خاص – موقع بيروت اوبزرفر April 13, 2021
في مناقشة لاخر الأوضاع في لبنان في ظل إحتدام الضائقة الاقتصادية وتداعياتها على مختلف الصعد، أجرى الزميل مسعود محمد لقاء وحوار مع أمين سر المكتب التنفيذي لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان زكـي طـه هذا نصه الكامل:
- ما الذي يعانيه لبنان راهناً كبلد: أزمة حكم أم أزمة نظام ؟
يعاني لبنان راهناً أزمة مركبة شديدة التعقيد، هي مجموعة من الازمات المتداخلة والمتشابكة، فهي أزمة حول هوية الكيان وموقعه وعلاقاته مع محيطه وما يدور فيه من أزمات وصراعات وحروب اهلية واقليمية – دولية. وهي أزمة نظام عاجز عن تلبية حاجات وطموحات اللبنانيين، وكذلك أزمة منظومة حكم تعاني من انسداد افق مشاريعها الفئوية والطائفية للهيمنة والاستئثار بالسلطة. هذه الأزمات تعود في أصولها إلى الانقاسامات الاهلية والتشكيلات الاجتماعية الطائفية والعشائرية والمناطقية الموروثة التي رافقت تأسيس الكيان ولم تزل تتجدد محطات وفصولاً من عدم الاستقرار في ظل التسويات المؤقتة والنزاعات الاهلية المستمرة والدموية احياناً كثيرة. وهذا ما جعل مصير لبنان الكيان والوطن دوماً أمام اسئلة مصيرية كما هو الامر راهناً.
- هل من أمل في التغيير وكيف سيكون التغيير في لبنان؟ هل نحن أمام ثورة أم إنتفاضة أم هبة؟
التغيير في لبنان أشد تعقيداً من أزماته، لأنه يكاد أن يكون مستحيلاً. فكل التجارب ومحاولات التغيير والاصلاح السابقة اصطدمت بجدار النظام وبانغلاق قواه الطائفية. كما غرقت في ميادين الصراع الطائفي والاحتراب الأهلي، وتحول بعضها حروباً دموية دمرت ما كان البلد والمجتمع قد راكمه من انجازات في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. والنهاية كانت تسويات مؤقتة يقررها ويضمنها الخارج، لكنها سرعان ما تنفجر مع اختلال توازنات الداخل أو الخارج المحيط.
فمثلاً اتفاق الطائف قبل ثلاث عقود كان البديل الوحيد المتاح عن استمرار الحرب الأهلية العبثية. ولذلك شكل نموذجاً فجاً عن تلك التسويات الطائفية. ونحن الآن في ذروة مأزق تسوية الطائف وانفجار البنية اللبنانية من جميع بواباتها السياسية والاقتصادية والمالية بالتزامن مع تصاعد الانقسامات الأهلية الطائفية وانهيار الاقتصاد والأوضاع المعيشية لمعظم الناس. ونعيش الآن امام احتدام الصراع بين اطراف السلطة حول موقع لبنان، وعلى تقاسم المواقع والمغانم واستتباع أجهزة الدولة ومؤسساتها وهدر موارد الخزينة، والدفع بالوضع الاقتصادي والمالي المنهار نحو الكارثة الكبرى، في ظل الحصار السياسي والعقوبات الخارجية، فقد اختنق البلد وانفجر في وجه منظومة الحكم، في صيغة انتفاضة شعبية عارمة هي الأولى من نوعها في تاريخ الكيان.
ونحن نرى أن ما شهدناه لم يكن ثورة، لأن البلد اصلا افتقد وجود معارضة مستقلة، ولذلك لم يجد المنتفضون من يقود حركتهم. وعليه، استمر التنافس بين المجموعات والقوى الناشطة على القيادة، وسط تكاثر الأوهام حول انهيار النظام واستسهال وتبسيط عملية التغيير وامكانية استلام السلطة. كل هذا جعل ساحات الانتفاضة مرآة عاكسة للفوضى المجتمعية المتحكمة في وضع البلد. ونظراً لاستمرار غياب قوى اعتراض مجتمعي مستقلة فاعلة، فإن الوضع الراهن مرشح لتوليد المزيد من الانفجارت في إطار الفوضى العامة التي تديرها اطراف السلطة.
- ·“فليسقط حكم المصرف” شعار يرفع من قبل بعض مجموعات الحراك: هل نحن محكومون بحاكم مصرف لبنان؟ ومن يمنحه مثل هذه السلطة والقوة؟
شكل شعار: “فليسقط حكم المصرف”، مثلاً ساطعاً عن محاولات حصر أسباب الأزمة والانهيار بأداء حاكم المصرف المركزي وجمعية المصارف. وهو نموذج عن التعمية التي اعتمدتها اطراف من السلطة للتنصل من سياساتها وممارساتها المدمرة على الصعيد الوطني والاقتصادي والمالي والاداري. علماً أن حاكم المصرف المركزي وجمعية المصارف يتحملان مسؤولية استسهال توظيف الاحتياط المالي العام، وودائع اللبنانيين في سندات الخزينة لتغطية عجز الميزانية العامة للدولة، دون النظر إلى قدرة هذه الدولة على سداد ما تستدينه من أموال. أما قوة المصرف المركزي وجمعية المصارف فإن مصدرهما الرئيسي هو انكشاف منظومة الحكم امامهما، وتقاسم الجميع غنائم وارباح النهب المنظم لمقدرات اللبنانيين والخزينة العامة للدولة ومواردها. هناك فرق شاسع بين منظومة سلطة لديها مصرف ومصارف تتشارك واياها المسؤولية عن الانهيار، وبين وهم الاعتقاد بأن حاكم المصرف المركزي واصحاب المصارف هم من يتسلط على البلد ويحكمه ويديره كما يشاء.
- ألا تعتقد أن الشعب اللبناني ساكن مقابل سرقة أمواله وجنى عمره من قبل السلطة الحاكمة؟ ما هو سبب هذا السكون ؟ هل فقد الشعب اللبناني إيمانه بالتغيير وجل طموحه فيزا للهجرة من بلده؟ كيف يمكن إعادة الأمل بالتغيير للشعب؟
الشعب اللبناني هو أسير قيود النظام الطائفي وسياسات وأداء قوى السلطة بطبيعتها الميليشياوية. إن غالبية الفئات والكتل الاجتماعية المتضررة من هذا الوضع، تفتقد راهناً إلى التشكيلات والأطر النقابية القادرة على التعبير عن مصالحها وحقوقها ومطالبها المشروعة. وما تبقى منها راهناً خاضع بالكامل لمنظومة المحاصصة الطائفية كملحقات عديمة الفعالية، أو أدوات للاستعمال في صراعاتها. يضاف إلى ذلك هامشية قوى اليسار وهشاشة علاقتها بالفئات والكتل الاجتماعية، وهي بحاجة إلى إعادة تجديد الثقة بها وبقدرتها على التعبير عن مصالح تلك الفئات وحماية حقوقها، ورفع لواء مطالبها واستقطابها إلى ساحات وميادين النضال الاجتماعي والسياسي. ولذلك ليس مستغرباً أن يعم اليأس والاحباط والهروب إلى الحلول الفردية بما فيها الهجرة.
- هناك رئيس قوي يسعى لاستعادة حقوق المسيحيين؟ وثنائي شيعي يتكلم عن حصرية وزارة المالية بطائفته كنوع من تعديل مبطن للدستور يكرس المثالثة؟ هل نحن امام تفاهم جديد للطبقة الحاكمة يحفظ لها مواقعها ومصالحها؟
الكلام عن الرئيس القوي يستتبعه كلام عن الثنائي الشيعي القوي والزعيم السني أو الدرزي القوي و.. والقوة في هذا الاطار وزن الموقع الذي يحتله الزعيم أو يطمح له ويصارع من أجله هجوماً ودفاعاً مستغلاً مؤيديه ومستعيناً بتحالفاته المحلية وعلاقاته الخارجية. علماً أن آليات وقوانين الشراكة والتنافس والخصومة والعداوة في آن هي التي تتحكم بالعلاقات بين قوى النظام. ولذلك تتحول نصوص الدستور وتنفيذ القوانين وجهة نظر يقررها توازن القوى القائم. وفي هذا السياق تتشكل التحالفات الثنائية والثلاثية وتجري محاولات تعديل الدستور بقوة الأمر الواقع، كما نشهد حالياً مع العهد القوي، سواء عبر محاولات تكريس نظام رئاسي أو تخصيص وزرات ومواقع مسؤولية لطوائف أو احزاب بعينها. و امام اشتداد مخاطر الوضع المشرع على المجهول، واستمرار غياب قوى الاعتراض والتغيير في الداخل، من الطبيعي ان نتوقع المزيد من صراع القوى ، وبالتالي المزيد من التأزم . ما يقود اللبنانيين لانتظار الخارج كي يأتي بالحلول. حلول لن تكون حكماً سوى تسويات تحفظ مصالح اطراف الداخل والخارج على السواء.
- هذا يطرح السؤال حول هوية قوى التغيير في البلد؟
في الحالة الراهنة يصعب الحديث عن قوة تغيير فاعلة. قوى السلطة مطمئنة لأوضاعها وهي لا تشعر بالقلق على وجودها ومصيرها. ففي الداخل لا أحد يحاصرها، والضغوط الخارجية محدودة الأثر. ما نشهده أكثره ضجيج اعلامي يؤشر على استمرار الأزمة التي تسحق غالبية اللبنانيين. القوى المنظمة والمجموعات الناشطة، مفككة ومشرذمة، تنتج جبهات مأزومة تنتهي مباشرة بعد اعلانها. الشعارات والبرامج هي ذاتها بلهجات مختلفة. اصحابها في مكان وأولويات اللبنانيين في مكان آخر. التغيير يحتاج إلى قوى ضغط منظمة قادرة على محاصرة منظومة السلطة لإجبارها على تغيير سياساتها وأدائها. الانتفاضة لحظة انطلاقتها اربكت اطراف السلطة، التي وبسرعة استوعبت الصدمة وشنت هجمات معاكسة، كانت نتيجتها انكفاء المنتفضين. قوى السلطة نجحت حيث اخفقت مجموعات الانتفاضة التي لا تزال تدور في حلقة مفرغة من التنافس وتكرار الشعارات والتحركات.
- ما هو مشروع التغيير في البلد؟ هل سنعود الى زمن العنف الثوري؟
مع انسداد أفق الحلول وتصاعد مضاعفات الانهيار على كل المستويات وسيادة اليأس، لا يعود مستغرباً أن تستسهل بعض المجموعات المتناثرة ممارسة العنف الثوري طريقاً للتغيير. ولدى التدقيق تكتشف أن هذا التوجه ينطوي على دلالتين، أولاهما العجز عن تنظيم قطاعات المجتمع المتضررة من النظام وما أنتجه من أزمات. وثانيهما أنه يمنح السلطة فرصة تشريع القمع العاري سواء النظامي الرسمي أو الميليشياوي الأهلي بذريعة الحفاظ على الأمن. وعليه يمكن الجزم بالمردود العكسي والمشبوه لأي محاولة من هذا القبيل.
وهنا لا يفوتنا القول أن أهم محاولة اصلاحية في البلد عام 1975، تحت راية الحركة الوطنية واليسار بقيادة كمال جنبلاط، قد انتهت إلى نتائج كارثية، وتحولت حرباً أهلية مدمرة لم تتوقف إلا باتفاق الطائف الذي كرّس المحاصصة الطائفية. والسبب أن تلك المحاولة استسهلت العنف الاهلي المضاد طريقاً للتغيير. ولذلك فإن إي مشروع للتغيير ستبقى نتائجه محكومة بمدى التزامه المسار النضالي الديمقراطي السلمي وقدرة قواه على حشد مصالح مجتمعية متنوعة ومشتركة، والضغط لتحقيق انجازات وفق مسار تراكمي، بما يفتح الآفاق أمام هذه القوى الشعبية والوطنية العابرة للطوائف كي تشارك في تحمل مسؤولية بناء وطن، والكف عن الهروب وانتظار الحلول عبر الممارسات العنفية أو توقع الفرج من الخارج.
- هل المنظمة أحدى أدوات التغيير ؟ وما هو دورها ومن هو حليفها في هذه المرحلة؟
من المؤكد اننا في منظمة العمل الشيوعي نطمح لأن نكون من ضمن قوى التغيير، ونحن في موقفنا هذا نستند إلى تجربة مجيدة في النضال الاجتماعي القاعدي. وكنا اصحاب دور مهم في تشكيل الحركة الشعبية والديمقراطية والنقابية القاعدية عشية الحرب الاهلية، التي انفجرت في 13 نيسان 1975، وما انتهت اليه من إفناء لبُنى وانجازات نضال تلك الحركة الواسعة التي شملت لبنان من أقصاه إلى أقصاه. وهنا نشير إلى أن عبثية تلك الحرب والنتائج التي أفرزتها، شكلت أحد أسباب المراجعة النقدية لتجربة المنظمة واليسار والبلد على السواء. أما نتائج تلك المراجعة ودروسها، فهي تشكل ليس مصادر وعينا وقراءتنا لأزمة البلد والنظام والحكم في طوره الراهن وحسب، بل هي أيضا مصدر حصانة لنا في رفض العودة الى صيغ وتشكيلات تلك المرحلة وانقساماتها الأهلية. والبقاء على جادة التحصن بالديمقراطية والعلمانية في مواجهة سلاح الطائفية والاستقلال عن اطراف السلطة، و الدعوة للوطنية الجامعة، مستندين في ذلك إلى قناعة حاسمة بأن أي يسار فاعل لا يتجدد إلا من خلال إعادة بناء موقعه الاجتماعي ديموقراطياً، وانتسابه إلى أزمة البلد حيث هي حقاً وفعلاً. اما الحلفاء فإن المسار النضالي كفيل بالتفاعل معهم عبر الانفتاح على مروحة من العلاقات واشكال التنسيق الآنية والمرحلية في ميادين النضال.
- ما هو المشروع السياسي والإقتصادي الذي تقترحه المنظمة في هذه المرحلة؟
ليس سهلاً الحديث عن مشروع سياسي اقتصادي جواباً على أزمات البلد المتشابكة والمعقدة والمشرعة على كل ما يدور في محيطه من أزمات متفجرة. وربما يكون التحدي الأهم الذي يواجه اللبنانيون الآن، هو البحث عن سبل انقاذ بلدهم من الجحيم الذي لم يعد مجرد احتمال، ومن خطر الزوال الزاحف، بفعل ما يحتشد حول لبنان وفي داخله من مخاطر تهدد مصير الكيان وتضع اللبنانيين امام المجهول. بالتأكيد نحن نطمح لإعادة بناء تنظيم يساري ديمقراطي علماني، مستفيدين من مراجعة تجربتنا ومحطاتها كافة، التي كان لأميننا العام الراحل محسن ابراهيم دور ريادي استثنائي ليس في اطلاقها فقط، إنما أيضاً في استخلاص نتائجها، وقيادة المنظمة نحو فتح آفاق التجديد أمام اليسار من شتى المداخل الفكرية والسياسية والبرنامجية والنضالية والتنظيمية، وهذا ما وجد تعبيراته المكثفة في وثائق المنظمة وقراراتها الصادرة عن مؤتمراتها، والتي لخصتها مبادرتها الفكرية السياسية التي أقرها مؤتمر المنظمة الرابع اواخر 2018، تحت عنوان” نحو حزب يساري ديمقراطي علماني”
أما برنامج الانقاذ الوطني راهناً فقضيته ليست مسألة صياغية، اذ هي بحاجة أولاً إلى حضور وتضافر جهود ومبادرات قوى المجتمع الحية والفئات المتضررة، والنخب التي يعنيها إنقاذ البلد وبقائه وطناً لجميع ابنائه. وعندما يتحقق حضور هذه الكتلة بوزنها يقع على عاتقها مسؤولية صياغة مشروع نهوض سياسي واقتصادي واقعي تحضر فيه المصالح الوطنية والمواطنية والاجتماعية العامة وفق صيغة تسمح باشراك أكثرية المواطنين وانخراطها في ميادين النضال وساحاته بعيداً عن الانكار المتبادل والفئويات القاتلة.
- ما هو تقييمكم لدور حزب الله في السياسة الداخلية؟ وهل حقا أن الحزب يقايض السماح بالفساد مقابل إحتفاظه بسلاحه؟
لا نجد أي مبرر مطلقاً لتجاهل دور حزب الله في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، أو التقليل من أهمية انجاز التحرير الذي تحقق بنضالات ودماء اللبنانيين والمقاومين كافة. كما لا مبرراً للتعمية على تبديد المفاعيل الوطنية، لهذا الانجاز في دهاليز الانقسام الأهلي واستغلاله رافعة لتعزيز موقع الحزب والطائفة في دوائر الانقسامات الأهلية وصراعات أطراف السلطة. ما أدى إلى تقدم دور الحزب ليصبح طرفاً اساسياً مقرراً في اختلال توازنات منظومة السلطة والحكم، كما في الصراع الدائر بين اطرافه حول موقع لبنان وسياساته الخارجية، وعلاقاته بمحيطه العربي من بوابتي النظام والحرب الدائرة في سوريا وعليها، وكذلك من بوابة النظام الايراني واستراتيجته لتوسيع نفوذه وهيمنته في المنطقة عبر استغلال إشكاليات الاقليات ما قاد إلى تفكيك وتدمير بُنى المجتمعات العربية وكياناتها الوطنية.
ولذلك فإن الحزب لا يشكل طرفاً أساسياً في منظومات الحكم في لبنان وحسب، بل الطرف الرئيسي والمتحكم بالاستحقاقات السياسية، وإعادة تشكيل مؤسسات السلطة وحامي حمى المنظومة بكاملها، بالنظر لقدرته على فرض خياراته، وهذا ما يجعله شريكاً في الفساد السياسي القائم على المحاصصة، ما يشكل مصدر كل منوعات الفساد المتعددة والمعروفة، مما لا ينفع معه إدعاء العفة والطهر.
- هل أنتم مع إحتفاظ حزب الله بسلاحه؟ و مع قتاله في سوريا؟ وما هي قراءتكم لحربه في سوريا؟ وهل سوريا محكومة بالأسد الى الأبد؟
إن سلاح حزب الله في الداخل والخارج يطرح اشكالية معقدة، تكاد تكون مستعصية على الحل في ظل الانقسام الاهلي وأزمة الهوية الوطنية، بالتزامن مع أزمة النظام الطائفي ومأزق قوى السلطة وخياراتها، ومشاريع الهيمنة عليها بما فيها ممارسات ودور حزب الله، وانعكاسات ذلك في الصراع الدائر حول موقع لبنان، وعلاقته بأزمات المحيط سواء تعلق الأمر بالتهديدات والمخاطر الاسرائيلية المستمرة، أو لناحية مفاعيل الحرب الأهلية والدولية – الاقليمية في سوريا وعليها. من المؤكد أن تاريخ البلد الحديث منذ التأسيس هو تاريخ أزماته المتوالية محطات وفصولاً دون انقطاع. ما يعني أن اسباب الأزمة الراهنة لا يمكن حصرها مطلقاً بدور وخيارات وسلاح حزب الله، التي تشكل عوامل تزخيم وتضخيم لها. من العبث مطالبة الحزب بتسليم سلاحه في ظل غياب مشروع جدي لبناء دولة ووطن وسياسة دفاعية حقيقية. ومن الوهم أيضاً أن يُحاصر الحزب بمشاريع طائفية أو فئوية مستحيلة، لأنها اقصر الطرق لتعزيز دوره وتبرير عودة التسلح وإبقاء شبح الحرب الاهلية مخيماً على البلد. أما المطالبة بنزع السلاح فعدا هذه الاستحالة، فالأمر ينطوي على مشروع انتحاري تدميري لا يُبقي ولا يذر. وعلى ذلك ينتصب امام اللبنانيين ويتجدد تحدي بناء دولة ووطن وفق خيارات ديمقراطية مدخلاً وحيداً لكل الأزمات بما فيها مسالة السلاح الاهلي.
لا يختلف عن ذلك دور سلاح الحزب في الحرب الاهلية الاقليمية الدولية المدارة اميركياً في سورياً. وهي الحرب الناجمة عن رفض نظام الاستبداد الاسدي الاستجابة لطموحات المواطنين السوريين. وقد نجح النظام في استدراجهم للعنف وشرّع الابواب للتدخل الخارجي الدولي والاقليمي الواسع. وحوَّل سوريا ساحة للاصوليات المتناحرة والمرعية. وقد أدت الحرب على امتداد عشر سنوات إلى تدمير الاقتصاد والعمران السوري وتفكيك وتشتيت الشعب السوري بين نزوح داخلي وتهجير خارجي، وأحاله إلى قضية انسانية ملحة. أما الكيان فقد جرى تقاسمه وتوزعه مناطق نفوذ سياسي وعسكري وساحات اقتتال ونهب لمقدراته. لم يقتصر الأمر على الدور الايراني وحزب الله في حماية النظام، بل استتبع استدعاء روسيا الباحثة عن مناطق نفوذ لمصالحها بذريعة انقاذ النظام وحلفائه من الهزيمة المحققة. بينما وجدت تركيا الفرصة سانحة لاقتطاع ما يزيد عن 20% من مساحة سوريا، واخضاعها لسيطرتها السياسية والعسكرية بحجج مواجهة خطر قيام دولة كردية، والاعتراض على الرعاية الاميركية لهم، والتي تستغل قضيتهم وحقوقهم في إطار استثماراتها لأزمات المنطقة ككل. أما مصير سوريا فلا يزال سؤالاً مطروحاً يفتقد إلى جواب الشعب السوري عنه، بالنظر لما حل بانتفاضته وتشتت قواها بين ارتهان للخارج واصوليات انتحارية، وسط عجز عن تجديد مشروع وطني لإنقاذ سوريا من مصيرها المجهول.
- كيف تقرأ الإتفاق الإيراني الصيني وهل أصبحت الصين بديلا لروسيا؟ وما هي الأدوار المتوقعة من الصين عالميا؟ هل نحن أمام حرب باردة جديدة صينية أميركية؟
لا شك أن الاتفاق الايراني – الصيني يشكل خطوة مهمة لتعزيز قدرة الصين في المواجهة الاقتصادية المستعرة مع الولايات المتحدة على الصعيد الدولي ومنه منطقتنا، حيث يستكمل الاتفاق شبكة خطوط المصالح الصينية فيها. المؤكد أن الاتفاق وبالنظر لحجمه ومدته الزمنية، يعزز فرص ايران في مقاومة العقوبات الاميركية، ويُحسِّن موقعها التفاوضي مع واشنطن. لكنه يشكل التحاقاً ايرانياً بركب الاتفاقات الصينية المشابهة في المنطقة كالتي عُقدت مع السعودية والإمارات ومصر والعراق، وإسرائيل التي اعطت الصين حق استخدام مرفأ حيفا لمدة 25 عاماً تبدأ هذا العام. لكن المؤكد أيضاً أن ايران لن تتمكن من تغيير استراتيجية الصين حيال أزمات المنطقة ورفضها التورط في نزاعاتها، والثبات عند حدود التنسيق مع الموقف الروسي. لكن ما يعنينا ويقلقنا، هو كيف يفكر ويبحث قادة الدول عن مصالح شعوبهم وبلدانهم، في ما نحن نجتر عجزنا عن مجرد التفكير في مصالحنا الوطنية، وسط المفاضلة بين بقاء بلداننا ساحة صراع مدمر والارتهان لهذا المحور أو الاستقواء بذاك النظام.
- ما بين الهلال الشيعي الإيراني والهلال السعودي ما هو مستقبل المنطقة وهل نحن أمام إعادة رسم خريطتها ؟
وفق كل المؤشرات والمعطيات الدالة، يبدو أن شعوب منطقتنا العربية ستنتظر طويلاً لمعرفة مصيرها. والسبب هو استقالتها أو اقالتها من تحمل مسؤولية تقرير مصيرها وسط إمعان انظمة الاستبداد الارتهان للخارج ضمانة لها، واستسهال هدر موارد بلدانها وتدمير عمرانها، وتفكيك مجتمعاتها واسرها في دوائر التخلف والاقتتال. هذا ما سهل للنظام الايراني استغلال إشكاليات بُنى المجتمعات العربية تحت ستار مقولة تصدير الثورة “الاسلامية”على رافعة تسعير حدة الانقسام والصراع المذهبي. ما مكنه من تأسيس مواقع نفوذ فعلية، وبناء ادوات حماية وتعزيز لها، في جميع دول المشرق العربي والخليجي، وتحوله طرفاً متدخلاً وشريكاً مقرراً لمسارات أزماتها الكيانية، ومصير مجتمعاتها في آن. وقد ساهم ذلك في تبديل أوجه الصراع في المنطقة وأدخلها في أزمات بنيوية ومجتمعية مدمرة، وتركها منهبة لتدخلات الخارج. ووضعها أمام أسئلة مصيرية معقدة ليست هي من يقرر الاجابة عنها بعد تبديد المنجز والمتراكم تحت راية هوياتها الوطنية وانتمائها القومي الموروثة من مراحل سابقة.
- كيف تقرأ التدخلات الإيرانية في المنطقة، وهل سينجح النظام الإيراني بالحفاظ على موقعه بالحكم والتلاعب بأمن الإقليم؟
كان من الطبيعي أن يلجأ الجناح الاصولي المتشدد في الثورة الايرانية إلى خوض معركة الانفراد بالسلطة وتصفية شركائه في الداخل. والتغطية المثالية لهكذا معركة دموية، تمثلت بشعار تعميم الثورة في دول الجوار. وهذا ما أدخل ايران بصراعات لا نهاية لها، حيث الاستقرار الداخلي مفقود أمام سيادة القمع والاستئثار بالسلطة والمقدرات، وإعادة انتاج الانقسام الأهلي والدفع بالاقليات العرقية والاثنية إلى خوض معارك وجودية. في المقابل جرى استنزاف مقدرات الشعب الايراني في حروب وصراعات لا مصلحة له فيها، وقد تسببت له بحصار سياسي اقتصادي ومالي خانق، ولم تجلب له ولشعوب المنطقة سوى الويلات والعداوات المجانية بينها. وفي هذا السياق كانت الحرب الايرانية العراقية المتوالية فصولاً تدميرية، وفي امتدادها يقع الدور الايراني في حروب اليمن وسوريا وتأجيج الصراع مع دول الخليج، وتزخيم الصراع في لبنان وتعزيز الانقسام الفلسطيني. كل ذلك تحت زعم إعلاء راية مواجهة اميركا على رافعة الإشكالية المذهبية المعروفة. أما النتائج وبعد عقود من الحروب المدمرة واجترار الانتصارات الوهمية، فمن المؤكد أن النظام في ايران محكوم بتسويات مع الجهات الدولية، وتحديداً أميركا التي نجحت في استغلال سياساته وإدارة الصراعات التي انخرط فيها وأشعل نارها الكامنة.
- كيف تقرأ المنظمة حرب اليمن؟
لا تختلف الحرب الدائرة في اليمن والدور الايراني فيها عن مثيلاتها في المنطقة. لكنها تكتسب أهميتها بسبب الموقع الاستراتيجي لليمن المتعدد الأوجه. حيث يحضر التداخل التاريخي بين بُنى مجتمعات دول وامارات الخليج العربي وحيث يشكل اليمن الكتلة الأكبر بينها، ما يجعل أزمات اليمن تاريخياً، بما فيها الحرب الاهلية الدائرة حالياً، قضية سياسية واقتصادية وامنية تخص كل الكيانات والبلدان المجاورة لها دون استثناء، بالنظر لنتائجها وانعكاساتها على كل الصعد، عدا مضاعفاتها المجتمعية ومآسيها الانسانية. ولذلك فإن استمرارها في ظل مشاركة ايران والتدخل السعودي فيها، يشكل عاملاً مقرراً لمصير المنطقة كيانات ومجتمعات. ومفاعيل استمرارها لم يقتصر على تعطيل عقد تسويات لوقف مسلسل الدمار والموت فيها، بقدر ما جعلها رافعة للتدخلات الدولية خاصة الأميركية منها بذريعة حمايتها وانظمتها المستبدة من الخطر الايراني، وهذا ما زين لبعضها استسهال التطبيع مع العدو الاسرائيلي والتنسيق معه طمعاً بوهم الحماية.
- أين أصبحت قضية فلسطين؟ هل مازالت مركزية للعرب؟ وما هو مصير اوسلو والسلطة؟ وكيف تقيَّم التحالف فيما بين حماس وإيران؟
لم يتغيَّر وجه الصراع العربي الاسرائيلي إلا جراء تراجع الوضع العربي على يد أنظمة الاستبداد والتخلف، والذي تضاعفت سلبياته بفعل التدخلات الخارجية، ومنها الايرانية والتركية في أزماتها الداخلية. كما فاقمها عجز قوى التغيير والتقدم عن تجديد واطلاق مشروع نهضوي، وقصورها عن بناء حركة ديمقراطية علمانية عربية، قادرة على مواجهة ما تسببت الانظمة الحاكمة وسياساتها به من نتائج، والتصدى لتحديات ومخاطر الأوضاع الراهنة وما يتفاعل فيها من أزمات. كل ذلك ساهم في تراجع موقع القضية الفلسطينية عربياً ودولياً، وحاصر نضالات شعب فلسطين وقواه الحية، واضعف سلطته الوطنية ووضع الجميع أمام تحديات لا سابق لها في تاريخ النضال الفلسطيني. خاصة مع استمرار حالة الانقسام السياسي الداخلي، التي سهّلت لبعض الاطراف خاصة تركيا وايران التلاعب بالساحة الفلسطينية. وهذا بمجمله وفّرَ للعدو الصهيوني أوضاعاً وفرصاً استثنائية لتهميش القضية، وتعريضها بالتواطوء مع الادارة الاميركية وبعض الانظمة العربية لحصار مدمر. وسهَّل على المشروع العنصري الصهيوني القيام بأوسع عملية استيطان في مناطق الصفة الغربية وغور الاردن وتقطيع اوصال مناطق احتلاله، بهدف إحالة خيار الدولة المستقلة إلى خانة الاستحالة الميدانية. وعلى ذلك فإن التحدي الذي يواجهه الفلسطينيون راهناً، ليس أقل من السعي والنضال في سبيل إبقاء قضيتهم الوطنية على قيد الحياة السياسية، أولاً من بوابة استعادة وتعزيز الوحدة الوطنية باعتبارها الضمانة الاساسية لتحقيق انجاز اقامة الدولة المستقلة ، وثانياً من خلال الانخراط بنضال متعدد الأشكال لا هوادة فيه ولا تراجع عنه بفعل الأوهام والأماني المستحيلة.
- السؤال الأخير هو: هل ستنجح إسرائيل في أخذ أدوار لبنان وهل يصبح لبنان يمناً ثانية؟
ليس بإمكانية إي دولة أخذ أدوار دولة أخرى، إلا إذا تخلت هي عنها أو عجزت عن القيام بها، وهذا ينطبق على لبنان والأدوار التي لعبها طوال مرحلة توازن علاقاته مع محيطه العربي أولاً والاقليمي والدولي ثانياً. وتحديداً في مجال الخدمات وقطاعات المصارف والصحة والتربية والسياحة التي أمنت له اشكالاً من الازدهار، وساهمت في تعزيز فترات استقراره رغم ما أحاط به من أزمات. وهي الأدوار التي دُمرت تباعاً، سواء عبر الحرب الأهلية أو نتيجة الاحتلال اسرائيلي وعدوانه والحروب المتكررة عليه، والتي يضاف لها، أنفجار أزمات الكيان والنظام وتوالي فصولها ومحطاتها، مما أدى تقاسم قبرص ودبي وغيرها تلك الادوار وبنجاح. أما الكيان الاسرائيلي ورغم اتفاقات السلام التي عقدها مع مصر والاردن والتطبيع المحدود مع دول أخرى، فهو غير مرشح لأخذ أدوار ليست من طبيعته العنصرية والعدوانية. يبقى أن واقع لبنان الراهن لا يختلف عن محيطه المأزوم والمتفجر حيث يخيم سؤال كبير حول مصيرها في ظل احترابها وتفكك مجتمعاتها وعجزها عن الدفاع عن وجودها كيانات ودول ومجتمعات قابلة للحياة، ما يجعل إمكانية إعادة رسم خرائطها خطراً داهماً. أما التحدي الدائم الذي يواجه شعوبنا العربية فهو برسم هذه الجموع ومعها النُخب العربية المدعوة للنهوض بمسؤولياتها التاريخية…
Leave a Comment