كتب المحرر الدولي
سيظل ما حصل قبل وخلال وبعد الانتخابات الاميركية موضع متابعة واهتمام عالمي، وسيشكل صفحة أساسية ومهمة في التاريخ الاميركي، لا سيما أداء الرئيس السابق ترامب ومقاطعته حفل تنصيب خلفه، واضطرراه مكرهاً على مغادرة البيت الأبيض، الا أن طيفه سيبقى مقيماً وحاضراً في دوائر القرار السياسي ومراكز الأبحاث ووسائل الاعلام، لأن أحداث تلك الأيام ستكون موضع مراجعة وبحث دائمين، بالنظر لكونها انعكاس للأزمة التي تعصف بالأوضاع الداخلية للولايات المتحدة ومضاعفاتها على أكثر من صعيد. وتضاف إلى علاقاتها الخارجية المأزومة مع المراكز الرأسمالية طوال ولاية ترامب، سواء صنفت تلك المراكز في موقع الحليف أو الخصم، حيث جبهات الصراع العالمية مفتوحة في إطار الاستراتيجية الاميركية الثابتة للهيمنة والسيطرة والنهب، بما فيها العلاقات المتصدعة مع المنظمات الدولية والاحلاف الاقليمية في إطار الهجوم المتوحش للرأسمالية الأميركية بقيادة ترامب ممثلاً لها ومعبراً عن مصالحها.
ولذلك لم يكن أمراً مفتعلاً أن يحتل الصعيد الداخلي من جوانبه كافة خطاب بايدن في حفل التنصيب. كما لم تكن الآراء والمواقف والمناشدات الوجدانية بلا دلالة. فما أدلى به الرئيس الجديد من آراء ومواقف برّزت حجم الانقسام الأهلي الذي شكلت مرآته الفاضحة أزمة التمثيل السياسي وأوضاع الحزبين الجمهوري والديمقراطي المأزومة، ومأزق الديمقراطية الاميركية المتحققة المتمثلة بالنظام الانتخابي الرئاسي في ظل شيخوخة أطر التمثيل السياسي ومصالح رأس المال والعمل في آن. وهذا ما كشفته وأكدته الانتخابات الأخيرة لناحية هشاشته وحجم المطاعن المتعلقة بمدى انتساب النظام حقاً لمضامين الديمقراطية الفعلية.
وعليه فإن هذه الواقائع الدامغة استدعت من الرئيس الجديد وصف تاريخ استلامه لمقاليد الرئاسة بـ”يوم الولايات المتحدة ويوم الديموقراطية ويوم الأمل”. ولم يكن استحضار التاريخ الاميركي وما عانته مجتمعاتها من انقسامات ونزاعات وحروب اهلية، في معرض الاعلان على هشاشة الديمقراطية، إلا للتأكيد على حجم التحديات التي تواجه الاميركيين، راهناً وفي المستقبل، في مواجهة ما يحفل به بلدهم ومجتمعاته من انقسامات أهلية متعددة ومواجهات بين الجمهورين والديمقراطين وبين الليبراليين والمحافظين، كما بين الارياف الاميركية ومراكز الولايات ومدنها بكل ما يحتشد فيها ازمات وبطالة وفقر واحياء مهاجرين وملونين من أعراق وأصول متنوعة. ما يتطلب التصدي للارهاب المحلي والتطرف والعنف والعنصرية ضد المرأة ورفض الآخر ووهم تفوق العرق الابيض. أما الهدف الدائم والرئيسي الذي يدعو الجميع لمشاركته المسؤولية عنه، فهو العمل في سبيل المصالحة والوحدة باعتبارهما ضمانة لجميع الاميركيين ولمستقبلهم.
ولأن الأولوية معالجة الاوضاع الداخلية والحد من مضاعفاتها، باعتبارها الوجه الآخر لأزمة الرأسمالية، فقد رفع شعار “إعادة بناء اميركا” من أجل استعادة الدور والموقع القيادي لاميركا في شتى الميادين.وفي هذا المجال فإن التصدي لأزمات الاقتصاد ومواجهة جائحة كورونا يقعان في مقدمة جدول أعمال إدارته، لاعادة بناء وتاهيل الاقتصاد والبنى التحتية، لتمكينه من تجديد قدراته التنافسية مع جميع مراكز الاقتصاد الرأسمالي، سواء مع الصين واليابان أو مع اوروبا وبلدان الجوار الاميركي. وذلك في موازاة مكافحة مضاعفات كورونا على الاقتصاد والمجتمع في آن. دون أن تغيب الاشارة لعودة الولايات المتحدة إلى المواقع والاتفاقات والعلاقات التي قرر ترامب الخروج منها. وهي القضايا التي وفور انتهاء مراسم حفل التنصيب، بادر لتأكيد أولويتها عبر توقيع المراسيم التي تتعلق بدعم الاقتصاد ومحاربة الوباء وتصحيح العلاقة بمنظمات الأمم المتحدة والعودة إلى اتفاقية المناخ، إلى وقف بناء الجدار العازل مع المكسيك وإلغاء مفاعيل قرارات ترامب بشأن منع الهجرة من بعض الدول الاسلامية. وصولا إلى ترميم العلاقات مع حلفاء اميركا خاصة أوروبا والحلف الاطلسي.
وبعيداً عن التبسيط ومقولات هزيمة الرأسمالية الاميركية أو سهولة وسلاسة تجاوزها لأزماتها، أو استسهال عودة الأمور إلى ماكانت عليه قبل رئاسة ترامب التي كشفت حجم تلك الأزمات التي تشمل نظامها السياسي وهشاشة الديمقراطية المدعاة، والتبسيط الذي يرافق تلك المقولات حول انهيار دورها وموقعها على الصعيدين الاقتصادي والسياسي عالمياً. فمما لاشك فيه أن صراعاً محتدماً ستشهدة ساحات وميادين الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة في اميركا، تعبيراً عن مصالح ورؤى مجتمعية متنوعة متباينة ومتناقضة، تبرر استمرارها باشكال مختلفة، وإن تحت سقف الخيارات والمصالح الاستراتيجية الرئيسية الثابت والراسخة التي يظللها شعار عودة أميركا إلى موقعها القيادي للعالم، مهما كانت حزبية الرئيس. ما يعني أن الصراعات القائمة والمفتوحة راهناً مع الخارج،غير مرشحة للزوال لأنها تعكس مصالح دول وكيانات متعددة وفق أشكال وأوجه تتبدل فيه الاسلحة والوسائل في ما الاهداف ثابتة.
وإذ غابت منطقة الشرق الأوسط وإيران عن خطاب التنصيب، فقد حظيت بقسط مهم لاحقاً بشأن التشاور مع الحلفاء حول المفاوضات مع ايران، وتأكيد مطالبتها بالتزام ما ينص عليه الاتفاق النووي معها كشرط لبدء التفاوض سواء عبر اتصالات بايدن مع قادة الدول الحليفة. وهذا ما أكدته أيضاً التصريحات والمواقف المتشددة الصادرة عن مسؤولي إدارة بايدن حيال الاتفاق النووي وسياسات ايران باعتبارها مصدر الخطر الاساسي في المنطقة، وما واكبها من استعراضات قوة. ما يعني أن الثابت لدى الإدارة الجديدة هو البناء على ما أنجزه ترامب لمصلحة اسرائيل، التي ستبقى الحليف الاستراتيجي الأول دون منافس، يليها انظمة الاستبداد العربية والاقليمية المتحاربة، التي ستحظى بقسطها من الرعاية والإدارة المتناسب والمصالح الاميركية التي ستقرر طبيعة التسويات الممكنة معها وفي ما بينها في نهاية المطاف. أما الحلول المعبرة عن المصالح والحقوق السياسية لمجتمعاتها وكيانتها الوطنية فلا تزال مفقودة وبعيدة المنال في ظل غياب القوى الفعلية التي تمثل مصالحها حقاً وفعلاً.
Leave a Comment