الدكتورعبدالله رزق*
وحده يبقى الرمز متحدياً جائحة الفناء،
وحده يبقى متألقاً في حالكات الأيام،
فهو الجوهر الفرد في سلك الحياة المديد،
هو المطر الضوئي، الذي لم ولن ينقطع، إلا على تواصلٍ من فيضه المبدع جرى ويجري نسخ التطور والتحول في عروق لبنان والمنطقة.
وعلى إيقاعه، الذي كان خلاقاً، توالدت الخصوبة وتوهجت النضارة.
من الصعب أو المستحيل العثور على أمثاله في متاهة المصادفات والحياة.
لم يكن ثوباً معاراً، يلجأ إلى ارتدائه تطلباً لمكسبٍ أو معبراً لمنزلةٍ أو جاه.
نعم هوصنيعة الذات الإنسانية، في توحدها بشرطيّ الوعي التاريخي لكل مرحلة، والخيار النبيل الشجاع.
أليس وحده بعد تلك الحروب اللعينة، استجمع الجرأة والإقدام وقام بقراءة نقدية للمرحلة السابقة، وطمح لإجتراح معجزة اليسار المتأقلم مع المرحلة وتطلعات التغيير؟!
من هذا المعدن المضيء الأصيل، جاء محسن ابراهيم، ثم تجسد في مراتب الكفاح، رمزاً لقيم الحرية والعدالة وبناء الجديد.
محسن ابراهيم، كان مسكوناً حتى الجمام بقضية الإنسان في أرضه أو أرض الله الواسعة.
من هنا كان الضوء، منذ بداياته في حركة القوميين العرب،وفي منظمة العمل الشيوعي،وهو الذي اشتغل في عتمة الأيام الكالحات في الحرب المدمرة، أميناً عاماً للحركة الوطنية، ورائداً متربعاً في البرنامج الإصلاحي للبنان.
ولم يكن مجرد من ساهم في مواجهة المحن العامة وتفجر التحديات، فإنحاز إلى فلسطين فكراً وممارسة، وقد تعدى تأثيره الإيجابي كل حدود، فكان صوت لبنان في فلسطين، وصوت فلسطين في لبنان.
وبعد أن احتُلت عاصمة لبنان،وأطلق بصوته المدوي مع زميله وتوأمه جورج حاوي، نداء المقاومة والإقدام فكانت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، الإنجاز التاريخي لشعب لبنان وعظمته.
وظل يشتغل ضؤاً، حين تكاثرت المحن السوداء، فانحاز لا بل ودعا إلى الإنحياز للمواجهة الشاملة الأشد ضراوةً والأوفر بالجبهات الساخنة.
سكت فترةً، لكنه لم يغادر موقعه على ساحة النضال في هذا الزمن العربي المتخم بالهزائم والإنهيارات، فدخل بوعيه الريادي وخياره الشجاع، دائرة الإنكفاء عن لعبة المتاجرة والمبايعة، التي أرهقت لبنان وأسست لإنهياره الحالي بعد السنوات الثلاثين العجاف في عمر الوصاية والسلطة المتعرية من الخجل وومضة الضمير.
قاتل محسن ابراهيم، قتال الشهداء، دفاعاً عن حرية العرب واستقلال أقطارهم وتقدم مجتمعاتهم.
وفي أوج استنتاجه بإستحالة الخيار الحر دفاعاً عن الوطن والدولة، لم يترك الخال “حبيب صادق” وحيداً في معاركه الوطنية والديمقراطية،فزامله ناصحاً ومواكباً في كل مرحلة من ثبات دعوته ونشاطه من أجل جنوبٍ مقاوم، ومن أجل ثقافةٍ وطنية وديمقراطية، ومن أجل أن يكون صوتاً مغايراً في الندوة النيابية. فلازم سعي حبيب صادق لخيارٍ ديمقراطي في الإنتخابات وسعي اعتراضي مشع في المنبر الديمقراطي،الذي أُغتيل على مذبح المحاصصات وانحراف التعصب الطائفي والمذهبي.
نذكره وننعم بصفاء ذهنه وإقتراحاته المنيرة دائماً نحن في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، حين كانت الكلمة الصادقة صوتاً مبحوحاً، وهي تدافع عن إسقلال لبنان وحرية ابنائه، واستعادة الوطن، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية التي تدير أمور الناس في رعاية القانون والمؤسسات.
نعم هكذا هو أبا خالد، مقاتل ثوري مصقول كوجه السيف، وصارم كحده المرهف. لم يساوم على قضية يرى فيها دعوة للإستنهاض، ولم يهادن في قتالٍ من أجل سيادة العقل والحرية. مضى قدماً في أحلك الظروف، مخترقاً القشرة المتحجرة، مواجهاً سدنة القهر الطبقي وكُهان التبعية.
سلاحه فكر الطليعة وإيمان الرسل في المواجهة والاختراق. اختار الفقراء والكادحين والمثقفين الثوريين رفاقاً له من أبناء شعبه وأبناء أمته العربية. غايته الكبرى تحويل الثابت وتغيير المستقر تأسيساً لوطن العروبة الديمقراطي الجميل.
من هذه الطينة محسن ابراهيم، ومن هذه الوجوه المشعة في حياة شعبٍ ونضال أمة، هل يمكن ألا يبقى خالداً؟ وأن لا يحُفَر ذكره في وجدان كل المناضلين الشرفاء اللذين يتابعون المسيرة الشاقة تحقيقاً للأهداف النبيلة التي كان له شرف تكريس الكثير منها فكراً وسلوكاً وممارسة؟ أتى محسن ابراهيم، شامخ القامة، متلع الجبين فكان في الطليعة من أبناء الأفكار المتجددة، أبوابه مشرعة للشمس والهواء الطلق وعيون الخلق…أتى كماء الغمام مدججاً بالقيم والفضائل، محصناً بالترفع والعفة والإباء. لم يطمع بسلطانٍ أو جاهٍ فحفر عميقاً في ذاكرة ووجدان المناضلين على اتساع المساحة العربية.
أجل أيها الخبير الثقة في شؤون السياسة وشجون السياسيين في هذا البلد وفي غيره من البلاد الواسعة، لو طال بك العمر، إلى أيامنا السوداء الكالحة، لأستبد بك العجب وأخذتك، من حالنا، جائحتان: سورة من غضب ونوبة من حزنٍ وإشفاق. فالسياسة اليوم عند من يفترض بهم بلورة مشروع الإنقاذ هي غياب واضطراب في بلد حُشر في مركب يتيم ضائع تتقاذفه عاتيات الأمواج وتتلاعب به هُوجَ الأنواءِ متربصةً به غيلان المهالك، حتى انها لم تُبقِ منه شيئاً… لكن مهما اشتدت الظلمات سيبقى لنا من حكاياتك، قبساً من أمل وضعته فينا أنت وأمثالك، سنشحذ الهمم صوب ما آمنت به ودعوتنا إليه…
لك في عليائك كل التحية والتقدير، ولنا كل الأمل لأننا عشنا في زمنك، وتدربنا على هديك… في الخلاص الأكيد من الليل السديم.
*نائب الأمين العام للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي
Leave a Comment