د. سعود المولى*
حديثي عن محسن إبراهيم هو في جانب كبير منه كلام عن سيرتي الفكرية والنضالية، إذ هي متصلة تماماً بما كانه وبما مثله… وحين أحكي عنه فإنما أروي بعضاً من ذاتي وهو الأجمل في حياتي.
لقد تأثرت في مسيرتي بعدد من الشخصيات أبرزها على التوالي: محسن إبراهيم- منير شفيق- خليل الوزير- كمال جنبلاط- موسى الصدر- ومحمد مهدي شمس الدين.
لكن محسن إبراهيم كان ويبقى هو معلمي الأول والأخير.
تعرفت عليه أولًا من كتاباته وأنا صغير السن، إذ كنت اقرأ مجلة الحرية منذ العام 1965. وكذلك كل ما تجلبه شقيقتي هيام من كتب ومنشورات وهي التي كانت من أوائل المناضلات في حركة القوميين العرب. أذكر هنا كتابين كان لهما الأثر الكبير في تكويني (نسخي من الكتابين تعود للعام 1965 وقد حصلت عليهما يومها من شقيقتي): الأول عنوانه: “الحركة القومية كما نفهمها”، وهو كراس صغير صدر عن النادي الثقافي العربي ببغداد عام 1961، شرح فيه أبو خالد مفهومه للحركة القومية العربية الحديثة بوصفها “دعوة للمساواة بين الأمم والحرية لكل الشعوب” ، و”حركة إنسانية تحررية… من حيث سعيها لتقويض الاستعمار وجميع مظاهر التسلط الدولي ومن حيث مناداتها بالسلام المؤسس على العدل”… والكتاب الثاني هو “في الديمقراطية والثورة والتنظيم الشعبي” ، صدر عام 1962 (وهو تجميع لمقالات نشرتها مجلة الحرية عقب “نكسة الانفصال”) ، وفيه طرح محسن إبراهيم “قضايا الثورة العربية المعاصرة وخط سيرها والمشكلات الفكرية التي تجابهها”، خصوصًا “ضعف البنية الشعبية للنضال العربي والحاجة إلى أن تؤسس العقلية العربية الثورية نفسها نهائياً على قاعدة الإيمان بدور الشعب في صنع نهضته”… وقدم أبو خالد في الكتاب أول قراءة نقدية لدروس الانفصال، وللتجربة الناصرية مع دعوة لاستعادتها شعبيًا عبر قيام “تنظيمات شعبية ثورية مستقلة عن الحكم والدولة”، ووجود “مناخ سياسي يوفر الحرية لهذه المبادرة الشعبية ويستثيرها ويشجعها”. وأن “تتبلور هذه المبادرة على شكل تجربة حزبية هي الصيغة الأكمل لتجسيد فكرة التنظيم الشعبي… وعلى قاعدة الاتجاه الاشتراكي الثوري”… وحمل الكتاب “مناقشة للصيغة التطبيقية للديمقراطية الاشتراكية العربية”. تصوروا شاباً فتياً مثلي في مقتبل عمره يبدأ حياته العملية والفكرية بقراءة هذه الكتب الطليعية السابقة لزمانها. وتصوروا كم كان أبو خالد مميزاً وألمعياً في طرح الإشكاليات والأسئلة الحقيقية أمام حركة التحرر العربي ومنذ ذلك الوقت المبكر.
في تشرين الأول من العام 1967 انتسبت إلى الحركة في كافيتريا كلية التربية بحضور هيام وعدد من رفاقها في الحركة من طلاب الكلية يومذاك. وفي أواخر عام 1968- مطلع عام 1969 كنت أحد ممثلي “يسار حركة القوميين العرب” في قيادة الإضراب الكبير والاعتصامات واحتلال الثانويات والجامعات، احتجاجاً على التقاعس الرسمي في التصدي للعدوان الصهيوني على مطار بيروت. وفي شباط 1969 صدر بيان الإعلان عن حل اللجنة التنفيذية القومية للحركة والتحوُّل نحو بناء حلقات ماركسية لينينية. وكان البيان مطبوعاً في كراس من ورق أبيض متوسط الحجم استلمته من محسن شخصياً في مكاتب مجلة “الحرية” في منطقة رأس النبع. كانت مهمتي توزيع الكراس في ثانويات طرابلس الرسمية والخاصة ودار المعلمين والمعلمات. ثم التقيت أبو خالد مرة جديدة أثناء التحضير لتظاهرة 23 نيسان التاريخية. كنا قد حضرنا من طرابلس في باص كبير، ولعله كان هناك باصات أخرى، ونزلنا إلى مكاتب الحرية للاستعداد لساعة الصفر. وانعقد اجتماع التحضير في نادي الرواد، وكان أبو خالد يطرح قضية حماية العمل الفدائي في لبنان وأسباب وأهداف التظاهرة والهتافات واللافتات والشعارات التي علينا حملها وخطة السير واحتمالات المواجهة. هنا اكتشفت محسن إبراهيم القائد الميداني والمنظم الجماهيري والمحترف الثوري. في صيف 1969 انتقلت من طرابلس إلى بيروت وبدأت علاقتي التنظيمية تترسخ. وفي آخر عام 1969 أتيح لي اللقاء بأبو خالد مرة جديدة ومطولة، وذلك في مؤتمر عقده الجناح اليساري للحركة في بيت بمخيم برج البراجنة. سحرتني لغته وروحه المرحة، وفي الوقت عينه جديته وخطورة المواضيع التي كان يطرحها. كان ذلك اللقاء أحد مقدمات الإعلان عن تشكيل منظمة الاشتراكيين اللبنانيين. وكانت موضوعاته التي طرحها أبو خالد على مدى يومين هي التي صدرت لاحقًا في كتابه: “لماذا منظمة الاشتراكيين اللبنانيين: حركة القوميين العرب من الفاشية إلى الناصرية- تحليل ونقد”. وكان هذا الكتاب من أنضج وأدق ما قرأت في فهم المسألة اللبنانية والمسألة العربية والعلاقة بينهما، وفي فهم موقع المسألة الفلسطينية ضمن حركة التحرر العربي.
في الذكرى الأولى لمجزرة 23 نيسان نظم “تجمع الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية و التقدمية” (وكان يضم منظمة الاشتراكيين اللبنانيين- لبنان الاشتراكي- اتحاد الشيوعيين اللبنانيين- الحركة اللبنانية المساندة لفتح- حزب البعث اليساري- المستقلون التقدميون) مهرجانًا حاشدًا في سينما كابيتول ألقى فيه محسن إبراهيم كلمة منظمة الاشتراكيين اللبنانيين (ومحمود سويد كلمة لبنان الاشتراكي)… ولا تزال بعض المقاطع من كلمة أبو خالد ترن في أذني كأنني أسمعها اليوم :”إن معركة 23 نيسان كانت فاتحة تحولات… ووراء الرصاص الذي لعلع بغزارة مساء ذلك الأربعاء الدامي من نيسان…”.
أذكر هذه الحوادث لأقول كم كان محسن إبراهيم شفافاً في قربه من الناس بآمالها وآلامها وبأحزانها وأفراحها، وكم كان يعبر عن نبض الناس في أوقات تمردها وثورتها، وكم كان يلتقط بحسه المرهف وبذكائه الفطري حقيقة اللحظة السياسية الراهنة ليبني عليها مشروعاً وبرنامجاً… وهذا ما أهله ليتبوأ لاحقاً مركز القائد في الحركة الوطنية اللبنانية إلى جانب كمال جنبلاط وجورج حاوي.
خروجي من المنظمة عام 1972 (لأسباب ليس هنا مجالها) لم يكن خروجاً عدائياً بل انسحاباً سلساً هادئاً، إذ بقيت علاقتي بمحسن وبكل الرفاق علاقة أخوية ورفاقية وهم يشهدون على ذلك. وجاءت الحرب الأهلية لتعيد العلاقة التي تجددت ونضجت في خضم المواجهات السياسية والعسكرية التي خضناها خصوصاً في الجنوب. فقد وقفنا في الكتيبة الطلابية إلى جانب رفاقنا في منظمة العمل الشيوعي ندافع عن الجنوب، وصنعنا وإياهم ملحمة بنت جبيل وكرامة 1978 فاختلطت الدماء مجدداً وكان ذلك فاتحة تعاون جديد ومديد. فقد كان محسن إبراهيم الوحيد الذي لم يتخل عن الثورة الفلسطينية بعد اجتياح 1982. لم يتنازل محسن عن أي من ثوابت العمل الوطني اللبناني والفلسطيني، وحمل إرث كمال جنبلاط والحركة الوطنية ورفض أن يبيع المنظمة أو هذا الإرث، إلى أي نظام عربي وخصوصاً النظام السوري، ما جعله عرضة هو ورفاق المنظمة لحملة اضطهاد استمرت طويلاً. ووحدت تهمة العرفاتية بيننا مجدداً. كان محسن هو نفسه القائد الصلب الشامخ والأب الذي يحمي أولاده… وأذكر هنا حادثة لطيفة… كنا في منزل الشيخ محمد مهدي شمس الدين أنا والسيد هاني فحص والدكتور محمد عبد الحميد بيضون وجاء محسن لزيارته، وبينما نحن جالسون نستعيد بعض الذكريات دخل علينا الشيخ وأغرق في الضحك حين شاهد جلستنا. هنا وقف محسن وقال له: أولئك أبنائي فجئني بمثلهم… نعم والحق إن عشرات المثقفين والإعلاميين والناشطين والحزبيين كانوا من أبناء هذا الرجل العظيم ولا ينكر ذلك إلا جاحد أو منافق.
ثم إن محسن إبراهيم كان أول من التقط وفهم دلالات التحولات التي كانت تجري في بلدان المعسكر السوفياتي وأول (ولعله الوحيد من الماركسيين العرب) الذي تجرأ على تقديم نقد واضح وتفصيلي لكل التجربة الاشتراكية والماركسية العربية ولأساساتها النظرية. ولا أبالغ إذ أقول إن هذا النقد هو أهم ما قرأته في مجاله (كراس: “في الاشتراكية-نص نقدي تحليلي”، الصادر منتصف نيسان 1993).
ومن فهمه ونقده للتجربة السابقة أكانت ماركسية أم قومية عربية (وقد تميز محسن دائماً بأنه السباق في ممارسة التقد والنقد الذاتي كما تشهد بذلك مسيرته الفكرية والنضالية) انتقل محسن إلى نقد تجربتنا الوطنية اللبنانية، فكان أول من وضع (من الماركسيين وأحزاب الحركة الوطنية) أسس القبول بالتسويات النبيلة العادلة التي تؤسس الأوطان وتبني الدول (العقد الاجتماعي بالطبع)، وأول من نادى من الماركسيين واليساريين العرب بالمصالحة الوطنية والسلم الأهلي، وأول من فهم أن الأولوية هي لاستعادة الوطن وتوحيده وبناء الدولة المدنية الوطنية الديمقراطية، وليس لأي شيء آخر. ويكفي هنا أن نقرأ نقده الذاتي لتجربة الحركة الوطنية في الحرب الأهلية وخلاصته قوله إنه “لا يريد الإفلات من مسؤولية النقد الصريح لما كان من أخطاء هذه الحركة الوطنية وبعضه كان قاتلًا: الخطأ الأول إننا في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيدًا في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وإنصافًا. والخطأ الثاني إننا استسهلنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم إختصار الطريق إلى التغيير الديموقراطي. فكان ما كان تحت وطأة هذين الخطأين من تداعيات سلبية خطيرة طاولت بنية البلد ووجهت ضربة كبرى إلى الحركة الوطنية وفي القلب منها يسارها الذي كان واعداً في يوم من الأيام”.
نعم كان اليسار اللبناني واعداً في يوم من الأيام مع كمال جنبلاط ومحسن إبراهيم وجورج حاوي… نعم أخطأنا جميعنا كلبنانيين وكيساريين وكوطنيين…نعم مارسنا النقد الذاتي وواصلنا السير خلف الحلم الكبير… نعم كنا نحلم بالتغيير وما زلنا… نعم كنا نحب محسن إبراهيم ولا نزال… نعم كنا مهما اختلفت بنا الأفكار والآراء والسياسات أبناء هذا المعلم الذي أعطى للبنان والأمة العربية أحلى ساعات أحلامها وآمالها.
* باحث مشارك في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومدير وحدة ترجمة الكتب. حاصل على درجة الدكتوراه في الحضارة الإسلامية …
Leave a Comment