توفيق مهنا*
لا ادري لمن يعود الفضل في إدخال مفردتي “الزمن الجميل” إلى لغتنا السياسية تعبيراً عن نوستالجيا العودة الى مرحلة سياسية، اصطبغت بها الحياة السياسية اللبنانية في عقد السبعينات من القرن الماضي، وتألق فيها العمل الوطني في لبنان، وتُوج بتأسيس الحركة الوطنية اللبنانية، وقيام مجلسها المركزي بقيادة الشهيد الكبير جنبلاط، وصاغت البرنامج المرحلي للأصلاح السياسي، برنامجاً وطنياً ديمقراطياً، علمانياً، وإصلاحياً، على طريق بناء الدولة الحديثة، دولة المواطن والانسان، دولة العدالة والمساواة، لا دولة الطوائفيين والاقطاعيين والرأسماليين الذين اقتسموا الدولة، محاصصة ومنافع وأزلام، وفساد، وعمّموا النعرات الطائفية والمذهبية و”دستروها” لتأبيد طغيانهم وتسلطهم على حساب مجموع الشعب…
في “الزمن الجميل”، حنين الى ماضٍ جسّد ارتقاء العمل السياسي الجبهوي، نهجاً وطنياً، وبرنامجاً تقدمياً اصلاحياً، ومسيرة نضال خميرتها دماء شهداء ضحوا من اجل وحدة لبنان وإنتمائه القومي، وذادوا عن فلسطين، ثوة وسلاماً، وحلماً لإستئصال الكيان الصهيوني الغاصب وافشال مخططاته في التقسيم والصهينة التي انساقت اليها قوى عملية تحت الف ذريعة وذريعة، لافشال التغيير الديمقراطي الذي كان لبنان يخطو اليه بثبات وقوة…
ما ان تذكر “الزمن الجميل” حتى يحضر الى صدارة المشهد قيادات سياسية وطنية وقومية، تولت قيادة مرحلة، هي من ادق المراحل السياسية وأخطرها في تاريخ لبنان الحديث.
في صدارة المشهد، يحضر القائد الشهيد كمال جنبلاط، وثالوث القيادة الوطنية “سيبة العمل الوطني” جورج حاوي، محسن ابراهيم وإنعام رعد، وشخصيات وطنية ساهمت بفعالية في صياغة البرنامج السياسي الاصلاحي، وبنت هيكلية المؤسسات، ووفّرت مساحة الانتشار في اوسع المناطق اللبنانية…
في صدارة هذا المشهد، تبوأ المناضل محسن ابراهيم، موقعاً طليعياً، ركناً من اركان الحركة الوطنية، مؤسساً، منظراً، ومرجعية قيادية انيط بها من موقع الامين العام التنفيذي، تثبت دعائم العمل الوطني، وبناه التنظيمية…
إني بشهادتي، هذه، لن اتناول دور “ابا خالد المفكر”، والمنظّر والسياسي، او اقارب المنطلقات الفكرية والعقائدية التي آمن بها، او أقيّم تجربته السياسية، أو مراجعاته النقدية، لمساره السياسي لا سيما، ما يتصل بالتداخل في علاقات الحركة الوطنية وقيادة الثورة الفلسطينية، او استنتاجاته فيما خص حدود المسؤولية في الحرب الاهلية اللبنانية، بل أسجّل محطات من مسيرة تعرفت بها اليه في لقاءات هي محطات في تنكب مسؤولياتي في الحزب، وكان لهذه اللقاءات صدى في نفسي. لم يمحوها زمن مضى، ولا يمحوها زمان آت طال أم قصر…
معرفتي به، تعود الى العام 1975 ـ 1976، حين تم تأسيس المجلس السياسي الاقليمي لمرجعيون- حاصبيا ومنطقتها، كنت في تلك المرحلة، منفذاً عاماً للحزب السوري القومي الاجتماعي، حيث تشاركت، رفاق نضال، نمثل الحركة الوطنية في هذه المنطقة من الجنوب، مع الرفاق هاني عساف (الحزب الشيوعي)، زكي طه (منظمة العمل الشيوعي)، أمين سويد وسعيد الضاوي(الحزب التقدمي الاشتراكي)، اضافة شخصيات وطنية ابرزها الاستاذ عبد الاميرمهنا، في تحمل مسؤولياتنا في مواجهة العدو الاسرائيلي وعملائه، تحت سقف البرنامج الوطني والتحالف مع الثورة الفلسطينية.
كما تعود معرفتي الى مرحلة لاحقة، إذ في العام 1977 ـ 1978، كما تم تأسيس المجلس السياسي الاقليمي للمتن الجنوبي، كنت قد عينت منفذاً عاماً في المتن الجنوبي، وتشاركت مع رفاق على رأسهم الدكتور فؤاد فرحات رئيس المجلس الاقليمي، والرفاق يوسف مرتضى (الحزب الشيوعي)، أحمد الديراني (منظمة العمل الشيوعي)، صالح رحيل (حزب البعث) عوض الصليبي (الحزب التقدمي الاشتراكي)، وشخصيات وطنية مستقلة كان لمشاركتها دوراً وتأثيراً في تطوير العمل الوطني على ارضية ثقافية واجتماعية مميزة.
لما كنا نلتقي ابا خالد، أو نستضيفه في ندوات وانشطة، كنا نأنس لمجالسه، وحضوره، لمنهجية تفكيره، وخطابه المتماسك، ومنطقه المحكم، والخلاصات التي يعرضها، لتكون دليل العمل والنشاط الهادف…
والحق يقال، كان شخصية فذّة، عقل “يشرقط”، افكار متدفقة، ويشهد لحذاقته في صياغة المواقف السياسية واستيلادها في “نكتة”، أو مزحة او خاطرة… وهو ما كان يضفي نكهة سياسية تفرد بها ابا خالد… ومن الصعب ان يجاريه أحد في هذا المجال…
ولعّل أبرز ما ترك صدى في نفسي، دوره البارع، حنكته، وحكمته في رسم خارطة طريق لأزمة كبيرة وعميقة هزت كيان “العمل الوطني في العاصمة بيروت، إثر الجريمة النكراء التي اودت بحياة القائدين الشهيدين بشير عبيد، وكمال خيربك، وناهدة بجاني، وذلك في 4 تشرين الاول 1980، على يد احد عناصر المرابطون في ساقية الجنزير، وما نجم عنها من احداث واشتباكات، واقامة النعرات المذهبية والطائفية، ضد الحزب، عمت المدينة، حال من المواجهات الدامية هددت وحدة الصف الوطني، وأدت ان تتخذ قيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي قراراً بتعليق مشاركة الحزب في اجتماعات الحركة الوطنية، وفي كل هيئاتها ومؤسساتها الى ان يصدر موقف معلن من قيادة الحركة الوطنية بادانة هذه الجريمة ومرتكبيها، وهي الجريمة التي قضت على قائد قومي كبير كان عميداً للدفاع، ورئيس للمجلس الأعلى في الحزب، هو الشهيد بشير عبيد، فضلاً عن الدور المرجعي له في الحرب ضد قوى المشروع الانعزالي المتصهين في جبل لبنان.
كما اودت بحيات ال… كمال خيربك، الشاعر، واحد مؤسسي منظمة أيلول الاسود، وذراع الثورة في الخارج والملاحق من العدو الصهيوني وعملائه لتصفيته.
في تلك المرحلة الحساسة، تبرز قيمة الرجال، وبادر ابا خالد الى بذل الجهود وخلفه قيادة الحركة الوطنية والثورة الفلسطينية لمعالجة ذيول هذه الجريمة الموصوفة.
زار مركز الحزب، والتقى مع رئيس الحزب انعام رعد والقيادة، وخرج الى الاعلام وادلى بالتصريح التالي: تأكيد الادانة السياسية الجماعية من جانب الحركة الوطنية والقوى الحليفة لها لكل الدلالات والمعاني المظلمة التي انطوت عليها الحوادث المفجعة الاخيرة التي شهدتها ساحتنا الوطنية وأضاف، داعياً الرفاق في قيادة الحزب الى استئناف مشاركتهم النشطة في اعمال الهيئات القيادية للحركة الوطنية اي في مجلسها السياسي المركزي ولجنتها التنفيذية، لأن العمل الجبهوي لا يستقيم في غيابه اي من اطرافه الرئيسيين، والحزب السوري القومي الاجتماعي هو احد هؤلاء الاطراف الرئيسيين الذين بنوا للحركة الوطنية موقعها وصاغوا لها خطها السياسي وشاركوا في نضالاتها”.
وهكذا استأنف الحزب وقيادته المشاركة، مما يثبت جدارة ابا خالد ومهارته في ايجاد المخارج لادق الازمات وأخطرها.
هي اضاءات، من موقع التماس المباشر في محطات اعتز بها انني عرفت عن قرب هذه الشخصية اللمّاحة والموهوبة التي افتقدها لبنان الوطني، وافتقدتها فلسطين، كما افتقدها العالم العربي بأسره…
* عضو المجلس الأعلى السابق في الحزب السوري القومي الاجتماعي
Leave a Comment