محسن إبراهيم

رسالتك ذخراً ثميناً للأجيال الجديدة

 منيف فرج*

طلب مني الرفيق زكي طه، تدوين تجربتي الماضية مع الرفيق محسن إبراهيم. أخذني الطلب إلى البعيد، البعيد، ورحت أبحث عنها في الزوايا وما بين الحنايا. كانت رحلة طويلة فيها من العشق، ومرارة الحب. مع قائد كان رمزاً كبيراً، سكن عقلي طوال مدة كان النضال فيها شغلنا الشاغل لا غير، وبما تعنيه الكلمة في تلك الأيام. عشت معه طويلاً واختلفت معه كثيراً.

محسن إبراهيم رجل المراحل، قائداً ومؤسساً في حركة القوميين العرب، عاش ورحل قائداً في منظمة العمل الشيوعي.

محسن إبراهيم رواية يُبنى عليها. في الحبكة التي تحاول تفكيكها، نقف عند أول نقطة تبدو لك بعيدة المدى، هي عند المؤلف نص واقعي مرتبط بالحالة المعاشة.

عاش ورحل، في حياته كان المايسترو للعديد من المواقف والمنعطفات، يؤلف ويوزع ويوجه. وبعد الغياب بقيت مواقفه وآثاره ذُخراً لمن يواصل بعده الطريق.

مع أيام العمر الأولى ” أعوام الضياع” كنا ننضوي في الحركة، وكأننا في نظام عسكري، نسير خلف شعارات لا محدودية لها مع بداية التأسيس. فلسطين دوماً هي البوصلة التي أخذت الكثير من نضالاتنا تحت شعار “وحدة، تحرير، ثأر”، ونفذ ثم ناقش، “هذا إذا تيسر لك النقاش”. حكاية ليس لها نهاية، حكاية كانت “غامضة”. تبددت فيها أكثر أحلامنا، وسرنا بعدها في العراء مع ضوء خافت حسب قول الفيلسوف باسكال ” إن الشعار الذي لا يدرك حدوده هو براق وقد يلهي أو يخدع”. بعدها تأتي مرحلة جمال عبد الناصر، رجل مرحلة النضال القومي وتحرر الشعوب العربية من ظلام الاستبداد الذي حكم البلاد العربية وأفريقيا لتنهض خلالها الشعوب ضد الاستعمار.

محسن إبراهيم، راهب فكر، قادر على اجتراع المعرفة. تعددت مشارب فكره واختلفت موضوعاته، لأنه دائم البحث والتدقيق عند كل مرحلة، يضع الحلول ويرسم الطريق. كانت الحالة الناصرية بكل مقوماتها وانعكاساتها ترتسم في عقله. يفتح الطريق، ويطرح ويناقش في قيادة حركة القوميين العرب باعتبار أن الناصرية وما حملته فاقت بنضالاتها وإنجازاتها كل التصورات، ما يقودنا إلى الاندماج في حركة التحرر التي يقود واستعادة فلسطين. بعد مخاض عسير ونقاش طويل اصبح رفيق عبد الناصر والمحبب والمقرَّب منه.

محسن إبراهيم، كونه من المؤسسين الأول وما حمله من خصال فكراً، وثقافة، كان مسؤولاً عن لجنة الفكر بالحركة في لبنان، مع رفيقه عبد الحميد شرف من الاردن الطالب في الجامعة الاميركية، والمحامي جوزيف مغيزل من لبنان بعد انفصاله عن حزب الكتائب اللبنانية.

عام 1964 بدأت تتشكل في فكره وبعد المخاض العسير الذي بدأ يتبدل، يرتفع ثم ينحسر وتعترضه المعوّقات وركائز الانظمة الاستبدادية والجهل والفقر المدقع الذي كانت تعيشه شعوب الأمة العربية، راح يناقش ويطرح، يتقدم ويتراجع، نحو فكرة تبني الفكر المادي، المستوحى من الحركة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي، وبعد الاطلاع على فلسفة كارل ماركس لم يتردد، ولم يقف عند حدوده السابقة.

في المرحلة الأولى، نشأت فجوة صغيرة في قيادة الحركة، كانت بمثابة الإنذار المبكر لجميع الأعضاء. ترافقت مع إشارة للتدليل على وقع مثل هذا الطرح في زيارة لي برفقة عدنان فرح من مؤسسي الحركة، و الصديق حبيب كرشت من لبنان الى مركز قيادة اتحاد طلاب فلسطين في القاهرة، الذي كانت تسيطر عليه الحركة. كان الاستقبال بارداً باعتبارنا لبنانيين. يعني أننا من جماعة محسن إبراهيم.

نعم كان لطرحه بلبلة وصل مداه حدود الوطن العربي. وليستمر الهدوء الحذر مدة أربع سنوات، ليبدأ كل فريق وبأساليب جديدة في ممارسة العمل الحزبي، وطرح شعارات تمس حياة المواطن، بالإرتكاز على العمال والطبقة الفقيرة، أي العودة إلى الوطن إلى لبنان.

في المحصلة، ما يطرح الآن، يستشف منه محاكمة لأحزاب المرحلة الماضية، ورسالة تجدد للجيل القادم، والعودة إلى لبنان.

ولا يخفى أنها عنت عند الكثيرين صدمة، بعد تراكم الأفكار القومية على مدى سنين، وما شكلته صورة جمال عبد الناصر من نفحات عابقة امتدت شرقاً وغرباً، وكأنها أفكار لنضالات متعددة ولفكرة السير تحت وقع أوهام جديدة، صرنا نراها سيراً في أرض وعرة، لا نعلم سبلها ولا أفقها، ولم نكن مهيئين لذلك كله. الآخرون ساروا في الطريق الجديد لينتهي الأمر بهم إلى تأسيس منظمة لبنان الاشتراكي، ثم ليستقر الوضع على منظمة العمل الشيوعي التي ملأت الوطن اللبناني صخباً ونضالاً لا يهدأ. وبعد غياب و”ضياع ” لا حدود له جاءت وقفته واطلالته في اسبوع رفيقه ورفيق النضال جورج حاوي عام 2005 ليقدم نقداً وبالفم الملآن بالثقة عبر قوله: في معرض دعمنا نضال الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيداً في تحميل لبنان من الاعباء لمصلحة القضية الفلسطينية فوق ما يحمل طاقة وعدالة وانصافاً. والخطأ الثاني: استسهال ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي.

هي كلمات اختصرت حقيقة معاناة لبنان ومعاناة شعبنا دون أن نضع له حلولاً تقيه مما نراه ماثلاً اليوم من كوارث.

محسن إبراهيم، سكن العمل السياسي وسكنه العمل السياسي ، وتعددت نضالاته على مدى العمر، لا تخلو جلساته من فكاهة الحديث ودماثة الاخلاق. لكل الأسباب التي ذكرناها نجح في نضاله بتشكيل فرادة منظمة العمل الشيوعي.

أخيراً، اخفقنا في الوصول إلى المبتغى، وتركنا الطريق للفراغ، وسمحنا للميليشيات أن تتحكم برقاب شعبنا على مدى ثلاثين عاماً. ميليشيات تحكم بإسم الطائفية والمذهبية وتعيث فساداً.

رسالتك يوم رثاء رفيقك جورج حاوي رسالة حياة لجيل جديد، والعودة إلى لبنان الوطن بأسلوب ديمقراطي، يطمح إلى التغيير ويبني وطناً حدوده العالم. قابل للحياة، لا تحده الطوائف. مدني، علماني، ديمقراطي كما كنت تتمناه. هي رسالة أولاً “لرفاقك في المنظمة” وثانياً للجيل الجديد على درب التغيير.

* سياسي لبناني والرئيس السابق لمنتدى صور الثقافي 

Leave a Comment