. كانت الافكار خلافية وتأسيسية ولم تكن نهائية والنقاش بطبيعته يحتاج عقولاً منفتحة وتفكيراً متجدداً، وسلوكاً تحليلياً متشككاً ومنتقداً تارة ومتقبلاً ومتصالحاً مع الأخر. ويطرح النقيض تارة أخرى مما أدى الى الافتراق والاقتراب والتباعد والتقارب. والقضية الابرز وقتها الموقف من الوحدة بين مصر وسوريا حيث طُرحت فكرة حل الحركة والحاقها بالنظام الناصري، ووفق وثائق تؤرخ أن محسن إبراهيم هو صاحب هذه الفكرة.
في النهاية لا أحد يملك الحقيقة النهائية. أعدت اللجنة دراسة يسجل أنها أول عملية تقويم ومراجعة، أثارت نقاط الخلاف في مواقف الحركة وبعض شعاراتها، انطلاقاً من معايير المراجعة التي تكمن في تاريخيتها وموضوعيتها وشمولها، مع الاعتبار أن الفكرة وإن كانت تأسيسية فان حقيقتها تظل كمياه النهر الجاري، لا يمكن أن تتكرر، ولا أن تكون هي نفسها، ذلك أن المياه تجري وتتغير والأفكار كذلك. وعلى سبيل المثال أن الحركة كانت ترى أن كل يهودي هو صهيوني، اعتبر هذا ليس صحيحاً، وكانت الحركة تقول بالوحدة أياً كان الثمن، وأن أي وحدة بين دولتين عربيتين ستكون مفيدة. وجاء في الدراسة أن الوحدة بأي ثمن مسالة يجب أن تناقش، وأن الثمن رهن بتفاصيل هذه الوحدة. وفي المراجعة الفكرية عينها للحركة أُعيد النظر في شعار “الثأر” الذي ترفعه الحركة، بإعتباره شعار غير سياسي، والأفضل استبداله بتعبير اخر من نوع استرداد فلسطين أو تحرير فلسطين.
كان الرفيق جورج حبش يتحدث بشغف عن هذه الدراسة التي اعتبرها مراجعة جديّة وجديدة، وناضجة وجريئة، ولقد طرحت فيهما مواضيع الدراسة ما يتجاوز مسألة النهج والأسلوب، من أجل رؤية واضحة للمواضيع المطروحة، عن ضرورة الالتحام الكامل بالناصرية، ضمن “الحركة العربية الواحدة” جرى الاختلاف بين مفهوم التحالف مع الناصرية أو الالتحام. كما حسمت الترابط بين التحرر السياسي والاقتصادي… إلخ
إلى مؤتمر عام 1963، أكثر المؤتمرات التي عقدتها حركة القوميين العرب حدة. تبلور التيار الذي يدعو إلى الالتحام بالناصرية واخر ضد الفكرة، الاول سمى انفسه باليسار، والقيادة المؤسسة للحركة سميّت باليمين. فيما بعد اعتبرت المراجعات اللاحقة أن هذه التسميات نوعاً من الطفولة اليسارية، خاصة بعد نكسة حزيران 1967 يومها كتب الرفيق محسن ابراهيم مقالاً “لم يهزم عبد الناصر”. لكن بالنقد الذاتي الذي جاء ليؤكد الوقوف بأخلاقية مع عبد الناصر بعد الهزيمة وتحليل الهزيمة بأسلوب علمي وليس بالمزايدة.
كي نعرفه أكثر بعد سنة على غيابه، لنعود معه الى مقتبل الفكر وإلى أفق النهوض الأول قبل الانكسارات، إلى أفق التأسيس الرحب المزروع بالآمال وليس الخيبات، إلى المرحلة التي أسست صناعة الوعي من موقع الاختلاف و التنوُّع وكيف لعب مسؤول “اللجنة الفكرية” في الحركة دورًا رئيسيّاً في مناطحة السائد والمألوف في محاولة جدية من الاجتهاد والتغيير والابتكار.
اسهام البحث عن الحقيقة في مرحلة البناء تنبع من شجاعة اليأس، عبر الدعوة الشجاعة للجدل للخروج من الأزمة، فالمسؤولية الأخلاقية ينبغي أن تكون على قاعدة انصاف الحقيقة، حتى نجد انفسنا في اليوم التالي نتشظى ونتفسخ وضحايا الفكرة الزائفة ، حسب ما قاله الفيلسوف سلافوي جيجيك،«عندما يحاول أحدهم إقناعي بأنه على الرغم من كل المشكلات هناك ضوء في نهاية النفق يصبح ردي الفوري هو نعم، ضوء قطار آخر قادم ليدهسنا». احياناً يكون خيار شجاعاً ولكن ليس بالضرورة صحيحاً، لكنه نسبية الصواب أكون حينما تضيء الطريق للآخرين من أجل الخروج من المتاهة وليس الدخول فيها، ولكسر الدائرة المفرغة. في التعلم من الخطأ، قد لا يستطيع، ولكنه عليه أن يقول كيف نكسرها، وما السبيل للخروج منها؟ ومن أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر.
ننتصر بوعي الهزائم، بالاستقواء عليها وليس بها، بالمراجعة الدورية، التي اعتبرها أبو خالد مثل الواجب وطني، مهما كانت مساحة الاتفاق أو الاختلاف إن ضاقت أو اتسعت، لكنها مولّدة لمزيد من البحث والنقد والاستنتاج. ما نفقده في زمن النمطية والتهريج والتسطيح السياسي، وتحت ضغط اللحظة ووابل الأوامر والفكر المسقط والجامد والمسبق والمتسلط، يظل العزاء لمعشوقته فلسطين القضية المتجددة ، بلحم وحلم وروح ووطنية ووحدة ومقاومة شعبها، المقاومة المبدعة والمضحيّة والخلّاقة، العزاء للفكرة الحيّة، ولكن لا عزاء للافكار الميتة.
*كاتب وروائي فلسطيني ومسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان
Leave a Comment