كتب الدكتور بول طبر
بمناسبة عيد العمال الأول من أيار، أطرح السؤال: ما الذي يمنع عمال لبنان وأصحاب المداخيل المحدودة والمهنيين والمهنيات من أن يتوحدوا نقابياً في القطاعات التي يعملون فيها، وسياسياً عبر أحزاب تدافع عن مصالحهم على مستوى الدولة ومؤسساتها؟
غياب الوحدة الإقتصادية والسياسية للعمال وأصحاب المداخيل المحدودة وغيرها له أسباب عديدة، اكتفي بسرد بعضها مما أعتبره يعود إلى النظام السياسي في لبنان والمصالح الإقتصادية السائدة والعلاقة فيما بينهما.
بداية ينبغي الإقرار بوجود هيئات نقابية للعمال والأجراء والمهنيين، إلا أن أغلبيتها محكومة سياسياً من أطراف رئيسية من السلطة. أما المستقلة منها وتشتمل على هيئات نقابية تشكلت في خضم إنتفاضة 17 تشرين كتجمع مهنيات ومهنيين الذي أعلن تأسيسه في 28/10/2019، فانها لا تزال ضعيفة، من حيث عدد الأعضاء المنتسبين إليها وبالتالي من حيث الوزن السياسي الذي تتمتّع به.
إذن ما هي الأسباب التي تمنع انتظام هذه الفئات الإجتماعية في هيئات قطاعية تدافع عن مصالحها في وجه من يقوم باستغلالها عن طريق استخدامها في مختلف القطاعات؟ أسارع للقول أن أحد أهم أسباب حصول هذا الإنتظام المستند إلى المصلحة المشتركة للمنتظمين يعود إلى تضخم العامل السياسي في حياة اللبنانيين وترجمته على يد السياسيين، لا سيما الزعماء منهم. ويشير هذا الواقع أيضاً إلى تواطؤ غير معلن بين هؤلاء السياسيين والأطراف التي تتشكل منها القطاعات الإقتصادية، أكان ذلك في القطاع الخاص أو العام.
إحكام سيطرة السياسيين على الإتحاد العمالي
صدر العديد من الدراسات والمقالات الصحفية التي بينت بدقة كيف قامت السلطة التي نشأت بعد اتفاق الطائف (1989) بمحاولات ممنهجة لتحطيم استقلالية الإتحاد العمالي وتفريغه من هويته النقابية التي اتسم بها، وكان قد تمكن من إحياء تلك الهوية في أواخر العقد الثامن من القرن الماضي، رغم سنوات الحرب الأهلية التي امتدت من عام 1975 حتى عام 1990. وفي هذا السياق قامت السلطة بتفريخ نقابات عمال ومزارعين شكلية، وذلك للحصول على العدد المطلوب من النقابات المنتسبة إلى الإتحاد، واستخدامها خلال الإنتخابات العامة للإتحاد لإيصال الرموز القيادية الخاضعة لإرادتها. هكذا تمّ تدجين الإتحاد وإلحاق قيادته بإرادة الزعماء الممسكين بدفة الحكم الذي نشأ بعد اتفاق الطائف. ونتيجة لذلك لم يعد الإتحاد يجسد مصالح من يدعي تمثيلهم ويدافع عنها.
السيطرة السياسية على القطاع العام أيضاً
لم يكن يوماً القطاع العام محصناً بالمطلق تجاه تدخلات أهل السلطة، إلا أنه لا بد من الإقرار أن درجة معقولة من الحصانة، وبالتالي المهنية و”العقلنة”، قد تحققت خلال العهد الشهابي، لا سيما مع إنشاء “مجلس الخدمة المدنية” و”مجلس التفتيش المركزي”. إلا أن المنظومة التي حكمت لبنان منذ عام 1990، أجهزت على هذين المجلسين وبدأت بالتعاطي مع القطاع العام بصفته مزارع لسطوتها وتنفيعاتها ومجالاً مفتوحاً لديها لتوزيع الوظائف على الاتباع، وفرص الترقي على طالبيها، وبالتالي توسيع دائرة “الزبائن” والمؤيدين لرموز تلك المنظومة. بذلك أصبح مورد رزق موظفي القطاع العام يتوقف على إرادة السياسيين وقراراتهم الإستنسابية. ينتج عن هذا الواقع أمران مترابطان: غلبة الولاء السياسي لموظفي القطاع العام وتوزيعه على رموز وزعماء السلطة في لبنان، معطوفاً عليه عدم تجرؤ هؤلاء الموظفين على التوحد حول مصالحهم المشتركة، للمطالبة بتحسين شروط عملهم خوفاً من غضب الزعماء عليهم.
تدخل السياسيين في القطاع الخاص
كذلك ليس مفاجئاً القول إن الأقطاب السياسيين في لبنان لا يتورعون عن التدخل في القطاع الخاص، وفي مختلف المجالات التي يتمثل فيها، أكان ذلك في المجال التجاري أو المصرفي أو السياحي أو التربوي وحتى الصناعي. وتدخلات الأقطاب السياسيين لها مداخل وأشكال عدة، إلا أن جميع هذه التدخلات تستند إلى السلطة السياسية والقانونية، كما السلطة الإجتماعية والعنفية (أي القدرة على ممارسة العنف من خارج إطار الدولة)، التي يتمتع بها هؤلاء الأقطاب المعنيين. وتقوم هذه التدخلات على معادلة بسيطة: السماح لك أيها المستثمر قانونياً، عبر نفوذنا السياسي والاجتماعي، وخارج الأطر القانونية، أن تستثمر شرط أن تقدم لنا بعض المكافآت التي قد تشتمل على إكتساب عضوية مجلس إدارة، والمشاركة في ملكية أسهم في المشروع، إقتطاع شهري لنسبة من الأرباح، والأهم بالنسبة لموضوع هذا المقال، إكتساب حق توظيف نسبة معينة من العمال (وغيرهم أصحاب كفاءات علمية ومهارات أفضل) عن طريق التوصية التي يحملها طالب العمل من قبل الزعيم المعني.
هذا الواقع مشهود له في جميع المناطق اللبنانية دون استثناء، وإن بدرجات مختلفة، الأمر الذي يعمّق ويعمّم أكثر تبعية العمال وأصحاب المداخيل المحدودة لمشيئة زعماء المنظومة الحاكمة في لبنان. وينتج عن ذلك أيضاً شبكة من العلاقات والمصالح بين عدد كبير من العمال والمستخدمين وبين الزعماء الذين قاموا بالتوصية المطلوبة لتشغيلهم، مما يعرقل مجدداً إلتفاف العمال حول مصالحهم النقابية والسياسية، والمطالبة بحقوقهم عندما تقتضي الحاجة للقيام بذلك.
العمالة الأجنية وتأثيرها على تفتيت وحدة العمال
رافق استخدام العمالة غير اللبنانية نمو الإقتصاد اللبناني منذ العقد الأول من الإستقلال عام 1943. وكانت نكبة فلسطين عام 1948 والنزوح الفلسطيني إلى لبنان الذي تلا تلك النكبة علامة فارقة في الدخول المبكر للعمال الفلسطنيين إلى سوق العمل اللبناني. جاء ذلك لصالح المستثمرين اللبنانيين أولاً، بسبب دفع أجورهم الرخيصة، وثانياً، بسبب عدم تغطيتهم بالقانون اللبناني في وجه الإستغلال المتفلت لهم من قبل أرباب العمل اللبنانيين. ألأمر نفسه تكرر مع العمال السوريين الموسميين، ليتعاظم عدد العمال الأجانب من مصر ودول آسيوية وأفريقية أكثر فأكثر بعد نهاية الحرب عام 1990، وتصبح نسبة العمالة الإجنبية في لبنان تصل إلى ما لا يقل عن 40 % من مجموع العمالة في لبنان (هذه النسبة تقديرية ولا تستند إلى إحصاءات رسمية مفقودة في الأساس). الوضع القانوني لهؤلاء العمال (منهم من لا يملك حق الإقامة القانونية، ومنهم من يمتلك إقامة مؤقتة ويخضع لعقود عمل استنسابية)، معطوفاً على درجة عالية من العنصرية العالية بحقهم، أكان من زملائهم في مواقع العمل أم في المجتمع عموماً، يجعل من اتحادهم مع العمال اللبنانيين دفاعاً عن حقوقهم المهدورة أمراً صعب المنال.
شلل مؤسسات دولة الرعاية وتبني سياسات نيوليبرالية
في ظل تبني سياسات نيوليبرالية منذ عقد التسعينات، تمت محاولات عدة لخصصة مؤسسات عديدة من القطاع العام. وعندما لم تتحقق هذه الرغبة، قامت الحكومات المتعاقبة بتخريب مستوى آداء هذه المؤسسات (مثلاً مؤسسات تأمين الطاقة وتأمين مياه الشرب وغيرها) معطوفاً على تحويلها لمصادر نهب للمال العام، أو جرى إخضاعها لإرادة الزعماء السياسيين، وتوزيع الخدمات التي تقدمها على أتباعهم (مثلاً، المستشفيات الحكومية ومعونات الدولة لتغطية نفقات المستشفيات الخاصة). بالإضافة يقوم ممثلو السلطة بتلزيم خدمات القطاعات التي لم يتمكنوا من خصصتها إلى القطاع الخاص (قطاع الإتصالات). إن جميع هذه الإجراءات والسياسات المتبعة تؤدي إلى مضاعفة نفوذ الزعماء السياسيين وتعزيز تبعية أنصارهم. وأمام هذا الواقع، يقف هؤلاء الأنصار الذين ينتمون في غالبيتهم إلى فئات عمالية مهنية وأصحاب مداخيل محدودة، عاجزين عن تحقيق وحدتهم النقابية والسياسية على قاعدة الدفاع عن مصالحهم الإقتصادية المشتركة.
دور مؤسسات أحزاب السلطة أو تخضع لنفوذها
بات شائعاً امتلاك أحزاب السلطة لمؤسسات إجتماعية خدماتية، أكانت مؤسسات صحية أو تربوية أو رعائية. وتستخدم أحزاب السلطة وزعماؤها هذه المؤسسات أيضاً لمقايضة الخدمات التي تقدمها مقابل الولاء السياسي لطالبي تلك الخدمات. ومن الطبيعي أن يكون هؤلاء من الفئات غير الميسورة، أي العمال وأصحاب المداخيل المحدودة والمياومين والعاطلين عن العمل، الأمر الذي يزيد من صعوبة مناهضتهم لأحزاب السلطة وزعمائها، وهم (أحزاب السلطة وزعماؤها) في الأساس حُماة طبقة المستثمرين والتجار والمصارف، إن لم يكونوا شركاءهم.
قراءة مركَّبة لطبقة العمال ومصالحها المهدورة
أمام هذه الوقائع المذكورة أعلاه، لا يجوز أن نتكلم عن طبقة المستغَلِّين وفئاتها العديدة بالاستناد حصرياً على مواقعها الإقتصادية (أي اعتماد النزعة الإقتصادوية)، متجاهلين تأثيرات العلاقات السياسية على تجزئة هذه الطبقة ومدى تداخلها بالعلاقات والمصالح الإقتصادية، وفقاً للإنقسامات والإختلافات الطائفية والأهلية الأخرى التي تخترق السلطة السياسية وزعمائها. وتصبح مطالب قيام دولة القانون والدولة العلمانية والنظام الديموقراطي وبناء المجتمع المدني، وبالتالي تحرير العلاقات الإقتصادية من القبضة السياسية “الأهلية”، مداخل أساسية لتسهيل انتظام المستغلين إقتصادياً بهيئاتهم التمثيلية بالمعنى الإقتصادي النقابي وبالمعنى السياسي العام. لذلك فإن معركة الدفاع عن مصالح المستغَلِّين ورؤيتهم السياسية الموحدة بالمعنى العريض للكلمة، لا تتحقق ولا تكتمل من دون خوض معركة بناء دولة المواطنة والنظام الديموقراطي، والإنتصار في تحقيق أهدافها.
Leave a Comment