كمال حمدان*
بدأ اسم محسن ابراهيم يتردّد على مسامعنا خلال بداية انخراطنا في الحركة الطلابية في أواسط الستينيات. كنت أتابع يومها دراستي الثانوية في مدرسة الليسيه الفرنسية القائمة قبل هدمها في منطقة الناصرة، وكان لليسار اللبناني بتنويعاته القومية والعلمانية والشيوعية دور فاعل في تلك المدرسة. وانتقلت بعدها الى الجامعة اليسوعية خريف عام 1967 في وقت كانت تجري تحوّلات ذات أهمية استثنائية على الصعيدين العربي واللبناني. على الصعيد العربي، كانت هزيمة حزيران عام 1967، وبدء تدفق المقاتلين الفلسطينيين الى لبنان خصوصا بعد تصفيتهم في الأردن عام 1970. وعلى الصعيد اللبناني، كانت بدايات الانقسام حول الموضوع الفلسطيني ونشوء الحلف الثلاثي في الانتخابات النيابية لعام 1968. كما كانت التحوّلات الكبرى داخل تشكيلات اليسار اللبناني. وشملت هذه التحوّلات بداية انتقال حركة القوميين العرب من عقيدتها القومية في اتجاه العقيدة الاشتراكية، وصولا الى تبنّيها الصريح للشيوعية بعد سنوات قليلة، كردّ على نكسة عام 1967. كما شملت أيضا تمكّن الحزب الشيوعي اللبناني من عقد مؤتمره الثاني عام 1968 بعد طول انتظار لمدّة خمسة وعشرين عاماً على انعقاد مؤتمره الأول. وكان معبّراً تزامن هذين الحدثين اللذين ساهما – رغم هنيهات التعارض والتباين العابرة بينهما – في تعزيز اتجاه تشكيلات اليسار اللبناني عموما نحو مساحات أوسع من التلاقي على المستوى الوطني. ففي حين كان القوميون العرب يديرون وجههم نحو الشيوعية، كان الشيوعيون اللبنانيون يعيدون النظر في موقفهم من القضية القومية وبخاصة القضية الفلسطينية.
لقد شكّلت الطروحات الفكرية والسياسية الجديدة والجريئة التي أطلقها محسن ابراهيم في معرض هذا الانتقال المزدوج والمتسارع من القومية الى الاشتراكية فالى الشيوعية، فرصة مؤاتية لإغناء وتوسيع دائرة النقاش بين التيّارات اليسارية المختلفة آنذاك. واحتدمت حدّة هذا النقاش بشكل خاص في مطلع السبعينيات حيث ارتدى الطابع الندّي، وشمل مروحة واسعة من الموضوعات، ومن ضمنها: العناصر المستجدّة في اجتهادات الماركسيين اللبنانيين بشأن الموقف من القضية القومية وبخاصة القضية الفلسطينية؛ والجدل الصعب حول محدّدات التموضع إزاء الأنظمة العربية التي كان يتعارف على تسميتها بالتقدمية (لا سيما مصر وسوريا والعراق)، وحول حدود التحالف معها أو التمايز عنها، ارتباطا بتفاوت توجّهات هذه الأنظمة؛ والتعمّق في مقاربة العلاقة بين النضال من أجل التحرّر الوطني والنضال من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي، تجنّبا للغرق مجدّداً في مستنقع “القوموية” أو مستنقع “الانعزال”؛ والبدء في بلورة مضمون وتوجّهات البرامج المرحلية للإصلاح السياسي والاقتصادي في لبنان بعد تشخيص السمة الأساسية للمرحلة (آنذاك) بأبعادها الطبقية والوطنية وما تتطلّبه من تحالفات في الداخل وفي الخارج؛ والشروع كذلك في ترجمة الارهاصات الأولى لهذه التحالفات عبر التدرّج في إنشاء جبهات للقوى والشخصيات الوطنية (أواسط الستينيات) في انتظار أن تنضج ظروف قيام الحركة الوطنية اللبنانية في أواسط السبعينيات.
إن المجال لا يتسع لتفصيل الدور الفاعل والمميّز الذي لعبه محسن ابراهيم في قيام الحركة الوطنية اللبنانية، وبخاصة في حقبة الحرب الأهلية. وهذا الدور كان يستمدّ فعاليته ليس فقط من المزايا الشخصية الاستثنائية لمحسن ابراهيم، كسياسي ومثقّف ومناضل، بل كان يستمدّه أيضا من قوّة العلاقة التي كانت تربطه بزعيم الحركة الوطنية الشهيد كمال جنبلاط من جهة، وأمين عام الحزب الشيوعي اللبناني الشهيد جورج حاوي من جهة ثانية. وبالاستناد الى هذه المزايا الشخصية والعلاقات، تحوّل محسن ابراهيم إلى ركن أساسي في الحركة الوطنية، وكان حاضراً بقوّة في محطاتها الحاسمة، وجميع قراراتها وخطواتها التنفيذية المفصّلة: فمن نسج وإدارة التحالفات في الجانب اللبناني مع قوى سياسية شديدة التنوّع وغبر محصورة فقط في الاطار اليساري؛ إلى السهر عن كثب على العلاقة الصعبة أحياناً بين التشكيلات اللبنانية المنضوية في الحركة الوطنية، وبين فصائل المقاومة الفلسطينية المنتشرة في لبنان؛ إلى المتابعة المتأنية للجهود المتعلقة بتنظيم الأحوال المعيشية للمواطنين عبر تفعيل وتطوير تجربة الإدارة المدنية من قبل الحركة الوطنية؛ إلى مواكبة وتنظيم الجهود المبذولة مع قوى وأطراف ودول خارجية، تأميناً للحصول على دعمها السياسي والاقتصادي. وفي هذه الحقول كافة، كان لمحسن ابراهيم الحضور البارز والقوي والمبادرات التي لا تمحى آثارها.
بيد أن أجمل وأوضح ما طبع مسيرة محسن ابراهيم النضالية يتجلّى في توقيعه – باللحم الحيّ ومن قلب جبهات القتال – الى جانب جورج حاوي بيان الاعلان عن قيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمّول) ضد الجيش الاسرائيلي الغاصب في ذروة احتلال هذا الأخير للعاصمة بيروت في ايلول عام 1982. وقد أثبت محسن ابراهيم في هذا التاريخ أنه بصلابته وجرأته واحترامه لقناعاته الفكرية ينتسب الى معدن الرجال ذوي القامات العالية التي تبقى ذكراهم منارة مشعّة على الدوام كي يسترشد بها شعبنا كلما احتدمت مواجهته للمحتلّ الاسرائيلي وللدول المحتضنة والداعمة له.
*باحث وخبير إقتصادي لبناني
Leave a Comment