الدكتور أسامة سعد*
لا يمكن تناول تجربة الحركة الوطنية اللبنانية، وبخاصة اليسار، من دون التوقف عند محسن ابراهيم ، تلك القامة اللبنانية والعربية التاريخية التي امتلكت تأثيراً فعالاً في الحياة السياسية في لبنان، كما كان لها أيضاُ تأثيرها في بعض البلدان العربية.
وأبو خالد، كنيته التي كان يحلو للجميع ان يسميه بها، كان أحد صنّاع الكلمة والسياسة في لبنان، وذا فكر منفتح ومستنير. سار في طريق التحول اليساري باحثاً عن طريق خاص للاشتراكية في الوطن العربي، مستقل عن التجارب والمراكز الاشتراكية العالمية. وأكد على العروبة بصفتها هوية فرضتها شروط الجغرافيا والتاريخ واللغة والمصير المشترك. واعتبر أن التكامل العربي هو الطريق لتقدم الأمة وتطورها ومنعتها، وسبيلها كي تحجز لها مكاناً متقدماً بين سائر الأمم. كما أكد على الحريات العامة والديمقراطية، موجهاُ النقد الجذري للأنظمة العربية العسكرية، ولا سيما بعد هزيمة سنة1967، داعياُ إلى اعتماد استراتيجية الحرب الشعبية في مواجهة الاستعمار والصهيونية، ومشدداُ على رفض الاستبداد والقمع والاغتيال السياسي.
لم يكن الرفيق أبو خالد منظّراً سياسياُ وحسب، بل كان قائداُ سياسياُ قرن الفكر بالممارسة العملية من خلال قيادته لمنظمة العمل الشيوعي بعد تأسيسها بداية السبعينيات. ومن ثم من خلال شغله الأمانة العامة التنفيذية للحركة الوطنية اللبنانية منذ عام 1975. ولا زالت بصماته واضحة في صياغة البرنامج المرحلي للإصلاح السياسي إلى جانب المعلم الشهيد كمال جنبلاط . والبرنامج المشار إليه لا يزال حتى اليوم الوثيقة الإصلاحية الأبرز التي تقدمها جبهة سياسية لبنانية، لانطوائها على تشخيص دقيق وعلمي لأزمة النظام السياسي الطائفي في لبنان الذي يشكل معوقاً لتطوره الديمقراطي. وكذلك لتقديمها مجموعة من المقترحات السياسية الإصلاحية بصيغة نقاط برنامجية واضحة، تشكل معالم الطريق للخروج من الأزمة التي عصفت بلبنان آنذاك. وهي الأزمة التي كانت السبب الأبرز لنشوب الحرب الأهلية في ظل تعنّت قوى اليمين الطائفي المهيمنة على السلطة آنذاك، ورفضها أي إصلاح.
لقد كانت علاقة معروف سعد بأبي خالد علاقة تحالفية تكاملية، سواء على مستوى الانتماء إلى المشروع العروبي المتأثر بالناصرية وأطروحاتها الوحدوية العربية، أم على مستوى النضال المشترك في الميادين السياسية والاجتماعية. فكلاهما آمنا بفلسطين بوصفها تشكل جوهر قضية الصراع العربي الصهيوني، وكلاهما انحازا إلى ثورتها وفصائلها الفدائية المقاتلة. ودافعا عن استقلالية القرار الوطني الفلسطيني. كما تحمّلا كلاهما وزر انحيازهما للقضية الفلسطينية بوصفها قضية حق عربي سليب، وطالبا بأن تفتح الحدود اللبنانية أمام الفدائيين وأمام الثوار اللبنانيين للمشاركة في معركة استعادتها وتحرير كامل ترابها.
بعد استشهاد معروف سعد استمرت علاقة منظمة العمل الشيوعي بالتنظيم الشعبي الناصري الذي كان قد أسسه معروف سعد قبل استشهاده. وشكلت هذه العلاقة نموذجاً للعمل النضالي التحالفي الرصين الذي اقترن بالتضحية والشهادة. وكان للمجلس السياسي للحركة الوطنية في صيدا بقيادة الأخ مصطفى سعد دور فاعل في ترسيخ العلاقات التحالفية بين جميع القوى الوطنية المنضوية في إطاره، وفي توثيق عرى التحالف مع الثورة الفلسطينية وفصائلها كافة، توكيداً لمهمة النضال الوطني اللبناني الفلسطيني المشترك في المعركة ضد العدو الصهيوني الغاصب.
ولا بد أن نذكر دور منظمة العمل الشيوعي الفاعل في تأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية والانخراط في كفاحها حيث قدمت نخبة من مناضليها شهداء في مواجهة الاحتلال الصهيوني. وما زال رصيف ميناء الصيادين في صيدا شاهداً على بطولات الشهيد المقاوم فضل سرور الذي مثَّلَ بشهادته منارة تهدي المقاومين الى ميناء الحرية. كما يشهد شارع السراي على العملية العسكرية الكبيرة التي نفذها مقاومو المنظمة ضد دورية صهيونية، وأصيب فيها الرفيق محمد الحر الذي وقع أسيراً في أيدي قوات الاحتلال. ويشهد أيضاُ جوار مصلحة الكهرباء على الكمين الذي نصبه مقاومو المنظمة لموكب وزير الحرب الإسرائيلي “شارون”، فضلاُ عن العديد من العمليات النوعية الأخرى التي شهدتها مختلف أنحاء المدينة.
وبالإضافة إلى جرأة الرفيق محسن ابراهيم في قيادته لمنظمة العمل الشيوعي، وللأمانة العامة للحركة الوطنية في أصعب ظروف الحرب الأهلية، ودفاعه العنيد عن استقلالية القرار الوطني اللبناني عن أي وصاية، فإنه تحسب له جرأة أكبر في نقده لتجربة انخراط الحركة الوطنية في الحرب المذكورة، تحت وهم اختصار الطريق إلى تغيير النظام الطائفي، فضلاً عن خطأ تحميل لبنان فوق طافته في مجال العمل الفلسطيني المسلح.
ولعل هذه المراجعة النقدية التي قدمها أبو خالد، وتجسّدت بعض جوانبها في قرار الخروج من لعبة الحرب الداخلية، تصلح لأن تكون درساً في تجربة حزب سياسي قرّر أن يقف عند محطة من محطات الحرب الأهلية ليعلن عن وقف السير في المتاهة، التي ما كان الاستمرار فيها إلا تعميقاُ للانقسام الطائفي، وإلا تقدماً لقوى طائفية من كل الاتجاهات والضفاف لتصدّر الفضاء السياسي العام، ولاستكمال الحرب بأدوات طائفية فجّة عمّقت من طبيعة النظام الطائفي، وظهّرت جوهره المأزوم أكثر فأكثر.
محسن ابراهيم جمعتنا معه وحدة الرؤية إزاء القضية الفلسطينية، وتجاه مأزق النظام الطائفي كمولّد دائم للأزمات. كما جمعنا معه النضال المشترك الذي تعمّد بالدم في أكثر من ساحة وميدان.
كنا معاً، وسنبقى حاملين لإرث الرفيق القائد محسن ابراهيم ومبادئه ونضاله وتضحياته، كما نحمل إرث الشهيدين القائدين معروف سعد ومصطفى سعد. رحل أبو خالد جسداُ، لكن فكره سيبقى شعلة مضيئة تنير طريق المناضلين من أجل التغيير في لبنان، وباتجاه فلسطين، ونحو المشروع النهضوي العربي المرتكز على الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
- نائب لبناني وأمين عام التنظيم الشعبي الناصري
Leave a Comment