سعد محيو*
الكتابة عن محسن إبراهيم تدفع فوراً إلى استحضار معنى وفلسفة التاريخ. وهذا لسبب وجيه: الحروب والغزوات والسياسات الجيوسياسية والمصلحية، لا تشكّل في الواقع سوى فقاعات على سطح سرديات الماضي. التاريخ الحقيقي (كما يقول اللورد أكتون عن حق ) هو ” صلابة القانون الأخلاقي الذي هو السر الحقيقي للسلطة والكرامة وجدوى التاريخ”.
في أواخر القرن الخامس عشر، باشر مايكل أنجلو رسم تحفة سقف كنيسة سيستينا في روما بتكليف من البابا يوليوس الثاني. حين فرغ من الأموال، توجّه إلى البابا الذي كان يخوض حينها حرباً ضروساً وأصرّ على مقابلته. رضخ البابا وترك هيئة أركانه العسكرية ليستمع إلى مايكل أنجلو، ففوجىء أنه لا يريد سوى المال لاستكمال عمله. مع ذلك، نقده ما يريد. حين عاد البابا إلى روما، هرع إليه الفنان وفي رأسه سؤال قضّ مضجعه ليال طويلة: كيف تركت الحرب والقتال والجنود وقبلت أن تقابل فناناً أعزل؟ فرد البابا سريعا: حين سيكتبون التاريخ، قد يذكرون هذه الحرب في جملة أو نصف جملة، لكن عملك الفني أنت سيدخلني التاريخ من أوسع أبوابه وإلى أجيال طويلة”.
والآن، ستبدأ كتابة تاريخ محسن إبراهيم. وستكون هذه الكتابة من ألفها إلى الياء ترجمة للقانون الأخلاقي الذي تمسّك بها هذا الرجل، وبقي سائراً على دربه حتى رحيله، على رغم التلوّث الهائل الذي ضرب لبنان وكل المنطقة، فجعل السياسة تجارة في أحسن الأحوال وتبعية مصلحية في أسوئها، وأحال الضمير والأخلاق إلى رفوف التاريخ بصفتهما من أدوات مثاليات مُنقرضة، وأغلق الأبواب والنوافذ أمام ما تبقى من القيم والمبادىء.
نعم. لم يكن محسن إبراهيم رجل سياسة رغم واقعيته الشديدة. هذه الواقعية خضعت دائماً إلى الخطوط الحمراء لمبادئه. وحين لم يعد بالامكان التوفيق بين الواقعية السياسية وبين المبادىء القيمية والقانون الأخلاقي، أقدم الرجل على ما لم يقدم عليه قائد آخر في طول المنطقة وعرضها: انكفأ بهدوء هو ومن بقي من رفاقه الأوفياء، وأطلق في الوقت ذاته العنان لقيمة روحانية أخرى هي النقد الذاتي للنفس والسياسات والتوجهات.
وأي نقد ذاتي هذا كان حقا: انبرى بشجاعة فائقة ليدين كارثة انخراط الحركة الوطنية اللبنانية في الحرب الطائفية (1975-1989)، وليعلن ضمناً أن ياسين الحافظ كان على حق حين ندّد منذ الطلقة الأولى لرصاصة الحرب الأهلية بانخراط اليسار في حمأة هذا الصراع البربري ماقبل الوطني وما قبل الحديث.
الشجاعة الفائقة نفسها كانت وراء قدرة الرجل، وهو في ذروة تمسّكه بالقضية الفلسطينية تاريخاً وحاضراً ومستقبلا، على نقد قيام الحركة الوطنية بتحميل هذا البلد الصغير والمتشظي طائفياً ما لا يحتمل من تبعات وأثقال هذه القضية المقدّسة.
أجل. سيرد ذكر محسن إبراهيم في أدبيات تأسيس حركة القومية العربية، ولبنان الإشتراكي، ثم منظمة العمل الشيوعي، ولن تكون هذه الإشارات إيجابية كلها، لأن هذه التيارات المنتمية إلى حركة التحرر الوطني كانت قد سقطت مضرجة بدمائها في كل أنحاء العالم الواحدة تلو الأخرى: من مصر عبد الناصر وجزائر أحمد بن بيلا إلى سوكارنو إندونيسيا ولومومبا الكونغو وغيفارا كوبا، وصولاً إلى انهيار كل الصروح الإشتراكية وبدء “نهاية التاريخ” العام 1991.
لكن هذا سيكون تقييماً مؤقتا. فالأجيال المقبلة ستكون في حاجة للإفادة من تجارب محسن إبراهيم في التأسيس من جديد لوطنية عربية ديمقراطية، حين ينزاح كابوس حرب الثلاثين عاماً الطائفية الجيوسياسية الراهنة في المنطقة. كما ستكون في حاجة لاجتهاداته الطبقية حين يعود كارل ماركس حتماً إلى القرن الحادي والعشرين ليقارع العولمة التكنو- رأسمالية المدمّرة للعمل والعمال والفلاحين وللقيم والبيئة الطبيعية، وليقدّم الحلول لمشاكل الثورة التكنولوجية الرابعة ومضاعفاتها.
لكن الأهم أن هذه الأجيال ستكون في أمس الحاجة للإبحار في سفينة القانون الأخلاقي التي صنعها الرجل، القادرة وحدها على نقلها إلى بر الأمان الفكري والسايكولوجي والمادي.
* * *
في آخر لقاء لي مع أبي خالد في منزل المحامي ناجي بيضون، كنت أنظر إليه وتتوالى في ذهني صفحات تجربتي الغنية في منظمة العمل الشيوعي معه ومع مسؤولنا الحزبي فواز طرابلسي. لكني فجأة انتفضت وكأن جرساً قوياً أيقظني من سهوة تداعي الأفكار، وقلت لمحسن إبراهيم بصوت ملعلع: بربك، قل لي كيف أمكنك الخروج من أضواء السلطة والشهرة والأدوار بهذه السهولة الفائقة؟
حدّق بي أبوخالد قليلاً، لكنه لم ينبس ببنت شفة. اكتفى برسم ابتسامة سريعة على وجهه… وأنا فهمت ما يعني.
*مفكر وكاتب وصحفي لبناني
Leave a Comment