الدكتور غسان صليبي
جريدة النهار 1 نيسان 2021
الدولة خانتهم، برئيسها وحكوماتها وبرلمانها، وداست حقوقهم وسرقت اموالهم ودمرت مدينتهم ومرفأها الاقتصادي الحيوي وساهمت بسياساتها في انهيار قطاعاتهم.
“حزب الله” خانهم، بجعل البلاد رهينة في يد الصراعات الاقليمية والدولية، وبالتضحية باقتصاد البلاد من أجل مصالحه، وبتهريب المواد المدعومة من جيوب المواطنين ومدخراتهم، لصالح بقاء نظام مستبد يقتل شعبه ويهجره.
النقابات خانتهم، بمذهبيتها وتبعيتها وتخاذلها.
الاحزاب خانتهم، بطبقية زعاماتها وبسياساتها المعادية للعدالة الاجتماعية، وبتأطيرها لعمالها في نقابات حزبية مذهبية.
المؤسسات الاقتصادية التي يعملون فيها خانتهم، بجشعها إبان ازدهارها، وبتضحيتها بهم إبان انهيارها.
حتى المصارف التى راكمت الارباح وسرقت مدخرات الناس، خانت موظفيها الذين صنعوا مجدها، وهي الآن تطردهم الواحد تلو الآخر في السر والعلن.
العمال انفسهم لم يحسنوا تنظيم انفسهم والدفاع عن حقوقهم، ودفعوا ثمن أزمات النظام المذهبي الطائفي الذي دافعوا عنه، وثمن أزمات النظام الاقتصادي النيوليبيرالي الريعي، الموزّع على مؤسسات صغيرة، أكثريتها اصبحت تعمل في قطاع غير رسمي، مما صعّب عليهم كثيرا التضامن وتأسيس النقابات الحرة والمستقلة.
لا حاجة لتقديم ارقام حول الفقر والبطالة ونسبة المصروفين من العمل، وتآكل الاجور والقدرة الشرائية والغلاء الفاحش، وتقلص حجم التقديمات الاجتماعية والخدمات العامة ونوعيتها.
اكتفي بالإشارة إلى ان نصف شعبنا اصبح فقيرا وربع اليد العاملة عاطلة عن العمل ومؤسسات تقفل يوميا ويُطرَد عمالها من العمل.
لا حاجة لتقديم ارقام لأن هذه الارقام تتغير كل يوم، في تطور مأسوي لا حدود له.
عمال العالم واجهوا صعوبات مماثلة مع انتشار وباء كورونا، وإن كانت لا تقارن بتلك التي يواجهها عمال لبنان الذين يواجهون دفعة واحدة مجموعة من الكوارث الصحية والمالية والاقتصادية والسياسية والوطنية.
في عيد العمال العالمي، ورغم المآسي الخاصة بنا، ولا بأس ان ننظر من حولنا وندرك كيف يواجه عمال العالم أزمات بلادهم وخاصة جراء كورونا. فالعالم من حولنا ليس فقط دولا غنية ومؤسسات مالية دولية، ومصادر تمويل، بل مؤسسات اممية اجتماعية ومجتمعات وعمال ونقابات يمكننا التعلم منها وربما الافادة من دعمها، وخاصة الاتحادات النقابية الدولية ومنظمة العمل الدولية.
هناك ضغط تنازلي على مستوى نمو متوسطات الاجور في العالم، في ثلثي الدول التي توفرت بيانات حديثة في شأنها، وهذا الضغط التنازلي مرشح للاستمرار. وقد طالت الازمة بشكل اعنف الاجور المتدنية والحد الادنى للاجور، فزاد التباين في الاجور بين العمال في معظم البلدان. مع العلم ان النمو في مجمل الاجور في السنوات الاربع التي سبقت كورونا، تراوح بين ١.٦ و٢.٢ في المئة.
وأفادت منظمة العمل الدولية انه في سنة ٢٠٢٠، تمت خسارة ٨.٨ في المئة من ساعات العمل في العالم، اي ما يعادل ٢٥٥ وظيفة بدوام كامل، وأن واحدا من اصل ستة من فئة الشباب اصبحوا عاطلين عن العمل، وأن تأثيرات كورونا طالت النساء أكثر من الرجال في عالم العمل، كما طالت العمالة الوافدة والنازحين أكثر من العمالة الوطنية والعمالة المعوّقة اكثر من العمالة بدون إعاقة. اما القطاعات الاكثر تضررا فهي القطاع غير الرسمي والسياحة والنقل البري والبحري، والبناء والتجارة والحرف وغيرها.
واجهت نقابات العالم مشكلات العمال بطرق مختلفة، من المفيد ان يطلع عليها عمال لبنان، واهمها:
– في ٨١ في المئة من البلدان، تشمل معظم البلدان العربية، لجأت النقابات الى الحوار الاجتماعي للوصول الى اتفاق على الإجراءات لحماية العمال والمؤسسات الاقتصادية.
– في ٥٩ في المئة من البلدان، شمل الحوار الاجتماعي الثلاثي (الدولة والعمال واصحاب العمل) المواضيع الآتية: الحماية الاجتماعية وإجراءات الاستخدام والتزام التعاون في النزاعات الجماعية، والاجراءات الضرائبية وإجراءات الصحة والسلامة المهنية والتغطية الصحية الشاملة.
– شهدت ٦٢ في المئة من البلدان مفاوضات جماعية بين العمال واصحاب العمل، طال البعض منها التزام الإحجام عن الصرف الجماعي والحفاظ على الضمانات الاجتماعية.
– 34 في المئة من البلدان عرفت مفاوضة ثنائية بين النقابات والحكومات ركزت على تعديل قانون العمل بما يتلاءم مع ظروف جائحة كورونا، وعلى تعويضات البطالة، وعلى الدعم المالي للعاملين لحسابهم الخاص وللفئات المحتاجة وعلى التقديمات الإضافية للعاملين في الرعاية الصحية.
– عملت النقابات أيضا على تأمين صناديق طوارئ، وعلى تنظيم حملات توعية ودورات تدريبية وخدمات قانونية، وعلى توزيع مساعدات غذائية، وفي بعض الاحيان على اعتبار كورونا كطارئ عمل يستحق التعويض الملائم.
– ترافقت هذه الانشطة مع سعي النقابات لمواجهة انخفاض العضوية بسبب الاقفال العام او ازدياد البطالة وانخفاض الاجور وما شابه. بعضها علق جمع الاشتراكات، لكن بعضها وجدها فرصة لتنظيم العمال في القطاع غير الرسمي، مبتدعا مقاربات جديدة ملائمة.
– جرى الترحيب بشكل عام بالإجراءات الحكومية المتبعة في مواجهة كورونا مع بعض الاعتراضات المتعلقة بتنظيم الحوار الاجتماعي والمشاركة الفعلية للنقابات بهذا الحوار، كما انتقدت نقابات عدم وضوح بعض الاجراءات المتبعة.
– جرى رصد انتهاكات للحريات العمالية والنقابية خلال فترة كورونا، أكثرها في البلدان العربية (في ٧٦ في المئة من هذه البلدان). طالت الانتهاكات عدم التزام معايير العمل الدولية والقوانين المحلية ولا سيما ما يتعلق بساعات العمل ودفع الاجور والسلامة والصحة المهنية وصرف العمال.
من الواضح ان النقابات في العالم قد اختارت الحوار الاجتماعي، الثلاثي او الثنائي، لمواجهة أزمة شاملة لا يمكن ان تجد حلولا شافية لها من خلال مقاربات قطاعية او عبر الصدامات الإجتماعية. اي طريق اختارت النقابات اللبنانية؟
النقابات اللبنانية شبه غائبة للاسف عن المشهد اللبناني، رغم تفاقم الازمات وعدم اقتصارها على تداعيات كورونا. وإذا كانت شمولية الازمة، الصحية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والوطنية، تحتم اللجوء الى حوار إجتماعي ثلاثي وطني، الا ان شروط قيام هذا الحوار الاجتماعي ونجاحه شبه معدومة في الحالة اللبنانية.
يمكننا، وبحسب رأي منظمة العمل الدولية، التي رصدت التجارب العالمية، تحديد اربعة شروط لقيام الحوار الاجتماعي الثلاثي ونجاحه.
الشرط الاول هو توافر الارادة السياسية والتزام الاطراف الثلاثة. حتى لو توفر هذا الشرط لدى النقابات ومنظمات اصحاب العمل، لا امل لتوفره لدى السلطة السياسية الحالية، وهي الطرف الاساسي المحرك لنوع من الحوار كهذا.
الشرط الثاني هو وجود هامش من الديموقراطية في البلاد. هنا أيضا الديموقراطية البرلمانية معطلة في غياب حكومة وتأثير السلاح على آلية اتخاذ القرارات السياسية، فضلا عن التعدي على الحريات الفكرية والاعلامية وعلى حرية التجمع والتنظيم.
الشرط الثالث هو وجود شركاء اجتماعيين أقوياء، مستقلين وذوي صفة تمثيلية. قد ينطبق ذلك على منظمات اصحاب العمل من حيث القوة والصفة التمثيلية، الا ان استقلالية المنظمات نسبية مع تبعية بعض قياداتها لقوى سياسية في السلطة. اما بالنسبة لنقابات العمال وللاتحاد العمالي العام تحديدا، فإن الصفة التمثيلية والاستقلالية تجاه احزاب السلطة، شبه معدومتين، مما ينعكس على قوة النقابات وفاعليتها، التى لم يعد يحسب لها اي حساب، لا على مستوى التفاوض ولا على مستوى القدرة على الضغط. يترافق ذلك مع غياب تام للنقابات في معظم مؤسسات القطاع الخاص وفي القطاع غير الرسمي، الذي بات يضم إكثرية العمال.
الشرط الرابع والاخير هو وجود إطار مؤسساتي ملائم للحوار الاجتماعي. بعض هذه المؤسسات معطلة، من مثل لجنة مؤشر الاجور، والمؤسسة الوطنية للاستخدام. وبعضها يعمل لكن بدون حوار اجتماعي على مستوى مجلس الادارة، كما هي الحال في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، العاجز حتى الآن عن تشكيل مجلس إدارة ثلاثي التمثيل، بسبب التدخلات السياسية التي تعطل العملية. اما المؤسسة الاهم في مجال الحوار الاجتماعي، اي المجلس الاقتصادي الاجتماعي، فهو ينظم بعض الحوارات غير المنتظمة، لكن دون تأثير على السياسات العامة، في ظل غياب الدولة عن تركيبته من جهة وصفته الاستشارية من جهة أخرى.
إذاً لا امكان لعقد حوار إجتماعي مثمر في لبنان، في ظل استمرار الوضع القائم، على جميع الصعد التي ذكرناها أعلاه. كما لا امكان لتحرك نقابي ضاغط يحمل المطالب العمالية ويحقق ولو بعضها، من خلال الضغط على الجهات المعنية. وقد نظم الاتحاد العمالي العام تحركا على الارض، مطالبا بتأليف الحكومة، كما انه عقد إجتماعات عدة مع الهيئات الاقتصادية طالبت أيضا بتأليف الحكومة. وقد اصطدم الاتحاد العمالي العام بنفسه، وكالعادة، لأنه يريد ان يضغط على السلطة، فيما أحزاب هذه السلطة هي التي تقود تحركاته.
لا امل لحركة عمالية اليوم الا في إطار الانخراط في الانتفاضة اللبنانية، رغم تشتتها حاليا، وعجزها عن تحقيق مطالبها، وأولها تأليف حكومة إختصاصيين مستقلة عن أحزاب السلطة وبصلاحيات تشريعية إستثنائية.
تحاول بعض الاطر المستحدثة خلال الانتفاضة، ان تملأ الفراغ النقابي الرسمي، لكنها لا تزال في بداية نشاطها، كما انها تستقطب حاليا ناشطين من المهن الحرة، أكثر مما تستقطب ناشطين عمالا وموظفين في القطاعات المختلفة، مع انها قد وضعت هذا الهدف على جدول اعمالها.
دعوتُ السنة الماضية، وفي مثل هذه المناسبة، من خلال نداء نشرته جريدة “النهار”، الى قيام “التجمع العمالي المستقل”. اكرر الدعوة لمناسبة عيد العمال العالمي هذه السنة، وادعو الاطر الاجتماعية المستحدثة خلال الانتفاضة، الى وضع هذا الهدف من ضمن اهتماماتها، الذي لا يمكن ان يتحقق بدون عمل تنظيمي ميداني وفي القطاعات كافة. ويمكن لهذا العمل الميداني ان يمر عبر المراحل الآتية:
– رصد ناشطين عماليين في مختلف القطاعات الاقتصادية، وخاصة في القطاع الخاص، ومن ضمنه القطاع غير الرسمي.
– قيام الناشطين العماليين الذين جرى رصدهم بتقييم الواقع القطاعي بما يحمل من إمكانات تنظيمية: الوضع النقابي الحالي في كل قطاع، القصايا والمطالب الملحة. كما يقوم الناشطون بإنتقاء عمال مستقلين عن أحزاب السلطة والتخطيط معهم للمستقبل، اما بهدف دعم ما هو موجود، وإما بهدف تكوين معارضة نقابية، وإما بهدف إنشاء نقابة جديدة مستقلة.
– مساعدة العمال المستقلين الذي جرى اختيارهم على تنفيذ الخطة من خلال تدريبهم وتأهيلهم نقابيا.
– تنفيذ الخطة ميدانيا، مع مواكبة العملية التنظيمية بتحركات على الارض ترفع المطالب الملحة.
لن أضع في نهاية مقالي، لائحة بالمطالب العمالية اليوم. فلا وجود لقوى اجتماعية فعلية تحملها وترفعها الى المسؤولين، ولا وجود لمرجعية سياسية مناسبة تحققها، لا تحت الضغط ولا بالمفاوضة.
أجدني في المقابل، اكرر شعار عمال شيكاغو الذي مضى عليه أكثر من قرن، والذي يأتي عيد العمال العالمي لإحياء ذكرى العمال الذين اسششدوا لتحقيقه: “٨ ساعات عمل، ٨ ساعات راحة، ٨ ساعات نوم”. عمال شيكاغو رفعوا الشعار لأن العمال كانوا يعملون من ١٢ الى ١٦ ساعة بمن فيهم الاطفال. اليوم وفي زمن العمل الجزئي والبطالة، تصبح المطالبة بـ٨ ساعات عمل محقة أيضا. وفي زمن الضغط المعيشي والنفسي، والقلق الامني، وتقلص الحياة الاجتماعية، تصبح المطالبة بـ٨ ساعات راحة وترفيه و٨ ساعات نوم، أكثر ما يحتاجه العمال اللبنانيون اليوم.
عمال لبنان في العراء، تماما كما الشجرة في فصل الشتاء. فليتشبهوا بهذه الشجرة. ولتكن اوراقها التي تساقطت، هي النقابات التي لم تعد قابلة للحياة. ولتكن جذور الشجرة هي تاريخ الحركة النقابية الحافل بالنضالات حتى إبان الحرب. ولتكن براعم الشجرة هي النقابات المستقلة التي سيبنونها في المستقبل.
Leave a Comment