منشورات بيروت المساء
أوراق يسارية
نصوص حزبية لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان
منتصف شباط 2016
مسار التجديد الفكري – السياسي في منظمة العمل الشيوعي في لبنان خلال ثلاثة عقود (1982-2012)
تقديم وتمهيد
يضم هذا الكتاب تسجيلاً لأهم محطات المناقشة الفكرية السياسية المستفيضة التي شهدتها منظمة العمل الشيوعي في لبنان في إطار مؤتمرها العام الثاني الذي انطلقت عملية التحضير لإنعقاده بعد العام 1982، وظلت فصولها النهائية المنتجة تتوالى بين ربيع العام 2001 (تاريخ إختتام المرحلة الأولى من أعمال هذا المؤتمر) وصيف العام 2009 (تاريخ إنتهاء المرحلة الثانية منه).
وإلى ذلك يضم هذا الكتاب أيضاً حصيلة المؤتمر العام الثالث للمنظمة المنعقد خلال الفترة الواقعة بين منتصف تشرين الأول ومنتصف كانون الأول من العام 2012 تحت عنوان: تزخيم المسار الحزبي للمنظمة.
ولا تستقيم عملية تقويم الحدث الذي يمثله اختتام أعمال المؤتمر العام الثاني لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان بمرحلتيه، إلا حين نضعه في سياقه الأشمل من المسيرة المديدة للمنظمة والتي استظلت براية التجديد الفكري والسياسي منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمان. مما يعني أنه لا محل في هذا المجال لأي نظرة إدارية ـ تنظيمية جزئية في تقويم الحصيلة الأخيرة لنتائج المؤتمر تنطلق من حصره في موعد معين أو حشره في جلسات بعينها. بل ربما يكون من الأصوب القول في هذا المجال أن المنظمة كانت في حال مؤتمر دائم منذ أكثر من عشرين عاماً. ولا تنتقص هذه الإطالة من أهمية المؤتمر وجدواه في تاريخ المنظمة، مثلما لا يجوز النظر إلى الفترة الطويلة التي استغرقها إنجاز المؤتمر ـ تمهيداً وتحضيراً ومناقشةً واختباراً طاول كل المجالات ـ على أنها كانت مجرد وقت ضائع أو مسلسلاً من التأجيل المتمادي على غير مبرر.
أولاً: المنظمة أمام تحديات مصيرية بعد العام 1982
لقد بدأت بواكير التمهيد لانعقاد المؤتمر العام الثاني للمنظمة تتوالى بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وفي ظل تحدياته الضخمة. وخلال الفترة الممتدة بين عام 1982 وعام 1988، خاضت المنظمة تحت رايات النضال من أجل التحرير والتوحيد والديمقراطية غمار صراع مديد ومرير دفاعاً عن استقلاليتها في وجه ضغوط الإلتحاق بخطة السعي إلى تجديد الهيمنة السورية الرسمية على لبنان، ورفضاً للإنخراط في حرب أهلية متجددة لم يعد ممكناً التماس أي تفسير ـ فضلاً عن أي تبرير ـ لانزلاق اليسار إلى ركوب مركبها التدميري لبنية البلد، ثم دعوة ملحاحة لهذا اليسار إلى العودة إلى مسقط رأسه الأصيل وجهة فكرية وموقعاً اجتماعياً وخياراً سياسياً ومسلكاً نضالياً.
ولم تكن مضت أشهر على اجتياح الجيش الإسرائيلي لبيروت وإعلان قيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية حتى كانت منظمة العمل الشيوعي تجد نفسها وحيدة في خياراتها ومجردة من أي تحالفات فعلية، بدءًا من الطرف الذي كان أقرب إليها ضمن بيئة اليسار انتهاءٍ بآخر طرف كانت الحركة الوطنية ضمته في صفوفها إبان صعودها وصعود الدور القيادي للمنظمة في مقدم صفوفها.
هكذا نأت المنظمة بنفسها عن كل “الجبهات الوطنية” التي تناسلت من بعضها تحت الإدارة المحكمة للأجهزة السورية، وصمدت أمام سيول الحرب الأهلية المتجددة الجارفة معلنةً أنها إذ تتفهم وتستوعب مجمل الأسباب التي جعلت من الحرب الأهلية المندلعة مجدداً من كل جوانب البنية اللبنانية وضفافها ممراً إجبارياً فرضه قيام رئاسة كتائبية للجمهورية اللبنانية في ركاب الإحتلال الإسرائيلي، فإنها تجد موقعها الطبيعي ضمن إطار جبهة المقاومة الوطنية أساساً، وفي طليعة المقاتلين ضد الإحتلال الإسرائيلي، والمناضلين ضد السيطرة الأميركية، وعلى رأس صفوف الملتزمين نهج المعارضة الديمقراطية الحازمة للهيمنة الفاشية الداخلية.
وفيما كان الطرف اليساري الآخر، الذي جمعته بالمنظمة رابطة النضال المشترك ضمن وجهة فكرية سياسية مشتركة على امتداد السبعينات ومطلع الثمانينات، يرفع شعار “استكمال الثورة الوطنية الديمقراطية” في مجرى الحرب الأهلية المتجددة تحت قيادة النظام السوري هذه المرة، كانت المنظمة تدعو نفسها وسائر أهل اليسار والديمقراطيين إلى الخروج من دائرة الحرب الأهلية ذات المفاعيل التدميرية الصافية، وإلى توجيه كل الجهود لخوض غمار المغالبة التاريخية الكبرى آنذاك بين مسار المقاومة الوطنية والمعارضة الديمقراطية من ناحية وبين الطوفان الطوائفي العارم وانكشاف البنية اللبنانية الشديد على الخارج، كل خارج، من ناحية ثانية.
ومن البديهي القول أن ضغط هذه المعركة القاسية المتعددة الميادين على أوضاع المنظمة لم يكن هيناً أو ليناً، وأن استفرادها من جانب من كانوا بالأمس ضمن منظومة تحالفاتها لم يمر من دون آثار سلبية على مسيرتها الحزبية. هكذا شهد عام الإجتياح الإسرائيلي لبيروت (1982-1983) انهياراً أساسياً في الحلقة القيادية الأولى للمنظمة. وعاد العام 1987 ليشهد، مع عودة القوات العسكرية السورية إلى بيروت، تكراراً لذلك الانهيار في الحلقة القيادية ومع مضاعفات سلبية إضافية أشد وطأة من السابق هذه المرة.
ثانياً: المحطة الأولى في التحضير للمؤتمر العام الثاني بين العام 1988 والعام 1992
في خريف العام 1988 أطلقت اللجنة المركزية للمنظمة حملة مناقشة مستفيضة شاملة كل القضايا والعناوين الفكرية والسياسية والتنظيمية التي كان لا بد من قول آراء واتخاذ مواقف مفصلية ومصيرية منها جميعاً. هكذا تلاقت الحوافز المتصلة بالأزمة الحزبية الداخلية في المنظمة من ناحية، وبمسار الانهيار البنيوي الذي تضاعفت أخطاره على البلد حين جرى تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية في موعد استحقاقها المفترض عام 1988 من ناحية ثانية، وبالمخاض العسير الذي كان يشهده المحيط العربي الأقرب إلى لبنان من ناحية ثالثة، ثم بالتحولات النوعية في أوضاع الإتحاد السوفياتي وسائر المعسكر الإشتراكي والتي كانت مؤشراتها السلبية تتوالى على غير انقطاع من ناحية رابعة وأخيرة، تلاقت كل هذه الحوافز لتجعل من قضية عقد المؤتمر العام الثاني للمنظمة قضية راهنة أكثر منها في أي وقت مضى. ومن مادة هذه الروافد مجتمعة كان يتسلسل حشد القضايا الفكرية السياسية ـ التنظيمية الكبرى التي أخذت تعطي لوجهة السعي إلى إنجاز المؤتمر العام الثاني طابع المحطة التأسيسية الثانية الأكثر حسماً في تاريخ المنظمة.
وتوالت بين العام 1988 والعام 1992، خطوات كبرى في صفوف المنظمة جمعت بين تصعيد ممارساتها السياسية المستقلة الفريدة والمتفردة في ميدان الرد على الانعطافات الخطيرة في مسار الأزمة اللبنانية من ناحية، وبين فتح ملف تأهيل المنظمة لمراجعة فكرية – سياسية – تنظيمية تعيد جلاء موقعها الأصلي وترسم مسار التجديد في حاضرها وفي اتجاه مستقبلها من ناحية ثانية. وإذ تتعذر العودة تفصيلاً إلى كل وقائع تلك السنوات، لا بد من التشديد على النقطة الأهم في هذا المجال والتي تشير إلى أن المنظمة استكملت في هذه الحقبة رحلة انفصالها الصريح عن سائر بيئة اليسار وأحزاب الحركة الوطنية السابقة في التعاطي مع مضاعفات الأزمة اللبنانية المتوالية فصولاً. فانفردت في الدعوة إلى وقف الحرب الأهلية، وإلى إنجاز استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية بأي ثمن تسووي، لأن المهم على حدِّ قولها آنذاك هو بقاء الجمهورية فيما يشكل المضي في تبادل الشروط المتقابلة المستحيلة حول شخص الرئيس القادم للجمهورية تعطيلاً للانتخابات من أساسها، وهو أقصر الطرق نحو دفع البلاد إلى انهيار لا قيامة لها من بعده. وعلى قاعدة هذا النهج المسؤول في النظر إلى مخاطر الانهيار البنيوي المحدقة بأوضاع البلد، استقلت المنظمة في اتخاذ مواقف صريحة في دعمها للمساعي العربية لحل الأزمة اللبنانية، وفي تأييدها انعقاد مؤتمر الطائف من دون إبطاء، ثم في وقوفها إلى جانب كل مفاعيل اتفاق الطائف انتخاباً لرئيس الجمهورية الجديد، وتعديلاً للدستور، وإفراجاً عن كل مؤسسات الحكم المعطلة.
وخلال هذه السنوات الخمس ذاتها، وفي موازاة الصراع الذي خاضته المنظمة ضد الحرب الأهلية ومن أجل التسوية السياسية، توالت خطوات التأهيل الحزبي للتنظيم من أجل تأمين تكيفه مع مسار التجديد الفكري ـ السياسي ـ التنظيمي الذي بدأت معالمه تتضح، والذي شكلت حقبة التسعينات مختبره الزمني المتقدم. وإذ لاحظت اللجنة المركزية أن جيلاً كاملاً من الأعضاء نشأ وعيه وتكون في ظل أحكام الحرب الأهلية التي انخرطت فيها المنظمة خلال السبعينات، ثم في ظل طوفان الحرب الأهلية التي أغرقت البلاد خلال الثمانينات، مما جعل هذا الجيل يبتعد كثيراً عن الموقع التاريخي الفعلي للمنظمة بل وعن مبرر وجودها الأصلي ضمن تيارات اليسار العربي ومنظومة اليسار اللبناني، نقول: إذ لاحظت اللجنة المركزية خطورة هذا الواقع وجدت أن الطريق الأسلم لإكساب التنظيم الحزبي أهلية التفاعل مع وجهة السعي إلى عقد المؤتمر يتطلب التمهيد له بخطوتين تثقيفيتين أساسيتين:
الخطوة الأولى: اتخذت صيغة تنظيم دورة مطولة للكادر الحزبي تحت عنوان “تاريخ التطور التنظيمي للمنظمة” منذ تأسيسها.
الخطوة الثانية: اتخذت صيغة “مراجعة شاملة للموضوعات البرنامجية اللبنانية المعتمدة في المنظمة بين عام 1969 وعام 1989”. إذ كان لا بد من تعريف الكادر الحزبي على المنظمة التي ينتسب إليها فكراً سياسياً أصلياً ومسيرة تنظيمية مديدة، قبل افتراض أهليته للانخراط في مسار تجديد فكري ـ سياسي ـ تنظيمي شامل يبني على الموقع التاريخي الأصلي للمنظمة ويتجاوزه في آن.
هذه العملية التمهيدية استغرقت الفترة الممتدة بين عام 1988 وعام 1992، وتوسطتها دورة للجنة المركزية عقدت في أيار 1990 قدَّم خلالها الأمين العام مداخلة طويلة “حول الموضوعات البرنامجية المعتمدة في المنظمة بين عام 1969 وعام 1989”. وقد عنيت المداخلة بجلاء الأصل في الموضوعات البرنامجية التي نشأت على أساسها المنظمة من ناحية وبتقديم خلاصات حول الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة في معطياتها ومقدماتها وبداياتها بين العام 1968 والعام 1975، وفي وقائعها ونتائجها ومضاعفاتها المستمرة بين 1975 و1989 من ناحية ثانية، ثم بتقويم وتحليل الوعي البرنامجي السائد في صفوف المنظمة: “من الدور القيادي في الحركة الوطنية إلى المناداة بوقف الحرب الأهلية” من ناحية ثالثة. ونالت هذه المداخلة ما تستحق من مناقشة ضمن إطار اللجنة المركزية أولاً ثم في صفوف الكادر الحزبي ولدى جمهرة الأعضاء الحزبيين ثانياً. وقد سمحت كل هذه التمهيدات للجنة المركزية بأن تتوقف في دورتها المنعقدة في 22 آب 1991 أمام مسيرة التحضير اللازم للمؤتمر العام الثاني للمنظمة، فأجرت مراجعة للخطوات التمهيدية التي توالت خلال السنوات السابقة، وهي سنوات “شهدت فيها المنظمة ـ حسبما جاء في التقرير الصادر عن اللجنة المركزية آنذاك ـ صراعاً حقيقياً من أجل اكتساب جاهزية حزبية وأهلية متطورة في صفها القيادي ولدى جمهرة أعضائها، وذلك ليأتي المؤتمر مؤتمر الحاسمين في خيارهم بتجديد المنظمة. وهي العملية التي حققت في النهاية فرزاً بين الذين أعلنوا خيارهم مناضلين مستمرين في المنظمة وبين الذين تساقطوا خلال هذه المسيرة بعد أن شكلوا إعاقات عرقلت مسار المراجعة لفترة غير قليلة من الزمن”.
وكان العام 1992 عاماً استثنائياً بالفعل لجهة الأحداث الكبرى التي توالت خلاله على المسارح الدولية والإقليمية ـ العربية واللبنانية ـ الداخلية. فخلاله انعقدت مفاوضات المسارات العربية ـ الإسرائيلية في امتداد صيغة مؤتمر مدريد، وتوالت أحداث انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة “المعسكر الإشتراكي”، وشهد لبنان تحركاً مطلبياً صاخباً كان الأول من نوعه بعد الشروع في تطبيق اتفاق الطائف بواسطة حكومته الأولى، مما أدى إلى استقالتها، ليجري تنظيم انتخابات نيابية لبنانية انقسمت البلاد حولها بين مشارك فيها ومقاطع لها. وخيمت هذه المواضيع كلها على دورات اللجنة المركزية التي انعقدت تباعاً وعلى غير انقطاع خلال ذلك العام وكانت آخرها دورة تشرين الثاني 1992. وحملت القرارات الصادرة عن هذه الدورة في صدد المؤتمر العام نصاً جاء فيه “إن اللجنة المركزية قد دعت نفسها إلى بذل طاقتها في سبيل تحقيق انعقاد المؤتمر العام الثاني بصفته محطة أساسية يمكن معها ويجب أن نقدم خلاصة ما توصلنا إليه على هذا الصعيد في نص يحمل عنوان “في الاشتراكية” ويتضمن الإشارات الواضحة واللازمة إلى التلاوين الفكرية المختلفة حيثما برزت في هذا الصدد”.
ومنذ ذلك الوقت، أي منذ نهاية العام 1992، سلكت المناقشات التحضيرية للمؤتمر العام الثاني للمنظمة مسلكاً منهجياً مترابطاً ومتصل الحلقات على غير انقطاع، توصلاً إلى انعقاد المؤتمر في مرحلته الأولى خلال الفترة الواقعة بين الثامن والعشرين من تشرين الأول عام 2000 والثامن والعشرين من كانون الثاني عام 2001.
ثالثاً: إنجازات التحضير الفكري – السياسي لانعقاد المؤتمر العام الثاني بين 1992 و2001
الإنجاز الأول: مناقشة جديدة لأزمة الاشتراكية المتحققة تحت راية الماركسية
بعد أن سارت اللجنة المركزية شوطاً كبيراً في قراءة أبرز الموضوعات البرنامجية المعتمدة في المنظمة خلال العقدين المنصرمين بين 1969 و1989، انتقلت في أيار من العام 1992 إلى مرحلة جديدة من البحث في الخيار الفكري العام للمنظمة انطلاقاً من التوقف أمام أزمة الإشتراكية المتحققة تحت راية الماركسية. وصدرت حصيلة هذا البحث ضمن كتاب بعنوان: “في الاشتراكية نص نقدي ـ تحليلي” منتصف نيسان عام 1993. وإذا كنا لم ندع في حينه، مثلما لا ندعو الآن، إلى التجمد عند الحدود النظرية التي حكمت ذلك النص، لكن هذا الأمر لا ينتقص البتة من الأهمية التاريخية النسبية للنص المشار إليه في مجرى التطور الفكري للمنظمة. إذ أنه أتى يزيح في حينه أهم العقبات المعرفية التي كانت تحول دون التحرر المطلوب من بقايا الجمود العقائدي ومن قيود ثقافة المحفوظات والكراريس التي أفقرت فكر المنظمة ردحاً طويلاً من الزمن. ويكفي أن نذكر ونتذكر هنا أن كتاب “في الاشتراكية” حمل في قسمه الأول آراء جريئة في نقد الماركسية، بصرف النظر عن مدى صوابها ودقتها ونضجها آنذاك. ووردت فيه آراء مستنيرة حول بعض النقد الرائج للإشتراكية المتحققة تحت راية الماركسية، وتحديدات صائبة ودقيقة حول موقع ومضمون نقدنا للماركسية انطلاقاً من فهم معين لحدود النص الماركسي الأصلي، ولموقع الماركسية ضمن الحركة الإشتراكية نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بما يضع النص الماركسي الأصلي على محك التاريخ صواباً أو خطأً، اكتمالاً أو قصوراً. كما وردت في الكتاب أيضاً إشارات وافية لموقع ومضمون نقدنا للينينية تناولت نشوءها ومصيرها بين أيديولوجيا الكونية وواقع الخصوصية الروسية، توصلاً إلى قراءة غير لينينية لثورة أكتوبر وإنجازاتها الأولى. وفي مضمار نقد الستالينية والنظام السوفياتي حمل كتاب “في الاشتراكية” أحكاماً قاطعة في استخلاصاتها أننا كنا تحت راية الاشتراكية المتحققة في الاتحاد السوفياتي أمام نمط إنتاج جديد لمجتمع طبقي جديد. ومن هنا انتقل الكتاب إلى رصد وتحليل أزمة النظام السوفياتي: من إعلان اللاستالينية إلى البروستريكا فالانهيار.
أما القسم الثاني من كتاب “في الإشتراكية: نص نقدي تحليلي” فقد حمل تحت عنوان “نظرة ثانية إلى تاريخ الحركة الإشتراكية العالمية” أفكاراً متجددة في نقد الأممية الثالثة والحركة الشيوعية العالمية، وفي نقد الماوية واليسار العالمي الجديد، وانطوى القسم الثالث من الكتاب على نقد جديد قديم للإشتراكية الديمقراطية في نسختها الغربية المعاصرة، لينتهي في القسم الرابع منه إلى صوغ خلاصات واستنتاجات عامة من أبرزها قوله: “أن الماركسية تبقى في نظرنا جزءاً من تراث الحركة الاشتراكية لا يمكن شطبه، بل ينبغي حفظ اعتباره، والانفتاح عليه، واستيحاء كل ما هو صحيح منه، وفي الماركسية نظرات علمية تشكل حقلاً معرفياً ضخماً ينبغي عدم التردد في الإستناد إليه ونحن نرتاد آفاق تجديد خيارنا الإشتراكي. فالفارق كبير ومهم بين القول الصحيح أن لا محل لتقييد اشتراكيتنا بقيد الإلتزام الكلي بالماركسية وبين القول الخاطئ أن اشتراكيتنا لا تتجدد إلا بمقدار ما تتنكر كلياً للتراث الماركسي”. ومن الخلاصات والاستنتاجات التي انتهى إليها كتاب “في الإشتراكية” قوله ختاماً: “… يتعين علينا أن نستقي مادة تحديد وتجديد نظرتنا إلى الاشتراكية من مصدرين أساسيين، أولهما تجديد فهم أزمة الرأسمالية في واقعها الراهن خلال العقد الأخير من القرن العشرين، والثاني رؤية حدود الديمقراطية المتحققة في عالم اليوم واستكشاف أزمتها من جديد. ففي هذين المصدرين، أي في أزمة الرأسمالية كنظام اقتصادي، وأزمة الديمقراطية كنظام سياسي، يكمن الأصل المستمر لكل مشروع إشتراكي”.
الإنجاز الثاني: بحث متجدد في أزمة الرأسمالية
وانتقلت اللجنة المركزية في دورتها المنعقدة بتاريخ 5 و9 آب 1993 إلى الدخول في غمار مناقشة مستفيضة لأزمة الرأسمالية بصفتها الوجه الآخر المقرر لمضمون خيارنا الإشتراكي في نسخته الجديدة.
وإذ لا يتسع المجال، في هذه الاستعادة الموجزة لمسار التجديد الفكري ـ السياسي في المنظمة خلال عقدين، لعرض شامل يتناول كل ما انطوت عليه المداخلة التي أدلى بها الأمين العام في حينه حول أزمة الرأسمالية نكتفي بالإشارة إلى أهم أقسامها. لقد تركز القسم الأول من المداخلة على بعض المفاهيم الماركسية حول أزمة الرأسمالية لأن درس أزمة الرأسمالية كان الحقل الأكبر والأساسي للنص الماركسي. وتمحور القسم الثاني من المداخلة على الأزمة الراهنة للرأسمالية في مراكزها المتقدمة، فيما عني القسم الثالث منها بتعيين عناصر الأزمة الراهنة للرأسمالية في أطرافها المتخلفة، لينتهي القسم الرابع بالتوقف أمام أزمة الرأسمالية في بلدان المعسكر السوفياتي السابق.
الإنجاز الثالث: موضوعات الدورة المفتوحة للجنة المركزية بين نيسان 1994 وآذار 1995
بعد الوقفة الوافية نسبياً أمام الإنجازين الأول والثاني في مجرى التحضير الفكري ـ السياسي لانعقاد المؤتمر العام الثاني، (إنجاز المناقشة لأزمة الاشتراكية المتحققة تحت راية الماركسية، وإنجاز البحث المتجدد في أزمة الرأسمالية)، لا مفر من الاكتفاء بالمرور سريعاً على عناوين الإنجازات اللاحقة توصلاً إلى انعقاد المؤتمر المشار اليه في مرحلته الأولى في موعده المقرر.
لقد عقدت اللجنة المركزية دورة مفتوحة بين نيسان 1994 وأيلول 1995 قدَّم خلالها الأمين العام للمنظمة سلسلة مداخلات انطلقت من تعيين هيكل مواضيع الوثيقة الفكرية البرنامجية التي ينبغي أن تتمحور حولها أعمال المؤتمر. وانطوى الهيكل المقترح على أقسام سبعة: في الخيار الإشتراكي، وفي الوضع العالمي، وفي الوضع العربي، وفي الوضع اللبناني، وفي تجربة المنظمة، وفي عنوان مشروعنا الحزبي القادم. وتخللت جلسات هذه الدورة مناقشات انخرط فيها أعضاء اللجنة المركزية ونالت ما تستحق من تعقيب واهتمام شمل مواضيع الأقسام السبعة المشار إليها من دون استثناء، وبنفس نقدي ناضج جعل من الخلاصات التي انتهى إليها البحث في تلك المواضيع نقاط انعطاف نوعية في اتجاه تطوير الهوية الفكرية للمنظمة.
الإنجاز الرابع: دورة اللجنة المركزية المفتوحة بين آذار وأيلول 1995
تحت عنوان: نحو مشروع حزبي جديد
لقد عالجت المداخلات التي أدلى بها الأمين العام والمناقشات التي انخرط فيها أعضاء اللجنة المركزية تحت عنوان: نحو مشروع حزبي جديد، القضايا الرئيسية التي يواجهها مشروعنا الحزبي المتجدد. وفي هذا المجال أجرى الأمين العام قراءة أخرى لأزمة المنظمة توصلاً إلى الإلمام بالتحديات المطروحة علينا نحو تجديد المشروع الحزبي على قاعدة تحديد نقاط الضعف التي نعاني منها ونقاط القوة التي نمتلكها في هذا المجال.
الإنجاز الخامس: إنجاز الجمعيات العمومية للفروع تمهيداً لعقد الجمعية العامة للمنظمة في 27 نيسان 1997
لقد انعقدت الجمعيات العمومية للفروع بإشراف الأمين العام لتمارس حقها في المناقشة الأخيرة لكل قضايا المراجعة الفكرية ـ السياسية ـ التنظيمية التي انطوى عليها التحضير المديد لانعقاد المؤتمر العام الثاني على امتداد السنوات السابقة.
وانعقدت الجمعية العامة للمنظمة ليتحدث فيها الأمين العام حديثاً ختامياً كان لا بد منه قبل الدخول في صميم الانعقاد النظامي للمؤتمر. وتمحورت مداخلة الأمين العام في هذا الصدد حول العناوين الآتية:
- في تعيين ميزان قوى إعادة تأسيس المشروع الحزبي.
- في الصعوبات الموضوعية التي تواجه إعادة تأسيس مشروعنا الحزبي
- حول بيئة اليسار، أزمة ومخارج محفوفة بالشكوك والصعوبات.
4- حول بيئة الحركة النقابية وزناً وتركيباً ودوراً.
5– حول بيئة النخبة الثقافية وما تشهده من اختراقات وما يعتمل في صفوفها من مخاض.
6– في تعيين الطاقة الفعلية للمنظمة.
7– في أولوية السجال الفكري طليعة لكل الأولويات.
8– في ضرورة إعادة إنتاج الموقع السياسي.
9– في أهمية النمو الحزبي.
رابعاً: انعقاد المؤتمر العام الثاني لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان في مرحلته الأولى وقراره الشجاع في تشخيص أزمة المنظمة
خطوة متقدمة في مسار التجديد الفكري ـ السياسي للمنظمة
أجرى المؤتمر العام الثاني لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان، في المرحلة الأولى من انعقاده خلال الفترة الواقعة بين الثامن والعشرين من تشرين الأول عام 2000 والثامن والعشرين من كانون الثاني عام 2001، مناقشة مستفيضة لأزمة المنظمة، وانتهى إلى إقرار توصية سجل بموجبها أهمية الإنجاز الذي نجح في تحقيقه والمتمثل في تناول أزمة المنظمة عبر طروحات صريحة في التشخيص، جريئة في الدعوة إلى ربط نتائج كل موقف من هذه الأزمة بمقدماته ربطاً موضوعياً مسؤولاً ونزيهاً. وهو إنجاز لم يكن متيسراً تحقيقه إلا على قاعدة النجاح في تحويل انعقاد المؤتمر إلى محفل ديمقراطي متقدم عن كل سوابق الممارسة التنظيمية في إطار الحياة الحزبية الداخلية للمنظمة.
وإذ نوه المؤتمر بالجهد الذي بذله جميع الأعضاء الذين حضروا جلساته عبر مشاركتهم في المداخلات والمناقشات والمداولات التي تتابعت على امتداد ثلاثة أشهر سعياً إلى الاتفاق على التشخيص الأصوب لأزمة المنظمة، شدد في الوقت عينه على الأهمية المحورية للمداخلات الأربع التي أدلى بها الأمين العام في الثاني عشر والتاسع عشر من تشرين الثاني وفي العاشر والسابع عشر من كانون الأول عام 2000، والتي أتت تحمل وجهة نظره حول العناصر الأصلية لأزمة المنظمة وتجلياتها الراهنة.
وإذ وافق المؤتمر على الوجهة الإجمالية التي انطوت عليها مداخلات الأمين العام هذه تشخيصاً لأزمة المنظمة، أكد في هذا الصدد على فهمه لأبرز محاورها على النحو الآتي:
1 ــ لقد أرست المراجعة النقدية الشاملة التي خاضت المنظمة غمارها خلال النصف الأول من التسعينات المفاتيح النظرية الأساسية لتناول أزمة المنظمة على النحو الأصوب. إذ انصبت تلك المراجعة على النقد العميق والصريح للخانات الأساسية الثلاث التي تشكل منها خط المنظمة تاريخياً وعليها نهض بنيانها وتوالت ممارساتها.
أ – الهوية الفكرية القائمة على التشدد الأصولي الماركسي في وجه ما كانت تعتبره المنظمة تحريفية فكرية وانتهازية سياسية لدى الطرف الآخر من اليسار.
ب – وجهة الالتحاق بالعروبة الفلسطينية والتحالف مع ما جرى اعتباره طائفيات لبنانية مغبونة في وجه الهيمنة الطائفية السائدة على مقدرات لبنان ـ الكيان ولبنان ـ النظام في آن.
ج – خيار الإنخراط في الحرب الأهلية طريقاً يسارياً لبنانياً مخصوصاً للحرب الطبقية التي ظلت لفظيتها وشعاراتها تخترق طروحات المنظمة الاستراتيجية والتكتيكية في كل الميادين.
2 ــ في ظل هذا الأصل البنيوي العميق، القديم ـ الجديد ـ المستمر، لأزمة المنظمة كما تبدت تحت وطأة المراجعة النقدية الشاملة خلال النصف الأول من التسعينات، كان من الطبيعي أن تكون ذروة المراجعة أعوام 1995-1996-1997 هي ذاتها ذروة الأزمة، أي أنه لم يكن للمراجعة مفعول استنهاضي مبسط كما خُيل للكثيرين، بل ظهر واضحاً أن الوجهة الإستنهاضية الإرادوية، التي كانت تلح على ضرورة تجاوز المنظمة القديمة بعمل يساري جديد، لم تكن قادرة على ضبط أو كبح الفرز المتمادي في بنية المنظمة. لقد أتى هذا الفرز يستكمل إطاحة معظم قوى المنظمة القديمة تعداداً حزبياً، وحجماً شعبياً، ومراكز نفوذ اجتماعي، وأطراً نقابية وثقافية، وأدواراً نضالية، ووزناً سياسياً إجمالياً. وليس من قبيل المبالغة القول، ترصيداً لحساب مضاعفات أزمة المنظمة بعد منتصف التسعينات، أنه بقي في صفوف المنظمة ـ رغم المراجعة وبعد المراجعة ـ من أشكال الوعي السابق أكثر بكثير مما بقي لها من عناصر القوة السابقة.
3 ــ في ضوء هذه النظرة النفاذة من ظواهر أزمة المنظمة إلى بواطنها جرى تفحص وتقويم حصيلة الاختبار الذي خاضته المنظمة على كل الجبهات الفكرية والسياسية والنضالية خلال أعوام 1996 و1997 و1998 و1999 و2000. وإذا كان بديهياً القول أن هذه الحصيلة كانت محدودة الفاعلية، فإن ما يجب الحسم فيه على نحو قاطع هو أن هذه الحدود كانت تعكس حجم ما بقي للمنظمة من طاقة ومن أهلية لخوض غمار تأسيس عمل يساري جديد وفق شروط متقدمة مختلفة وعلى قاعدة استقلال صراعي صارم في انفصاله عن كل ما هو سائد في صفوف اليسار اللبناني من مقاربات سطحية. وإذ سجل المؤتمر ضرورة الحسم في تفسير تفاقم أزمة المنظمة خلال النصف الثاني من التسعينات على قاعدة هذا الفهم الموضوعي المستنير للمعضلات البنيوية التي تسترهن وضعنا الحزبي، دعا إلى الإقلاع عن كل القراءات المبسطة التي نسبت وتنسب تفاقم الأزمة إلى إنكفاء سياسي طوعي محيّر، أو إلى تباطؤ في الإدارة الحزبية القيادية على غير مبرر، أو إلى النكوص عن النهج الفكري والسجالي الجريء تخلياً غير مفهوم عن بعض ما كان سابقاً أمضى أسلحة المنظمة في ممارسة دورها ضمن اليسار والحياة السياسية اللبنانية على وجه العموم. فالطحشة السياسية وحدها لا يمكن أن تصنع دوراً سياسياً في غياب مقوماته الفعلية، والإدارة الحزبية لا تستطيع اجتراح الحلول للمعضلات البنيوية العميقة بمجرد تصعيد وتيرة الدأب الحزبي ومضاعفة النشاطية وتزخيم الإرادوية، والدور الفكري السجالي النقدي يصبح أقرب إلى الفولكلور الشكلي المنفر حين تغيب عنه الفتوحات النظرية الفعلية، ويخلو من السبق السياسي الحقيقي، ويفتقد القوة الداعمة له على أرض الممارسة العملية.
4 ــ لقد كانت وقائع المداخلات والمناقشات والمداولات التي شهدها المؤتمر العام الثاني، خلال الأشهر الثلاثة من انعقاده، حول تشخيص أزمة المنظمة بالغة الدلالة هي أيضاً على عمق هذه الأزمة واستعصائها. إذ ظهر في هذا المجال كم كان المناخ الحزبي الإجمالي مشدوداً إلى التفسيرات السهلة والمبسطة للأزمة، وكم يظل الوعي الحزبي القديم، المتحدر من مراحل وحقبات وتجارب كانت لها سياقاتها المختلفة جوهرياً عن السياق الراهن لعملنا، كم يظل هذا الوعي الموروث قادراً على تعمية وقائع الحاضر وعلى إحاطة آفاق المستقبل بأستار من الغموض لا حدود لكثافتها.
لذا سجل المؤتمر أهمية النقلة التي حققتها غالبية أعضاء المؤتمر ـ عبر متابعتها الدؤوبة للمناقشات التي دارت حول تشخيص أزمة المنظمة سواء ضمن أروقة المؤتمر أو خارجها ـ على صعيد وعي العناصر الجوهرية لهذه الأزمة وموجبات مواجهتها وفق نهج مسؤول ومنتج. وإذا كانت السيطرة عل الأزمة بالوعي الصحيح لمصادرها ومقوماتها لا تشكل شرطاً كافياً لمواجهتها ـ فضلاً عن التغلب عليهاـ فإنها تشكل، من دون ريب، شرطاً ضرورياً لا يستقيم في معزل عن توافره أي جهد على طريق تجاوز هذه الأزمة فعلياً.
5 ــ إن نجاح المؤتمر في صوغ التشخيص الأصوب لأزمة المنظمة وافتتاحه مسار السيطرة عليها بالوعي لا يعطيانه بداهة الحق في إطلاق حكم ذاتي مسبق سريع أو متسرع يقول بامتلاك المنظمة الأهلية اللازمة لبناء مشروع حزبي يقدم جديداً للحياة السياسية اللبنانية، ولموقع اليسار ودوره ضمن منوعات تياراتها وتشكيلاتها المختلفة. على أنه لا يجوز إعدام الإنجاز الذي حققه المؤتمر بممارسته شجاعة القول الصريح تشخيصاً لأزمة المنظمة، وتوفقه في تغليب التحليل العميق لعناصرها وتجلياتها على كل شطحات التفسير المبسطة والسطحية أي العقيمة في نهاية المطاف. ومن ذلك كله انتهى المؤتمر إلى القول بجدارة المنظمة على حمل السؤال الصعب ـ بل الأصعب ـ حول احتمالات وشروط تجديد دورها ضمن اليسار وخطتها الحزبية في هذا الاتجاه. وفي هذا المجال كان واضحاً للمؤتمرين جميعاً أن وقوف المنظمة بجدية أمام السؤال المتعلق بحاضرها ومستقبلها السياسيين ليس أمراً بسيطاً على الإطلاق، بل هو يحملها مسؤولية ضخمة عن توفير الشروط الضرورية للتمكن من الجواب عن هذا السؤال بغير الرغبات السياسية الذاتية، أو الشطحات الفكرية الإرادوية، أو المخارج التنظيمية اللفظية، أو الإدمان الروتيني للعمل الوطني العام.
مما يعني أن قيمة كل ما انتهى إليه المؤتمر تشخيصاً لأزمة المنظمة مرهونة بتحويله مقدمة لجهد فعلي منتج شامل من أجل بلورة متطلبات وصعوبات واتجاهات وحدود الدور الذي يمكن للمنظمة أن تتجاوز من خلاله قديمها، لتطل على تقديم جديد ذي معنى على صعيد مواجهة الأزمة الأعم لليسار في إطار مغالبة الأزمة الأكبر للبنان المراوح تحت سقف العسر عن إنجاز حداثته واستئناف تطوره الديمقراطي منذ عقود ما زال سوادها حالكاً حتى اللحظة.
خامساً: نحو عقد المؤتمر العام الثاني لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان في مرحلته الثانية:
محاور القضايا مواضيع المناقشة بين أيار 2001 وحزيران 2006
بعد ثلاثة أشهر من اختتام أعمال المؤتمر العام الثاني للمنظمة في مرحلته الأولى (في أواخر كانون الثاني 2001) أقرَّ المكتب التنفيذي للمنظمة (مطلع أيار 2001). جدولاً بمحاور القضايا مواضيع المناقشة تمهيداً لعقد المؤتمر العام الثاني في مرحلته الثانية. وتضمن هذا الجدول الأقسام والقضايا الآتية:
القسم الأول: قضايا اتصال لبنان بمحيطه العربي والإقليمي
أولاً: الصراع العربي الإسرائيلي بعد عشر سنوات على مؤتمر مدريد والموقع اللبناني ضمنه.
ثانياً: لبنان في سياسات النظام السوري: الحصيلة الراهنة لثلاثة عقود من التدخل السوري في أساسيات الكيان والنظام اللبنانيين.
القسم الثاني: نتائج اختبار التسوية السياسية اللبنانية خلال عشر سنوات
أولاً: سمات النظام اللبناني الجديد قيد التكون وفرص ثباته واحتمالات تعديله.
ثانياً: مسالك الحياة السياسية اللبنانية الجديدة ومواقعها المتبدلة وتياراتها الأساسية الراهنة.
القسم الثالث: موقع اليسار ضمن الحياة الوطنية اللبنانية في ميادينها السياسية والاجتماعية والثقافية
ــ الموروثات والوقائع والاحتمالات في بنية اليسار اللبناني وتشكيلاته الحزبية والمدنية، والسياسات الفاعلة في صفوفه.
القسم الرابـع: في سبيل تحديث الهوية الفكرية لليسار اللبناني.
القسم الخامس: من أجل تجديد البرنامج السياسي والقاعدة الاجتماعية والدور الوطني لليسار اللبناني.
القسم السادس: خلاصات وافية حول احتمال وشروط تجديد دور المنظمة ضمن اليسار اللبناني والحدود الفعلية لهذا الدور.
القسم السابع: توجهات الخطة الحزبية للمنظمة وأولوياتها الواقعية.
القسم الثامن: النظام الداخلي الجديد للمنظمة.
القسم التاسع: صيغة وأشكال وموجبات الإطلالة السياسية الإعلاميةالجديدة للمنظمة بعد المؤتمر.
وقد شكلت هذه الأقسام والمحاور مادة المناقشات التي شرع المكتب التنفيذي في إجرائها ضمن دورة اجتماعات مطولة عقدها بين 25 أيار و9 تشرين الثاني 2001، وأدلى في أثنائها الأمين العام بثماني مداخلات تركزت حول قضايا اتصال لبنان بمحيطه العربي والإقليمي، ونتائج اختبار التسوية السياسية اللبنانية ـ في ظل اتفاق الطائف ـ خلال عشر سنوات.
وتكتسب المداخلة الأخيرة من هذه المداخلات الثمانية أهمية خاصة في سياق التجديد الفكري ـ السياسي الذي استمرت محطاته تتوالى منذ اختتام أعمال المؤتمر في مرحلته الأولى عام 2001، توصلاً إلى تجدد انعقاده في مرحلته الثانية عام 2006. لذا نثبت نصها هنا كاملاً بصفته انجازاً مهماً من إنجازات المؤتمر بين مرحلتي انعقاده.
وعلى رغم أن تطوراً أساسياً قد حصل بعد مرور خمس سنوات على الإدلاء بهذه المداخلة متمثلاً في الانسحاب العسكري السوري من لبنان ربيع العام 2005، مترافقاً مع تبدلات اضطرارية أساسية في مجرى العلاقات اللبنانية ـ السورية، فلقد آثرنا إبقاء المضمون الأصلي للمداخلة في بندها الثالث كما هو تحت عنوان “الممكن والمستحيل على صعيدي التسوية السياسية والإصلاح السياسي في ظل قيد الوصاية السورية على لبنان”. وهو استنساب يرجحه اليوم عاملان:
الأول: أهمية وفائدة استحضارنا الآن، ما كانت عليه أحكامنا حول مشروع الوصاية السورية الرسمية على لبنان قبل الانسحاب العسكري السوري عام 2005.
الثاني: أن الصراع حول مشروع الوصاية السورية الرسمية على لبنان لم ينته بعد ولم يصبح كلياً من الماضي، بل هو ما زال يشكل قضية من قضايا الحاضر اللبناني، ولا شيء ينبيء أنه لن يكون أيضاً إحدى قضايا المستقبل اللبناني وإلى أمد غير منظور.
سادساً: مداخلة الأمين العام حول نتائج اختبار التسوية السياسية اللبنانية خلال عشر سنوات
الثوابت والمتغيرات في النظام اللبناني بعد الحرب الأهلية في ظل اتفاق الطائف
تقديم:
إذ تنصبّ المداخلة الراهنة على تفحص الثوابت والمستجدات في النظام اللبناني بعد الحرب الأهلية، ثم في ظل اتفاق الطائف وقد مضت عشر سنين على وضعه موضع التطبيق، فإن هذا التفحص لا بد أن يتمحور ـ في الطور الراهن من المناقشة ـ حول صعد رئيسية أربعة:
أولاً: تعيين الإطار الأشمل والأصوب للإلمام بالطبيعة الأصلية للنظام اللبناني وطابعه التقليدي الموروث.
ثانياً: رصد مفاعيل الحرب الأهلية على المجتمع اللبناني وما ولدته من جديد على صعيد معادلة التناقض بين حاجات هذا المجتمع للتحديث وبين انغلاق النظام اللبناني وجموده تحت سقف التقليد.
ثالثاً: رسم خط التمييز الفاصل بين الممكن والمستحيل على صعيدي التسوية السياسية للأزمة اللبنانية والإصلاح السياسي للنظام اللبناني في ظل قيد الوصاية السورية على لبنان.
رابعاً: حصيلة المحاولة الإصلاحية للنظام اللبناني على قاعدة اتفاق الطائف بعد عشر سنوات من وضعه موضع التطبيق.
أولاً: الإطار الأشمل والأصوب للإلمام بالطبيعة الأصلية للنظام اللبناني وطابعه التقليدي الموروث.
يستمد هذا الصعيد الأول في البحث، أهميته، بل وضرورته الماسة، من كونه يشكل المدخل الذي لا بديل منه لإنضاج مقدمات البرنامج التغييري الذي نريد الانتهاء من فصول هذه المناقشة إلى بلورة وصوغ خلاصاته أخيراً. ولا يعد استباقاً من جانبنا أن نقول، ونحن في هذه اللحظة المهمة من المناقشة، أن وجهة البرنامج الذي نتطلع إلى الحسم في مضامينه وصياغاته أخيراً، هي وجهة التغيير الديمقراطي العلماني للنظام اللبناني الموروث ـ الراهن ـ المستمر.
وهي وجهة لا يستقيم إنضاجها إلا انطلاقاً من المعرفة الأدق بالطبيعة الأصلية للنظام اللبناني ومن التحديد الأوفى لطابعه التقليدي الموروث. فهذه المعرفة وهذا التحديد يحسمان في معظم صواب البرنامج بجعله موصولاً حقاً بالمعطيات التي ستنصبّ عليها الدعوة إلى التغيير.
صحيح أنه يمكن، هنا وببساطة، تكرار القول الذي ذهبنا إليه غير مرة، من أن النظام اللبناني هو في ثوابته الموروثة ـ الراهنة ـ المستمرة نظام طائفي يؤطر مساحة من الحريات العامة والتعدد السياسي والانفتاح الثقافي والاجتماعي، لكنه ليس نظاماً ديمقراطياً ناجز التكون بمعنى الانتساب الفعلي إلى الحداثة الديمقراطية في أهم مجالاتها التأسيسية: الدولة الحديثة، والفرد الحديث، وحقوق المواطن والإنسان الحديثة، وضروب الانتظام الاجتماعي الحديثة، وقيم الثقافة الحديثة، وآليات التطور البشري الحديثة، وجدلية الاستغلال الطبقي والسيطرة الطبقية الحديثة.
ذلك كله صحيح، لكن الصحيح قبله وبعده، أنه إذا أردنا للبحث أن يتجاوز حدود التسميات، فلا بد من جعله مفتوحاً على أفق أرحب. فالنظام اللبناني الطائفي حقاً ليس نظاماً طائفياً صافياً صفاءً مطلقاً، والنظام اللبناني المكبل بقيود التقليد فعلاً لم يكن مقفلاً على رياح التحديث ومفاعيله كلياً. مما يجعلنا أمام أسئلة أبعد مدىً وأعمق غوراً من سؤال التسمية العامة والأولية: هل النظام اللبناني نظام طائفي أم هو نظام ديمقراطي؟ أي أن المناقشة يجب أن تتجه صوب الإلمام بالمعطيات وتجاوز حدود التسميات لنصبح أمام قضايا من نوع: النظام اللبناني الموروث ـ الراهن ـ المستمر نظام استتباع طائفي بأي معنى وضمن أي حدود؟ وهو نظام حداثة ديمقراطية (مأزومة ومعاقة) بأي معنى وضمن أي حدود وباتجاه أي آفاق؟
ولا مبالغة في القول أن اعتماد نهج الإلمام بالمعطيات، بديلاً من المراوحة عند حدود التسميات، هو الذي يضع الحد الفاصل بين هجاء تعبوي سهل للنظام اللبناني لا طائل وراءه، وبين تشخيص موضوعي لبنية هذا النظام لا تعود معه الدعوة التغييرية الديمقراطية العلمانية مجرد دعوة شعارية عصبية تطلق معركة لفظية غير مفهومة. بل تصبح الدعوة التغييرية مفتوحة على صوغ برنامج ينطلق من فهم حدود التحديث (المعاق والمأزوم والضامر ولكن الفعلي) الذي تحقق ضمن النظام اللبناني اختياراً أو اضطراراً (وفي معظم الأحيان اضطراراً)، ليتوصل من ثم إلى رسم مسار لعملية التحديث الديمقراطي العلماني للنظام اللبناني متنوع الجوانب متعدد الورشات ومتدرجاً في تحقيق الإنجازات وإرساء التسويات. وكل ذلك على قاعدة صراع مديد يملي استطالته الرسوخ التاريخي لمؤسسة الطائفية في مجمل الحياة الوطنية للبنانيين.
ثانياً: مفاعيل الحرب الأهلية على المجتمع اللبناني
لم يكن خطأ ما ذهبت إليه غالبية التيارات السياسية الساعية إلى التغيير الديمقراطي اللبناني (ونحن منها) من قول مطلع السبعينات مفاده: أن التناقض بين حاجات المجتمع اللبناني لاستكمال حداثته في معظم الميادين وبين تصلب النظام اللبناني عند مصادر التقليد التي تحكمه ويحكم بموجبها، سياسة ونصوصاً دستورية وأعرافاً ومؤسسات اشتراعية وتنفيذية وإدارية، إن هذا التناقض بلغ حداً من الاحتدام ينذر بانفجار أهلي ساخن إذا لم تنفتح أمام البلد آفاق إنجازات تحديثية جديدة تأخذ بالمزيد من أسباب الديمقراطية على حساب معاقل التقليد الراسخ في البنية اللبنانية.
ولا نسوق هذه الفكرة الأساسية من أجل العودة إلى الخوض بشمول في مقدمات الحرب الأهلية وأسبابها وظروف اندلاعها الشامل عام 1975، بل في سبيل الانطلاق منها للتوقف أمام السؤال الآتي: إذا كان صحيحاً أن تحولات عميقة (إلى هذا الحد أو ذاك) كانت تراكمت في بنية المجتمع اللبناني خلال عقود في اتجاه المزيد من التحديث لتضع حدود “ديمقراطية النظام الطائفي اللبناني الموروث” موضع امتحان عسير ومساءلة تاريخية صارمة عشية الحرب الأهلية اللبنانية (الأخيرة)، فأين أصبح البلد من هذه المعادلة المفترضة بعد خمسة عشر عاماً من حرب أهلية طاولت مفاعيلها التدميرية كل مقومات البنيان اللبناني وإنجازاته؟ وهل بقي ممكناً القول، بعد توقف هذه الحرب الأهلية في وجهها العسكري الساخن وبعد الشروع في تطبيق اتفاق الطائف مطلع التسعينات، أن النصاب المجتمعي اللبناني اللازم لإسناد خطوة تغيير ديمقراطي أساسية في بنية النظام اللبناني ما زال قائماً، أم أن البلد أصبح على صعيد العلاقة بين تطور مجتمعه وانغلاق نظامه أمام معادلة معكوسة أو شبه معكوسة على الأقل؟
إن الحديث عن نتائج الحرب الأهلية (في طورها العسكري الساخن) في صيغة رصد لمفاعيلها التدميرية الكبرى على المجتمع اللبناني هو الذي يخرجها على نحو لا لبس فيه من دائرة التوصيف كمجرد حادث أمني في تاريخ الاجتماع اللبناني، وينأى بها عن مدار الإحالة إلى عوامل وإرادات خارجية تدخلت لتفسد ما بين اللبنانيين من وفاق على العيش المشترك والتقدم، ليضعها حيث يجب ويجدي، أي في خانة الإنقلاب التاريخي على ما كان من وفاق نسبي بين اللبنانيين وعلى ما كان المجتمع اللبناني حققه من إنجازات تحديث نسبي بأثمان باهظة. وهو انقلاب ليس مجهول النسب داخلياً، إذ اضطلعت به طوائف لبنان المتناحرة على حساب “مجتمعها المشترك”، فزحف “الأهلي” على “المدني” وحاصرت الكتل الطائفية الدولة التي كانت تستتبعها لترتد بها مسافة اجتماعية ثقافية سياسية شاسعة إلى ما دون سويتها الأصلية المتزامنة مع ولادة الاستقلال اللبناني عام 1943 والمتنامية بعد قيامه.
إن الإلمام الجارح بالمفاعيل التدميرية للحرب الأهلية على المجتمع اللبناني بصفتها إطار ارتداد تاريخي بالغ السلبية عما كان البلد حققه من إنجازات تحديث ديمقراطي نسبي، هو شرط معرفي حاسم لبلورة الخلاصات الأصوب حول أسباب المراوحة المديدة التي تخبط بين جدرانها البلد طوال عقد التسعينات (من القرن الماضي) وما زال يدور في حلقتها المفرغة عاجزاً عن بلوغ حافة التسوية السياسية الوطيدة لأزمته وعن الاندراج في الإصلاح السياسي التحديثي لنظامه.
إن هذا التعليل الأعمق والأصوب لأحد وجوه استعصاء الأزمة اللبنانية خلال التسعينات وهو الوجه المتعلق بانهيار النصاب المجتمعي الضاغط في اتجاه استئناف التطور الديمقراطي للبلد، ينأى بنا عن “الدروشة الفكرية السياسية” التي يغرف أصحابها ـ على اختلاف “تجمعاتهم” و”منابرهم” ـ من لفظية الحديث عن سوء تطبيق الطائف، وقصور أشخاص الحاكمين باسمه وفي ظله، وسيئات حكم “الترويكا” إلى ما هناك من كلام مرسل تفسيراً لسوء الحال اللبناني وحشداً لحيثيات الدعوة إلى “تغييره”.
وحين ننأى بأنفسنا على هذا النحو عن الدروشة الفكرية السياسية في تعليل استعصاء أزمة البلد، يتبدى لنا في وضوح فقر شعاري “المصالحة والحوار” المطروحين على كل لسان عنوانين “سحريين” لما يسمى “الإنقاذ والتغيير”. فإطلاق هذين الشعارين يصدر عن تصور لم يعد له ـ بعد المفاعيل التدميرية للحرب الأهلية ـ محل فعلي في الواقع اللبناني. إنه التصور الذي يفترض النصاب المجتمعي اللبناني اللازم لاستئناف التطور الديمقراطي قائماً وجاهزاً ويكفي لتمكينه من استعادة زخمه رفع وصاية السلطة (ولا نقول الدولة) عنه وجعل الأمر شورى بين مكوناته الأهلية وتياراته التقليدية!
إن تصويب النظرة إلى وقائع الوضع اللبناني الراهن ومعضلاته البنيوية من خلال رؤيتها معطوفة أولاً وأساساً على المفاعيل التدميرية الهائلة للحرب الأهلية على المجتمع اللبناني، هو الشرط الذي لا غنى عنه للتقدم على طريق صوغ برنامج للتغيير الديمقراطي العلماني لا يتوهم أصحابه أن المسألة في هذا المجال تتلخص في كسر وصاية سلطة متخلفة مرتهنة على مقدرات مجتمع يجري افتراضه ناهضاً ونامياً، بل يدركون أن المسألة ستكون ـ أولاً وآخراً ـ مسألة صراع مديد من أجل إطلاق موجة تحديث متجددة شاملة في أوصال المجتمع اللبناني ومجمل تراكيبه ومفاصل بنيته وموارد حياته الوطنية.
ثالثاً: الممكن والمستحيل على صعيدي التسوية السياسية والإصلاح السياسي للنظام اللبناني في ظل قيد الوصاية
السورية على لبنان
لم يكن تركيز الحديث في المحورين السابقين على الطبيعة الأصلية للنظام اللبناني، ثم على مفاعيل الحرب الأهلية على المجتمع اللبناني، يرمي إلى أي تقليل من شأن العوامل والأدوار الخارجية في تفجير الوضع الأهلي اللبناني، أو من أثر تداخلها الاجتياحي النشط مع وقائع الحرب الأهلية وموجاتها التي توالت متصاعدة منذ منتصف السبعينات وحتى نهاية الثمانينات (من القرن الماضي). وهي مناسبة للتشديد على أهمية وصواب الخلاصات التي كانت مناقشاتنا في هذا الصدد انتهت إليها تحت عنوان “قضايا اتصال الوضع اللبناني بمحيطه الإقليمي”. ومن بين أبرز هذه الخلاصات ما تعلق منها بتوصيف ورصد وتحليل بواعث ووقائع ونتائج الدور السوري في إدارة الحرب الأهلية اللبنانية، مما لا نجد أي ضرورة للعودة إليه عرضاً أو مناقشة.
على أن ما يجب أن ينال عنايتنا من البحث الوافي الآن، ونحن في صدد الإلمام باحتمالات وآفاق وإعاقات التسوية السياسية الوطيدة للأزمة اللبنانية والإصلاح السياسي الحقيقي للنظام اللبناني، هو الدور السوري في السلم الأهلي اللبناني (سلم ما بعد اتفاق الطائف) كما تبدت أشكاله وممارساته ثم توالت فصوله، إيجاباً وسلباً، على امتداد عقد ونيف. ذلك أن أي رصد لنتائج الاختبار الذي انخرط فيه اللبنانيون تطبيقاً لاتفاق الطائف لا يستقيم إذا هو تجاهل زاوية بالغة الأهمية في هذا المجال يلخصها السؤال الآتي: ما الذي كان ممكناً وما الذي ظهر مستحيلاً على صعيدي التسوية السياسية والإصلاح السياسي اللبناني في ظل قيد الوصاية السورية على لبنان؟
إذا كان اتفاق الطائف المعقود عام 1989 هو الذي رسم سبيل الانتقال اللبناني من حال الحرب الأهلية إلى حال السلم الأهلي، فإن هذا الانتقال لم يكن ليتحقق من دون موافقة سورية صريحة. وكانت لهذه الموافقة، على ما يذكر اللبنانيون جميعاً، شروط ثقيلة وضعتها دمشق وتمسكت بها ثم نجحت في فرض الشطر الأكبر منها على الوضع اللبناني وحيال المدى العربي والمحفل الدولي. ولا نبالغ الآن إذا قلنا أن هذه الشروط كانت تندرج في خانة “سورنة” اتفاق الطائف، أي جعله ملبياً لتطلعات الهيمنة السورية على لبنان بمقدار تلبيته لحاجة اللبنانيين الى عقد سلم أهلي بين طوائفهم وتياراتهم السياسية يضع حداً للمفاعيل التدميرية الهائلة للحرب الأهلية على “مجتمعهم المشترك”. هذه المعادلة التي ولدت مع اتفاق الطائف نصاً وحدثاً، معادلة شراء اللبنانيين سلمهم الأهلي بثمن خارجي كبير هو ثمن القبول بوصاية سورية على بلدهم، هي المعادلة التي انتهت الأغلبية اللبنانية (الطائفية والسياسية) إلى تقبل أحكامها كخيار لا بديل منه في حينه.
لكن استعادة هذه الواقعة التاريخية يجب أن لا تمنعنا أبداً من التوقف بموضوعية جارحة أمام حصيلة هذا الخيار، أي أمام حصيلة تجربة لبنان مع الدور السوري في ظل السلم الأهلي اللبناني المنطلق مع اتفاق الطائف والمطبق نصوصاً وأحكاماً دستورية وقانونية على امتداد التسعينات. فهذه التجربة أثبتت أن الوصاية السورية على لبنان شكلت قيداً ثقيلاً حاسماً في مفعوله المانع من تقدم اللبنانيين نحو إنجاز تسوية سياسية وطيدة تتجاوز بهم حال السلم الأهلي البارد القلق بين طوائفهم ومكونات حياتهم الوطنية، وحاسماً في مفعوله المانع من تقدمهم نحو فتح آفاق تحديث ديمقراطي حقيقي لنظامهم يعوض خسائرهم الفادحة في حربهم الأهلية ويخرج هذا النظام تباعاً من اختناقاته الاجتماعية ـ الاقتصادية ـ الثقافية ـ السياسية الأصلية والمستجدة.
ذلك أن استمرار قيد الوصاية السورية على لبنان، وفق الصيغة التي اختبرها اللبنانيون سحابة عقد ونيف، كان معناه غياب نصاب سياسة لبنانية قائمة في ذاتها ومستقلة إلى الحد اللازم والطبيعي في حشد مواردها وفي الاستناد إلى مصادرها الخاصة في تدبير شؤونها. وقد ظهر في وضوح قاطع أن استمرار غياب نصاب سياسة لبنانية مستقلة في ذاتها خلال كل السنين العجاف الماضية، جعل البلد يدور على نفسه عاجزاً عن ولوج باب الاستقرار السياسي الفعلي أو التقدم خطوة أولى ناجعة على طريق الإصلاح السياسي الحقيقي.
لذا، فإن الخلاصة الأهم التي ينبغي تثبيتها في هذا المجال تتعلق بالحيز الاستراتيجي المحوري الذي كان لا بد من أن يحتله هدف رفع الوصاية السورية على لبنان ضمن أي برنامج جاد لتوطيد التسوية السياسية اللبنانية، ولاستعادة نصاب السياسة اللبنانية، وللتقدم على طريق الإصلاح السياسي اللبناني.
ولعل أعمق ما في هذه الخلاصة أنها تطرح قضية التغيير الواجب في العلاقة السورية ـ اللبنانية في حجمها التاريخي الحقيقي بعيداً عن تصورات الحسم فيها وهماً بإجراء وحيد، أو في “ساعة صفر” تحقق الخلاص الأخير والأكيد. هكذا تصبح معركة رفع الوصاية السورية عن لبنان جزءاً حيوياً من معركة أشمل هي معركة بعث الحياة في الكيان الوطني اللبناني. وغني عن القول أن هذه المعركة الأشمل ليست معركة شعار يحل إرادوياً محل وقائع، ولا هي معركة قصيرة تقع نتائجها على مرمى حملة سياسية خاطفة أو بيان تحسم بلاغته في الموازين. إنها من دون مبالغة معركة استعادة نصاب مفقود في الحياة السياسية اللبنانية، وبناء وفاق لبناني فعلي حول استقلال وطني حقيقي للبلد يضع حداً لإنكشافه الاستثنائي الراهن حيال الخارج ويرفع الحجز عن تطوره الديمقراطي المعلق على نحو محكم منذ أكثر من عقدين.
رابعاً: حصيلة المحاولة الإصلاحية للنظام اللبناني على قاعدة اتفاق الطائف بعد عشر سنوات على تطبيقه
عرضنا، في الأقسام الثلاثة السابقة من هذه المداخلة، لما ينبغي تصنيفه في خانة القيود البنيوية والاستراتيجية (الداخلية والخارجية) التي كبلت المحاولة الإصلاحية للنظام اللبناني منذ انطلاقها على قاعدة اتفاق الطائف مطلع التسعينات (من القرن الماضي). فمن الموروث الطائفي التقليدي الراسخ في بنية النظام اللبناني منذ ارتسام ملامحه الأولى حتى اندلاع الحرب الأهلية الشاملة (عام 1975)، إلى الانهيار الكبير الذي أصاب بنية المجتمع اللبناني من مختلف ضفافها تحت وطأة هذه الحرب الأهلية الشاملة، إلى الإحكام المتزايد لقبضة الوصاية السورية على البلد، تقاطعت عوامل بالغة التأثير في جعل أي محاولة إصلاحية للنظام اللبناني ضيقة المساحة، محدودة الأثر، وضعيفة الانتساب إلى وجهة التحديث الديمقراطي الحقيقي.
بقي أن نسعى، في هذا القسم الرابع من المداخلة، إلى صوغ خلاصات تقويمية للمحاولة الإصلاحية التي توالت أحداثها وصياغاتها وتكاملت ممارساتها تحت عنوان “الطائف” على امتداد عقد ونيف من الزمن. ولا مفر في هذا المجال من الاكتفاء بإيراد الأفكار المفتاحية الأساسية التي تعيننا على قراءة “الطائف اللبناني” نصاً وسياقاً وشروطاً جوهرية وتطبيقاً، وهي قراءة تبقى ـ في حدود هذه المداخلة ـ محطة مناقشة أولية لأن محطات أخرى كثيرة ستليها وصولاً إلى ما نتطلع إليه من حسم برنامجي أخير حيال الوضع اللبناني.
1 ــ لا تترك نصوص اتفاق الطائف، التي تحولت دستوراً جديداً للجمهورية اللبنانية، مجالاً للشك في أن هذا الاتفاق ـ الساري المفعول في الحياة اللبنانية اليوم وإلى آماد طويلة قادمة ـ يقع أساساً في باب الإصلاح الطائفي للنظام الطائفي اللبناني. وهو ما يحدد طبيعته البرنامجية ـ الإستراتيجية الفعلية ويعين له حدوده التاريخية الحقيقية في سياق “التطور اللبناني”.
وليس أمراً ضئيل الشأن أبداً أن نقرر هنا أن اتفاق الطائف لا يعدو كونه محاولة إصلاح طائفي للنظام الطائفي اللبناني الأصلي، لأن هذا الحسم في التقرير يحدد لـ “الطائف” انطلاقاً موقعه الفعلي من “العملية التاريخية اللبنانية” إذا صح التعبير في هذا المجال. مما يجعلنا نجازف (أو لا نجازف كثيراَ) في القول: أن اتفاق الطائف لم يكن يشكل في سياق “العملية التاريخية اللبنانية” خطوة تطور فعلي إلى الأمام بمقدار ما أتى يمثل خطوتي ارتداد إلى الوراء عما كان أصلياً في “الصيغة اللبنانية” المكرسة مع الاستقلال مطلع الأربعينات، وعما بدا ممكناً وضرورياً ومطلوباً من إصلاح ديمقراطي لهذه “الصيغة” مطلع السبعينات (من القرن الماضي).
فلقد كان ميثاق العام 1943 واضح الحشمة في إيراده النص الدستوري القائل باعتماد التوزيع الطائفي لمناصب الدولة أساساً مؤقتاً للنظام السياسي، مثلما كان جزيل البلاغة في إشارته المتكررة إلى أن “تجاوز الطائفية” سيكون ـ ويجب أن يكون ـ قاعدة بناء “دولة الاستقلال” على أسس متطورة. وعلى رغم أننا نتمسك هنا بالرأي الصائب القائل أن التوزيع الطائفي المولود مع الاستقلال كان يرسي هيمنة طائفية مسيحية جعلت مطلب “المشاركة” الإسلامية مطلباً مفهوماً ومشروعاً فيما بعد، لكن هذا التوزيع الطائفي “الجائر” كان مترافقاً مع مساحة واسعة نسبياً من “الالتباسات اللبنانية” شكلت أساساً أولياً فعلياً لنمو “المجتمع اللبناني المشترك” فوق الطوائف اللبنانية وعلى حساب مداراتها المستقلة الموروثة.
ونقف عند هذا الحد في الإشارة إلى ما كانت “الصيغة اللبنانية” الأصلية تنطوي عليه من احتمالات تطور متقدمة فعلياً عما أتى اتفاق الطائف يكرسه من أحكام بعد خمسين عاماً من الاستقلال.
أما المخاض اللبناني، السياسي ـ الاجتماعي ـ الثقافي، المتصاعد زخماً مطلع السبعينات فقد أتى يفتح الباب على مصراعيه أمام دعوات تغييرية للنظام اللبناني بلغت حدود المطالبة (على لسان اليسار والحركة الوطنية) بإصلاح ديمقراطي يمس أسس دولة الاستتباع الطائفي، ويجهر بمصطلح “العلمانية” و”العلمنة الشاملة”، ويسيس للمرة الأولى في تاريخ السجال القانوني في البلد – مطلب “سن قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية” وهو المطلب الذي أتى يحمله “البرنامج المرحلي للحركة الوطنية اللبنانية”.
ولعل من أصوب ما قيل آنذاك، وسط معمعة المخاض اللبناني الصاخب، أن اصطدام الإصلاح السياسي (الديمقراطي العلماني إلى هذا الحد أو ذاك) للنظام اللبناني بجدار الاستحالة والإحباط والفشل، لن يعني أبداً إمكان بقاء قديم النظام اللبناني على قدمه. بل إن باب “جهنم الطائفية” سيشرع عندئذٍ واسعاً أمام إعادة نظر جذرية في تركيب الهيمنة الطائفية الموروثة بحيث يوضع البلد على مائدة التقاسم بين طوائفه وفق مسار من نزاعات “الاتفاق والاختلاف” لا قعر مرئياً له.
وإذ لا نريد الاسترسال هنا مرة أخرى في عرض الوقائع واليوميات اللبنانية المتوالية على امتداد السبعينات والثمانينات في ظل حرب أهلية أكلت كل دعوات الإصلاح الديمقراطي ومعها الشطر الأكبر من إنجازات تحديث المجتمع اللبناني، نكتفي بتثبيت الاستخلاص القائل: إن العاصفة البنيوية الأهلية اللبنانية التي شهدها البلد خلال عقدي السبعينات والثمانينات جعلت من التسوية السياسية القائمة على الإصلاح الطائفي للنظام الطائفي اللبناني الخيار الأوحد الذي بقي متاحاً أمام اللبنانيين لاستعادة سلم أهلي بدا في حينه عزيز المنال عسير الإنجاز.
وبهذا المعنى قلنا ونقول أن اتفاق الطائف أتى يمثل “تاريخياً”، وكممر لبناني إجباري، خطوتين إلى الوراء عما كان أصلياً في “الصيغة اللبنانية” المكرسة مع الاستقلال مطلع الأربعينات، وانتكاسة كبرى عما بدا ممكناً وضرورياً ومطلوباً من إصلاح ديمقراطي لهذه “الصيغة”مطلع السبعينات. وكيف لا ندرك فعلاً أننا كنا مع اتفاق الطائف أمام خطوتين إلى الوراء في سياق التطور اللبناني، حين نذكر ونتذكر أن الإصلاح الطائفي (الذي قرره اتفاق الطائف) للنظام اللبناني لم يكن يعني سوى إدخال المزيد من الدقة والبلورة والحسم والوضوح في أصول التقاسم الطائفي ضمن هذا النظام (وفي مدارات الحياة الوطنية التابعة له والمحكومة به). مما يعني بالضرورة والتعريف تبديد وتقليص المزيد من عناصر ومساحات الحياة المشتركة المتداخلة اجتماعاً واقتصاداً وثقافةً وسياسة بين اللبنانيين. وفي ذلك كله ارتداد صريح ليس فقط عن وجهة التحديث الديمقراطي المطلوب للبلد، بل وعن الكثير مما كان المجتمع اللبناني أنجزه في هذا المجال وراكمه على طريق تكونه الوطني الموحد.
2 ــ ولم يكن أمراً مجافياً للمنطق ولطبائع الأمور أن يتخذ الإصلاح الطائفي للنظام اللبناني (تطبيقاً لاتفاق الطائف) وجهة المحاصصة الصريحة، “الدقيقة”، الفجة بل “الفاجرة” أحياناً كثيرة، بين الطوائف والمذاهب اللبنانية (ومتفرعاتها المناطقية والعشائرية). وهي محاصصة زحفت على كل مفاصل النظام السياسي، وراحت تستكمل استتباع الدولة لطوائفها ومذاهبها ومناطقها وعشائرها عاماً إثر عام وميداناً بعد ميدان.
وكان من الطبيعي أن تنجم عن المحاصصة الطائفية المذهبية المنفلتة من كل عقال وطني مانع لغرائبها وفداحاتها، حال من انعدام الاستقرار السياسي، تشكل واحدة من أبرز سمات “سلم الطائف” و”نظام ما بعد الطائف”. ذلك أن المحاصصة الطائفية والمذهبية المتجهة إلى المزيد من الدقة في توزيع مقدرات النظام، والمزيد من الفرز بين مواقع الهيمنة على فاعليات الدولة ومؤسساتها، هي نقيض الاستقرار السياسي والإداري بالتعريف. فلا وجود لعدالة طائفية ترضي جميع الطوائف، ولا يمكن للهيمنة المشتركة التي يحتاجها كل اجتماع سياسي توافقي أن تبنى على قاعدة المشادة اليومية المستمرة، والسائرة من تفاقم إلى تفاقم، بين المكونات الأهلية الطائفية والمذهبية لهذا الاجتماع السياسي (فضلاً عن ملحقاتها العشائرية والمناطقية).
وبما أن المحاصصة الطائفية والمذهبية، الدقيقة والصارمة، لا يمكن أن تولد استقراراً سياسياً راسخاً أو سلماً بنيوياً وطيداً، فلا نبالغ إذ نقول أن الاضطراب السياسي والتأزم البنيوي يشكلان أبرز سمات “الهيئة الخارجية” للنظام اللبناني في ظل مستجدات الطائف. ومن هنا لم يكن غريباً أن يعمد هذا النظام إلى اشتقاق حل “تنظيمي” لأزمة المحاصصة الطائفية والمذهبية التي ينهض عليها، وهو حل قوامه تشكيل ما اصطلح عليه بـ “ترويكا الحكم” التي تضم في عدادها أهل الرئاسات الكبرى الثلاث.
وهذه مناسبة لاستكشاف مدى سطحية وضحالة الهجاء الذي يوجه في العادة ـ ودائماً ـ للمحاصصة وللترويكا في صيغة إدراج للأولى ضمن خانة الرذائل الإدارية (اقتسام وظائف الدولة) وتبويب للثانية تحت عنوان البدع الدستورية. ذلك أن الأمر يتجاوز مع المحاصصة والترويكا حدود العلل الإدارية والهرطقات الدستورية على نحو جوهري وشاسع ليتصل بالمنطق – الأساس الذي قامت عليه الوجهة البرنامجية الاستراتيجية لاتفاق الطائف: وجهة الإصلاح الطائفي للنظام الطائفي. فهذه الوجهة هي أم المحاصصات الطائفية والمذهبية التي لا مستقر لها أبداً، وهي قاعدة توليد كل الغرائب الدستورية التي لن تكون ترويكا الحكم أكثرها فداحة أو أعمقها ضرراً.
ولعلنا لا نبالغ في إرسال الكلام إنشائياً في هذا المجال إذ نقول: ما دام منطق الإصلاح الطائفي للنظام الطائفي اللبناني هو وحده سيد الموقف والوقائع والممارسات، فلن يكون من علاج لأزمات المحاصصة الطائفية والمذهبية سوى بالمزيد من المحاصصة، أي بالمزيد من تكريس وتعميق أزمة الحكم عنواناً مستمراً لأداء النظام اللبناني. مثلما لن يكون من “حل” للإلتواء الدستوري الفادح الناجم عن تنصيب “الترويكا” رأساً عجيباً لحكم عجيب، سوى توسيع نطاق هذا الالتواء بحيث يجري الانتقال تباعاً من الثلاثية إلى الرباعية ـ وربما إلى الخماسية والسداسيةـ في الحكم مما لا نهاية له سوى بقيام “مجلس مديرين” يضم طوائف لبنان ومذاهبه السبعة عشر أو الثمانية عشر، مع توابعها ومتفرعاتها وملاحقها.
ولعل ذلك كله يصل بنا الى وضع اليد على الحقيقة القائلة بانه لم يكن من معنى ولن يكون من تجسيد لشعار “بناء دولة القانون والمؤسسات” ما دام مسار المحاصصة الطائفية والمذهبية مندلعاً على هذا النحو الذي لا تقف في وجهه أي سدود. إن دولة القانون والمؤسسات لا تقوم إلا على قاعدة ما أنتجته الحداثة من فرز بين العام والخاص، فيكون العام ـ ممثلاً بالدولة وسلطاتها وقوانينها ومؤسساتها وأجهزتها وفاعلياتها ـ مستقلاً بتسيير كل ما هو عام من شؤون المجتمع، ويكون الخاص ـ ممثلاً بالمجتمع المدني وأفراده وببقايا المجتمع الأهلي وعصبياته وطوائفه ـ مستقلاً في ممارسة كل ما يقع في نطاقه الخاص. أما حين يتجاوز الخاص (الأهلي ـ الطائفي) على العام (الوطني ـ المدني)، وأما حين يسطو الخاص (الأهلي ـ الطائفي) على العام (الوطني ـ المدني) ـ على ما هو الأمر في الحال اللبنانية ـ فإن قيام دولة القانون والمؤسسات يصبح أملاً أقرب إلى السراب، مثلما يصبح القضاء على الفساد وهماً لا تدركه يد.
3 ــ لا يستقيم هذا التقويم لحصيلة المحاولة الإصلاحية على قاعدة تطبيق اتفاق الطائف ولا يكتمل إلا إذا هو أخذ بالنصيب اللازم من قراءة الوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي اللبناني في مقوماته وخصائصه وخصوصياته البنيوية الأصلية “الموروثة” أولاً، وفي مستجداته السلبية الناجمة عن دمار الحرب الأهلية الساخنة وقد كانت ثقيلة الوطأة عليه ثانياً، ثم في التوجهات والتراكيب التي رسا عليها بعد “سلم الطائف” وتحت سقف تطبيقاته المتمادية على امتداد عقد كامل من السنين ثالثاً وأخيراً.
على أننا لن نتوخى قول كل ما يجب أن يقال في الوضع الاقتصاديـ الاجتماعي اللبناني ماضياً وحاضراً واحتمالات مستقبل، ضمن حدود هذه المداخلة. ذلك أن محطات المناقشة القادمة علينا سوف تحملنا تكراراً الى عوالم الرصد المتسع الدوائر لوقائع البنية الاقتصاديةـ الاجتماعية اللبنانية واتجاهات حركتها. لذا نكتفي هنا بالإشارة السريعة إلى أفكار لا بد من إبرازها ونحن في صدد الإلمام بجدلية الصراع بين الأهلي ـ الطائفي الخاص وبين الوطني ـ المدني العام في حياة اللبنانيين في أهم مواردها وأبرز ميادينها. وغني عن القول في هذا المجال أن إنجازات الحداثة الاقتصادية ـ الاجتماعية شكلت، بالعلاقة مع إنجازات الحداثة السياسية والثقافية والتنظيماتية (الدولتية)، أهم روافع نهوض وتطور ونمو ورسوخ المجتمع المشترك بين اللبنانيين، أي مجتمعهم العابر لطوائفهم وجماعاتهم التقليدية العصية على التطور، ولعشائرهم و”إقطاعاتهم” ولكل ما هو متحدر إليهم، تقاليد وأعرافاً أثرية، من تواريخهم “المتعددة” المفككة الغابرة.
وسيكون علينا في مجالات بحث قادمة، غير مجال هذه المداخلة المحدودة الهدف، أن نعيد النظر في الكثير من أدوات التحليل اليساري أو “اليسراوي” للوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي اللبناني، وهي الأدوات المتحدرة إلينا من ماضي ممارستنا الفكرية والسياسية والنضالية الاجتماعية. فبهذه الأدوات الفجّة في راديكاليتها “الثورية” قرأنا بنية الاقتصاد اللبناني الأصلية قراءة تحقيرية بدا وكأنها تضيق ذرعاً بميزات هذا الاقتصاد “الطبيعية” وبتلك المتحصلة من جهد إنتاجي كبير ومديد بذلته الجماعات اللبنانية خلال حقبات طويلة وهي تتجه صوب التحول “مشروع شعب موحد”. وبهذه الأدوات الفجة في راديكاليتها “الثورية” قرأنا أيضاً عناصر وعوامل الازدهار الاقتصادي اللبناني (وقد كان فعلياً وفريداً بالقياس إلى اقتصادات عربية أخرى) لنقرر أنه عرض زائل ستبتلعه أزمة الانحسار القادم بالتأكيد، لتستقيم بالتالي أرجحية اندلاع الأزمة الاقتصادية اللازمة لدق باب التغيير الجذري في صيغة انهيار محتم لمقومات “الدور اللبناني التجاري الوسيط” وبذا تعود شحة الموارد اللبنانية لتصبح سيدة الوضع الاقتصادي ولتجعل من قانون “الإفقار المتزايد” محور اللوحة الأخيرة لتداعيات الأزمة الاقتصادية الزاحفة على البلد تحف بها آمال الانفجار الثوري الكبير! ثم بهذه الأدوات الفجة في راديكاليتها “الثورية” قرأنا خصائص وخصوصيات التركيب الاجتماعي اللبناني الحديث، الطبقي وشبه الطبقي، الناشئ والنامي في ركاب التطور الاقتصادي اللبناني. فإذا باتساع رقعة الطبقات والفئات الوسطى اللبنانية يبدو لنا معضلة تصدم آفاق “الثورة الوطنية الديمقراطية.. الاشتراكية” وتقفلها، بدلاً من أن نرى فيه، أي في اتساع المرتبة الاجتماعية اللبنانية الوسطى إحدى ضمانات ولوج البلد مسار حداثة أكثر تنامياً وأعمق إنجازاً في مجمل نواحي حياته الوطنية.
إن هذا الاستطراد الضروري والمهم عبر الإشارات السابقة إلى فجاجة أدوات التحليل اليساري أو “اليسراوي” المتحدرة إلينا من ماضي ممارستنا الفكرية والسياسية والنضالية والاجتماعية، إن هذا الاستطراد لا يرمي أبداً إلى تبرئة الاقتصاد الذي كان للبنان قبل الحرب الأهلية (المندلعة عام 1975) من الاختلالات القطاعية والالتواءات البنيوية العميقة، ولا إلى تنزيه لوحة الوضع الاجتماعي اللبناني، مثلما تبدت عشية هذه الحرب، عن الاختناقات الخطيرة التي كانت تهدد فعلاً بتبديد إنجازات التداخل النامي والوحدة النسبية ضمن النسيج الاجتماعي اللبناني بطبقاته الوسطى والعاملة، الريفية والمدينية. وهي اختناقات لم يكن من سبيل لتجاوزها إلا على قاعدة تسوية اجتماعية مستنيرة ذات سلم متحرك تقدماً في اتجاه مواكبة الازدهار الاقتصادي، وتصليب ركيزته الوطنية ـ الشعبية الأعم، وتوزيع عوائده على النحو الذي يكثر من أحزمة الأمان للوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي أمام العواصف الأهلية المضطربة داخل البلد والزاحفة عليه من خارجه. وهو ما كانت البورجوازية اللبنانية، ذات المذهب الليبرالي الأثري البائد، بعيدة بعداً شاسعاً عن منطقه وعن موجباته في آن.
وإذ نكتفي بهذه الإشارات الواضحة، وجهة ومضموناً، إلى ضرورة مراجعة ماضي الاقتصاد اللبناني والبنيان الاجتماعي اللبناني حتى مشارف الحرب الأهلية (عام 1975) بأدوات تحليل يساري متجدد مستنير ومتحرر من كل إرث الدوغمائية “الثورية” الفجة، ننتقل منها إلى تسجيل النتائج التدميرية الهائلة للحرب الأهلية (حرب الخمسة عشر عاماً) التي أصابت بنية الاقتصاد اللبناني ومقوماته وموارده وآليته العقلانية الناشئة بمقدار من الخراب كبير، مثلما أصابت النسيج الاجتماعي اللبناني ـ في مختلف مراتبه الوسطى والصغيرة والعريضة ـ بإفقار لا سابق له في ماضي البلد، وأمعنت تفكيكاً في ما كان هذا النسيج يشهده من ضروب وحدة وتداخل.
هذا المسار الاقتصادي ـ الاجتماعي الانحداري، الموروث عن دمار الحرب الأهلية المعطوف بدوره على الاختلالات الاقتصادية والاختناقات الاجتماعية الأصلية التي كان تفاقمها واضحاً وشديداً عشية هذه الحرب الأهلية، هذا المسار الانحداري شكل في الأساس أرضية كل المعالجات والتدابير والسياسات الرسمية التي توالت تحت عناوين “الإنقاذ الاقتصادي” و”الإسعاف الاجتماعي” على امتداد عقد كامل من الزمن (1992-2002).
ولا نرمي هنا بالطبع إلى الإلمام الشامل بكل عناصر ومقدمات وأسباب واحتمالات الحصيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية الخطيرة التي يقف على شفيرها البلد الآن، وهو يترنح تحت ضغط الثمن المادي المدفوع في مقابل تطبيق اتفاق الطائف. بل نرى الاكتفاء بإيراد خلاصات رئيسية ثلاث في هذا المجال:
أ ــ لم تتخذ المحاصصة الطائفية والمذهبية التي اندلع مسارها تطبيقاً لاتفاق الطائف خلال أعوامه العشر (والتي تحدثنا عنها مليّاً في ما سبق) وجهة السعي “المحايد” إلى إرساء لون من ألوان معادلة “اللا غالب واللا مغلوب” التي عرفها الوضع اللبناني في ختام كل أو معظم الأزمات البنيوية الأهلية المتعاقبة في تاريخه الحديث (والتي لم ينج تطبيقها بالطبع من مراعاة أحكام المفارقة الدائمة بين الأوزان التاريخية الموروثة والمتباينة لمكونات البلد الطائفية). بل كان واضحاً أن اتفاق الطائف ولد في الأصل، نصاً وسياقاً وشروطاً جوهرية، ثم تجسد تطبيقاً في ظل غالب طائفي (إسلامي) ومغلوب طائفي (مسيحي) على وجه الإجمال. ولم يكن أخطر ما في صيغة “الغالب والمغلوب” هذه إنها تؤسس لريبة عميقة غير وفاقية أبداً بين المكونات الأهلية الرئيسية للوضع اللبناني، بل أن الأخطر من هذه الريبة (على خطورتها الشديدة) كان يتمثل في المعادلة الآتية: إن الكتلة الطائفية الغالبة سياسياً خلال عشر سنوات على مقدرات النظام اللبناني لا تنهض غلبتها السياسية هذه إلا على رجحان وزنها العسكري ـ الأمني المتحدر إليها من مجريات الحرب الأهلية برعاية إقليمية خارجية (سورية في نسختها الأخيرة) وهو رجحان يكرسه استمرار ميليشياتها فاعلة تحت اسم “المقاومة”. فيبدو واضحاً أن الكتلة الطائفية المغلوبة سياسياً ضمن النظام اللبناني، بفعل إلغاء ميليشياتها وتعطيل وزنها ضمن القوى المسلحة، كانت تاريخياً وإلى عهد قريب صاحبة الوزن الأرجح ضمن موارد البلد الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ المدنية ـ الثقافية.
مما يعني أن النظام اللبناني، المتبدل أحكاماً في ظل اتفاق الطائف، بات يقوم في وجه رئيسي من وجوه ممارسته على تدفيع البلد ثمن “الطائف” على الصعيد الاقتصادي ـ الاجتماعي مرتين: مرة في شكل إهدار لموارد غزيرة من أجل شراء ولاء فئات طائفية مستجدة على الحكم لترسيخ توازنه (أو عدم توازنه) الجديد، ومرة في شكل إقصاء لموارد غزيرة أيضاً نتيجة استبعاد فئات طائفية تملك ما تقدمه ـ في مقابل ما تأخذه ـ لإنهاض الوضع الاقتصادي وتحشيد الركيزة الشعبية اللازمة للإنقاذ الاجتماعي.
ب ــ إذ شكلت المحاصصة الطائفية والمذهبية في صيغتها القائمة على ترجيح وزن كتلة طائفية على وزن كتلة طائفية أخرى ركيزة الوصاية السورية على البلد، فإن ذلك أكسبها رسوخاً استراتيجياً وأحالها إلى مقوم رئيسي من مقومات نظام ما بعد الطائف. مما يعني أن الوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي بات محكوماً بقيد ثقيل يطوق فاعلياته وأوالياته من كل الجوانب: إنه قيد إعالة نظام سياسي لم ينبثق عن ديناميكية اجتماع لبناني قائم في ذاته، مستقل في إدارة صراعاته وتدبير نزاعاته، ومتمكن بحرية من اشتقاق التسويات والمقايضات الممكنة واللازمة لسريان الحياة المشتركة بين مكوناته الوطنية أخذاً وعطاء على امتداد مساحة موارده المادية والمعنوية.
ولعلنا نؤشر هنا، على نحو أصوب وأعمق، إلى الوجه الأبرز للدور السوري الذي ساهم مساهمة ثقيلة في تعطيل الشطر الأهم من إمكانات النهوض الاقتصادي واحتمالات الإنقاذ الاجتماعي. صحيح أن سلبيات هذا الدور طاولت التبادل الاقتصادي المشكوك في تكافؤه بين البلدين، وألوان التعدي الاقتصادي السوري على الساحة اللبنانية استناداً إلى اختلال موازين العلاقة السياسية بين البلدين. لكن ذلك كله ظل أخف وطأة من المعضلة الأهم التي واجهها الاقتصاد اللبناني، وناء تحت كلفتها المادية ومفاعيلها الاجتماعية السلبية: إنها معضلة إعالة نظام سياسي كانت وظيفته الأهم تتبدى في تأمين استقرار الوصاية السورية على لبنان. ومن هنا كان لا بد أن يتصاعد سؤال لبناني مصيري إضافي: ما الممكن وما المستحيل على صعيد النهوض الاقتصادي اللبناني والإنقاذ الاجتماعي اللبناني في ظل قيد الوصاية السورية على لبنان؟
ج ــ وإلى الخلاصتين السابقتين تضاف خلاصة ثالثة تتصل بسياسات الطاقم المحلي القيم طوال أكثر من عشر سنوات على رسم السياسات الاقتصادية ومواجهة المعضلات الاجتماعية للبلد. فهذا الطاقم كان يجمع إلى الارتهان شبه الكامل للمرجعية السورية الوصية على الوضع اللبناني، الأخذ بخيارات اقتصادية ـ اجتماعية دفعت لبنان إلى مهاوي وضع “عالم ثالثي” ليس صحيحاً إنه كان قدراً مقدراً على اللبنانيين وخياراً لا بديل منه في مواجهة نتائج حربهم الأهلية التدميرية.
4 ــ إن هذا التقويم، الشديد القتامة، للمحاولة الإصلاحية للنظام اللبناني على قاعدة اتفاق الطائف بعد عشر سنوات من تطبيقه، لا يقع في باب معالجة يوميات السياسة المباشرة بحيث يصبح الاستنتاج المترتب عليه واقعاً في باب الدعوة إلى “إسقاط اتفاق الطائف” أو الخروج منه أو عليه كما يشطح إلى القول مغامرون طوائفيون لبنانيون عديدون. لذا نجد ضرورياً، بعد رحلة التفحص البرنامجي ـ الاستراتيجي هذه لإتفاق الطائف نصاً وسياقاً وشروطاً جوهرية وتطبيقاً، أن نقول: لا بديل في السياسة اللبنانية الراهنة المباشرة من اتفاق الطائف عنواناً للسلم الأهلي، وراية للتسوية السياسية، وحدوداً طائفية لإصلاح النظام الطائفي. مما يضعنا في موقع المهتم بمجريات السياسة اللبنانية ضمن ممراتها الضيقة هذه وفي ظل مواردها التي يزداد شحها يوماً بعد يوم.
وإذ نسوق هذه الملاحظة من باب وقاية بحثنا من أن يسقط في منحدر الاستخلاصات الطفولية الرعناء على صعيد الممارسة السياسية اليومية ومتابعة قضاياها، نعود إلى القصد الأبعد من هذه المداخلة التي تسلسلت قضاياها تحت عنوان: “الثوابت والمتغيرات في النظام اللبناني بعد الحرب الأهلية وفي ظل اتفاق الطائف”.
إن هذه المداخلة تقع أساساً، بما حشدته من قضايا، في باب إرساء المقدمات اللازمة حول سمات الوضع اللبناني الراهن، للمرور من ثم إلى المعالجة البرنامجية الأخيرة لهذا الوضع على نحو مستنير.
لذا كان ضرورياً جداً أن نضع اتفاق الطائف، نصاً وسياقاً وشروطاً جوهرية وتطبيقاً، موضع محاكمة جوهرية على هذا الصعيد البرنامجي ـ الاستراتيجي البعيد المدى. إذ لا نستطيع أن نتجاهل في هذا المجال أن الكثير من تيارات السياسة اللبنانية، يعتبر اتفاق الطائف صيغة تسوية تاريخية ناجحة وناجعة لمعضلات لبنان ـ الكيان ولبنان ـ النظام في آن ولا ينقصه سوى معالجة ثغراته في التطبيق. لذا كان علينا أن نسوق كل تلك الوقائع والأدلة والأفكار التي حشدتها هذه المداخلة لمخالفة هذا الرأي على نحو مستقيم. فنحن لا نرى، برنامجياً واستراتيجياً، في اتفاق الطائف اتفاق تسوية تاريخية لأزمة الحداثة اللبنانية، بل نعتبره ـ في أحسن أحواله ـ صيغة مراوحة تاريخية للبنية اللبنانية ضمن قيود العسر التي تكبل التحديث الديمقراطي اللبناني بحبالها الغليظة.
ولكن هل تضع هذه الصورة القاتمة التي رسمناها لنظام الطائف، نصاً ومفاعيل، بين أيدينا مفاتيح الانتقال الآلي والبديهي إلى القول بحتمية وجاهزية وراهنية التغيير الديمقراطي العلماني للنظام اللبناني بديلاً من المراوحة التاريخية اللبنانية الحالية والمستمرة؟ إذ نجيب عن هذا السؤال سلباً لا يفوتنا أن نؤكد أن لا وجود لانتقال آلي أو بديهي من “الأزمة” إلى “الحل”. فالحل التاريخي لا يقرره احتدام الأزمة التاريخية، بل ترجحه (أو لا ترجحه) الحركة التاريخية. وفي غياب حركة تاريخية لبنانية في مستوى الرد على الأزمة التاريخية اللبنانية، لا شيء يمنع من أن تستطيل هذه الأزمة وتستفحل وتستمر لينحدر المجتمع اللبناني تحت سقفها في مهاوي انحطاط مديد كانت حربنا الأهلية الدامية وسلمنا الأهلي الهش، الذي أعقبها، من علاماته الفاقعة ومحطاته الفاصلة.
وإذ ننتهي من هذه المداخلة إلى طرح سؤال الحداثة اللبنانية بزخم أشد، وبشك عميق لا بديل منه للتوصل إلى يقين أعمق، يجب أن نقرر أن التغيير الديمقراطي العلماني اللبناني الذي نتطلع إليه لا يتحقق بحكم المنطق، بل إن حكم الواقع هو الذي يفصل فيه لينقله من دائرة المستحيلات إلى مدار الممكنات.
لذا يكتسب بحثنا في مسالك الحياة السياسية اللبنانية ومواقعها المتبدلة وتياراتها الأساسية الراهنة، أهمية حاسمة في رسم الحد الفاصل بين المستحيل والممكن على صعيد التغيير الديمقراطي العلماني. ذلك أن سؤال الحداثة اللبنانية هو سؤال مجتمع وليس مجرد سؤال نظام. وهو الدرس الأهم المتحدر إلينا من وقائع تاريخ صعب لبلد صعب.
قرار المؤتمر العام الثاني لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان في مرحلته الثانية
حول حدود أهلية المنظمة للاضطلاع بدور متميز ومبادر في استنهاض اليسار اللبناني
توقف المؤتمر العام الثاني لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان، في مرحلته الثانية، أمام مسألة حدود أهلية المنظمة راهناً للاضطلاع بدور متميز ومبادر في استنهاض اليسار اللبناني، انطلاقاً من مناقشة مستفيضة شملت المحاور الثلاثة الآتية:
1 ــ نظرة متجددة وأخيرة الى أزمة المنظمة راهناً، في إطار الأزمة الأعم لليسار، للإحاطة بعناصر استمرارها، وكشف دلالات استعصائها، وتعيين أسباب الدوران المستمر ضمن حلقتها المحكمة.
2 ــ وقفة متجددة وأخيرة أمام سؤال الدور الخاص للمنظمة ضمن اليسار والمحال إليها من المؤتمر في مرحلته الأولى تحت عناوين: هل من حيز لدور تضطلع به المنظمة سعياً إلى استنهاض اليسار؟ وفي أي ميادين تتركز اتجاهات هذا الدور وخصوصياته؟ وما هي احتمالات وشروط نهوض المنظمة بأعبائه؟
3 ــ آفاق العلاقات الممكنة والمجدية والضرورية بين المنظمة وسائر أطراف بيئة اليسار: أي مهمات مشتركة لأي علاقات جدية توصلاً لأي أهداف.
وانتهى المؤتمر من مناقشته المستفيضة لهذه المسألة إلى إقرار الخلاصات الآتية:
أولاً: سعت المنظمة بين ربيع العام 2001 (تاريخ اختتام المرحلة الأولى من أعمال مؤتمرها العام الثاني) وصيف العام 2009 (تاريخ انتهاء المرحلة الثانية منه) إلى إطلاق أوسع ورشة لتأهيل التنظيم الحزبي وعياً وممارسة، من أجل المساهمة في الاضطلاع بأعباء المرحلة الجديدة في مسيرة المنظمة. واتخذ هذا السعي صيغة تنظيم حملة تنوير فكري أتت تعمق وتستكمل وجهة المراجعة النقدية الكبرى التي انخرطت فيها المنظمة على امتداد عقد التسعينات من القرن الماضي، وتفتحها على صياغات نظرية جديدة أكثر تقدماً. وإلى حملة التنوير الفكري هذه مارست المنظمة متابعة سياسية دؤوبة للأحداث البالغة الأهمية والضخامة التي توالت في المدى اللبناني وفي المدارات العربية والإقليمية والدولية، بحيث كان لنا من كل حدث موقف جرى التعبير عنه في الإطار الحزبي الداخلي دائماً، وفي مجال الإعلام الخارجي حيناً، وعلى صعيد علاقاتنا السياسية وصلاتنا الشعبية في غالب الأحيان.
ثانياً: وإذ التزمت المنظمة، خلال هذه السنوات التسع المنصرمة، بمسؤوليتها عن صوغ الجواب النزيه المطلوب عن السؤال المحال إليها من مؤتمرها العام الثاني في مرحلته الأولى حول احتمالات وشروط تجديد دورها ضمن اليسار، وفق نهج موضوعي أمين للحقيقة وشجاع في قولها، فإنها نجحت في الامتناع عن ركوب مركب الحلول السهلة ـ أي الوهميةـ لأزمتها خلافاً لما ساد سائر أطراف بيئة اليسار عموماً خلال الفترة عينها. هكذا رفضت المنظمة أن تتوهم الأجوبة الناجعة عن أزمتها ـ وأزمة سائر اليسار ـ عبر الرغبات السياسية الذاتية، أو الشطحات الفكرية الإرادوية، أو المخارج التنظيمية اللفظية، أو الإدمان الروتيني للعمل العام، أو الظهور الفولكلوري الخاوي في الصورة الإعلامية بأي ثمن، أو التضحية باستقلالية الموقع القاعدي سعياً لاكتساب وزن مستحيل في السياسات الفوقية.
وفي هذا المجال ظلت المنظمة تشدد على أن الأمانة للحقيقة تقتضينا القول أن الوزن المتقلص لليسار اللبناني لأسباب جوهرية وتاريخية شتى، بعضها موضوعي ويتجاوزه أساساً والكثير منها ذاتي يتصل بسياسات خاطئة انزلق إليها في غير محطة لبنانية وعربية، إن الوزن المتقلص لليسار اللبناني كان وما يزال السبب الأهم وراء هامشية دوره في مجمل الأحداث وكل الميادين. كما ظلت المنظمة تقرن هذا التشديد بتكرار القول إنه إذا لم يكن في قدرة اليسار طبعاً أن يرتجل لنفسه وزناً مؤثراً، تتطلب استعادته جهوداً مديدة وحثيثة حتى يحتل من جديد موقعاً أساسياً في معادلة الحياة الوطنية وفي مجرى السياسة اللبنانية، فلا أقل من أن يستبسل في الدفاع عن موقعه المستقل استناداً إلى روافع خياره الفكري وانتمائه الاجتماعي وخطه السياسي، وهو الموقع المستقل الذي كان رسوخه الشرط الضروري لتعاظم دوره بالأمس والذي يبقى صونه الشرط الضروري لنهوضه المتجدد في المستقبل. وإلى ذلك كله لم يكن يفوت المنظمة تكرار التشديد على أنه إذا كانت حماية الموقع المستقل لليسار تشكل بوابة نهضته اللاحقة وخروجه المأمول من هامشيته الراهنة، فإن تلك النهضة وهذا الخروج لا يتحققان بمجرد الصمود عند استقلالية الموقع بل يستدعيان جهوداً كبيرة واستثنائية تحت عناوين: تجديد الهوية الفكرية لليسار، وإعادة بناء قاعدته الاجتماعية، وتحديث برنامجه السياسي، واستئناف السعي غير المهادن لتوليد كتلة ديمقراطية علمانية بقيادته يشكل تناميها شرط استعادة أوسع مساحة مشتركة بين اللبنانيين وبناء قاعدة خلاص وطني حقيقي عصي على اجتياحات الخارج وحصين أمام عناصر التخلف وعوامل التفكك في الداخل.
ثالثاً: ولا شك في أن النجاح الأكبر الذي حققته المنظمة بين عامي 2001 و2009 كان نجاحها المتفرد ضمن بيئة اليسار في التعامل الصائب ـ وفق خط سياسي مستقل حيوي وخلاق ـ مع العواصف الوطنية السياسية والأمنية، الكيانية والبنيوية، التي تعرض لها البلد: من جلاء الاحتلال الإسرائيلي عن أرضه، إلى الخروج العسكري السوري منه، إلى وقوعه أسير لون من التدويل أتى متجاوزاً في مخاطره هذه المرة كل محطات التدويل السابقة التي لازمت أزمات الوضع اللبناني ـ كياناً ونظاماً وحياة وطنية ـ على امتداد تاريخه الحديث، وصولاً إلى التخبط الراهن في بنيته السياسية والدستورية تحت سقف العجز عن إنتاج حكم استقلالي يرسي أسس الوفاق الوطني اللازم حول الهوية الوطنية والموقع الإقليمي للبنان، ويحدد أصول الصراع الديمقراطي الحيوي والسلمي حول مستقبل نظامه السياسي.
لكن نجاح المنظمة في الامتناع عن سلوك دروب الوهم والتمويه بل الغش في مواجهة أزمتها وسائر اليسار من ناحية، ونجاحها في جلاء استقلالية خطها السياسي وفرادته في ظل ظرف لبناني بالغ الصعوبة والتعقيد من ناحية ثانية، لم يقابله أو يواكبه نجاح ملموس في اتجاه إعادة بناء موقع حزبي منتج ووازن نسبياً، على صعيدي الطرح الفكري والممارسة السياسية العملية، يؤشر إلى إمكان استئناف دور نشط من جانبها ضمن ساح اليسار خصوصاً وفي مدى الحياة السياسية للبلد عموماً.
ولا ينطوي إطلاق هذا الحكم على نظرة ظالمة إلى وضعية المنظمة، بل هو تحصيل حاصل فعلي تشهد عليه الوقائع الجوهرية المتصلة بحصيلة مسيرتنا الحزبية وحاضرنا السياسي. مما يعني أن الخلاصة الأخيرة التي انتهى إليها المؤتمر العام الثاني في مرحلته الأولى أواخر كانون الثاني 2001 حول المسار الانحداري لمسيرتنا الحزبية، ما زالت خلاصة صائبة وراهنة وقانوناً نافذاً بعد ورغم كل الجهود التي بذلت بين العام 2001 والعام 2009 تحت راية السعي إلى تجديد مشروعنا الحزبي في سياق السير الحثيث نحو إنجاز المرحلة الثانية والأخيرة من المؤتمر. هكذا أتى الفرز المتمادي الذي شهدته بنية المنظمة بين العام 2001 والعام 2009 مشابهاً في الجوهر لذاك الذي اتسمت به الحصيلة الحزبية خلال السنوات الممتدة بين 1995 و2001 والتي كانت سنوات الذروة في المراجعة النقدية الكبرى التي خضنا غمارها. وقد استكمل الفرز المشار إليه وفي مرحلتيه المذكورتين إطاحة معظم قوى المنظمة القديمة تعداداً حزبياً، وموقعاً شعبياً، ومراكز نفوذ اجتماعي، وأطراً نقابية وثقافية، وأدواراً نضالية، ووزناً سياسياً إجمالياً. لذا يصبح لزاماً علينا تكرار القول، ونحن نختتم اليوم مؤتمرنا العام الثاني في مرحلته الثانية، أنه بقي في صفوف المنظمة من أشكال الوعي القديم، الذي ظل عصياً على كل المراجعات، أكثر مما بقي لها من عناصر القوة السابقة.
وفي ضوء هذه النظرة النفاذة من ظواهر أزمتنا الحزبية إلى بواطنها يصبح ممكناً صوغ التقويم الأدق لحصيلة الاختبار العملي المتصل الحلقات الذي خاضته المنظمة على كل الجبهات الفكرية والسياسية والنضالية منذ منتصف التسعينات من القرن العشرين وحتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وبموجب هذا التقويم الأدق نقول إن الحصيلة الحزبية المشار إليها هي حصيلة ضئيلة فعلاً. والضآلة تعكس هنا حدود ما بقي للمنظمة من أهلية ضامرة لخوض غمار عمل حزبي يساري تأسيسي جديد وفق شروط متقدمة، وعلى قاعدة استقلال صراعي حاسم وقادر في انفصاله عن كل ما هو سائد في بيئة اليسار اللبناني راهناً من مقاربات عقيمة. ويبقى أن نقرن هذه الخلاصة، حتى لا تتحول إلى مجرد خلاصة عدمية، بالتشديد على أنه حين نستخدم المقاييس النسبية للمقارنة بين واقع الحال في المنظمة وبين وقائع الأحوال لدى سائر أطراف بيئة اليسار، فسيتبدى لنا كم أن ما بقي من مقومات الأهلية الفكرية والسياسية الحزبية لدى المنظمة يشكل ـ على ضموره وتدني فاعليته ـ مادة ثمينة لأي مسعى ينشد التجديد في وضعية اليسار اللبناني حقاً، فيما نجد أنفسنا أمام مسالك لدى الأطراف الأخرى ابتعدت بأصحابها عن أي طموح جدي للمساهمة في نهضة يسارية لاحقة تستحق بعض اسمها فعلاً.
رابعاً: ولا تغني إشارة المقارنة التي وردت في ختام الفقرة السابقة بين الأفق الضيق جداً ولكن المفتوح فعلاً حتى الآن الذي تقصلت إليه أهلية المنظمة للتجدد اليساري، وبين الآفاق التي بدت في الماضي فسيحة ومفتوحة لدى الأطراف اليسارية الأخرى لكنها تتجه اليوم إلى ما يشبه الانسداد المحكم، لا تغني هذه الإشارة عن معالجة قائمة في ذاتها ـ ولا بد منها ـ لمجمل أوضاع البيئة اليسارية للوصول إلى حكم دقيق وأخير على أهليتها. فحين نكون في صدد قياس حدود أهلية منظمة العمل الشيوعي للاضطلاع بدور متميز ومبادر في استنهاض اليسار اللبناني، لا نستطيع الاستغناء عن صوغ جواب موضوعي ومسؤول عن السؤال المطروح ضمن جدول أعمال مؤتمرنا العام الثاني في مرحلته الثانية حول “آفاق العلاقات الممكنة والمجدية والضرورية بين المنظمة وسائر أطراف بيئة اليسار: أي مهمات مشتركة لأي علاقات توصلاً لأي أهداف”. فالجواب الصحيح عن هذا السؤال يدخل في أساس تحديد ميزان القوى الذي يتحكم بالمسعى الحزبي الجديد الذي تتجه المنظمة نحو الانخراط فيه تجسيداً لمساهمتها النسبية في استنهاض اليسار.
ولا نرى ضرورة للعودة هنا إلى كل الوقائع التي حفلت بها ممارستنا الدؤوبة لعلاقات أردناها متجددة وفعلية منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي مع كل أطراف بيئة اليسار اللبناني وتشكيلاته: من الحزب الشيوعي اللبناني أولاً وأساساً، إلى التيار الديمقراطي ذي النزعة اليسارية ثانياً، إلى النخبة الثقافية المنحازة يساراً في مجرى الصراع السياسي ـ الاجتماعي بين السلطة ومعارضيها ثالثاً، إلى الحركة النقابية في مختلف فروعها المهنية وأوساطها الاجتماعية والتي تقترب من اليسار بمقدار ما تظل لصيقة بمصالح الجمهور الاجتماعي الذي تمثل رابعاً وأخيراً. ونكتفي من استحضار الوقائع اللازمة في هذا المجال بالقول إن المنحى العام الذي سلكه التطور اللبناني ـ في مختلف ميادينه ـ منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي وحتى منتصف العقد الأول من القرن الحالي، قد أتى يعزل اليسار ممثلاً بالحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي عن القواعد الاجتماعية التي كانت واسعة للنخبة الثقافية وللحركة النقابية، مثلما أتى يوجه ضربة كبرى إلى التيار الديمقراطي ذي النزعة اليسارية شلت فاعليته بل وبددت عناصر تكونه تياراً عابراً للمناطق والطوائف من أساسها. وغني عن القول إن هذا المنحى الاجتماعي ـ السياسي الذي سلكته التطورات اللبنانية على غير صعيد قد أتى يكرس اختلالاً ساحقاً ضمن موازين القوى في غير مصلحة بيئة اليسار عموماً والشيوعيين (حزباً ومنظمة) في إطارها خصوصاً.
ويبقى أن نتوقف بعد ذلك كله أمام الوجهة التي سلكتها العلاقة بين منظمة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي بين العام 2001 والعام 2009. لقد حسم المؤتمر العام الثاني للمنظمة في مرحلته الأولى السجال حول وجهة العلاقة بين المنظمة والحزب حين اعتبرها علاقة اتصال ضروري، ودعا إلى اشتقاق الصيغ المناسبة لإدارتها وفق درجة التقارب أو الاختلاف الموضوعي بين الخطين السياسيين الموجهين لكل من طرفيها.
هكذا انخرطت المنظمة بين العام 2001 والعام 2009 في مسعى دؤوب لتوليد جوامع مشتركة بينها وبين الحزب سقفها الأعلى الاتفاق على ما يمكن إدراجه في خانة مواجهة أزمة اليسار وتوفير الشروط المساعدة على استنهاضه، وحدّها الأدنى “سياسة شيوعية” مشتركة بين الطرفين حيال التطورات العاصفة التي بدأت أمواجها تتلاطم على المسرح اللبناني منذ صيف العام 2004.
ولا يتسع المجال هنا لعرضٍ وافٍ وشامل لكل محطات المسعى المشار إليه والذي ظلت المنظمة تلح على متابعته من دون انقطاع حتى الانتخابات النيابية الأخيرة عام 2009. لذا نكتفي بالقول أنه استحال علينا، في نهاية المطاف، التوصل إلى أي مبادرة مشتركة بين الحزب والمنظمة تحت عنوان: مواجهة الأزمة البنيوية الكبرى التي يتخبط اليسار بين جدرانها الخانقة، مثلما تعذر علينا اشتقاق “سياسة شيوعية” مشتركة حيال التطورات التي تمس حاضر البلد ومستقبله عموماً، وتصيب المصير السياسي للشيوعيين خصوصاً.
وإذ نسجل واقع حال العلاقة الجامدة الآن بين منظمة العمل الشيوعي في لبنان والحزب الشيوعي اللبناني على هذا النحو القاطع في وضوحه، لا نرمي من وراء ذلك إلى القول بقطيعة بين الطرفين أو إلى إلغاء توجه المؤتمر العام الثاني في مرحلته الأولى، في خصوص إدارة علاقة اتصال تحت كل الظروف بيننا وبين سائر أطراف بيئة اليسار.
لكن التوقف أمام واقع الانقطاع (وليس القطعية) في العلاقة بين طرفي الحركة الشيوعية في لبنان يهدف في الأساس إلى استكمال قراءة ميزان القوى الذي يحيط بمسعى المنظمة للاضطلاع بدور مبادر في استنهاض اليسار اللبناني. فالمنظمة تبدو الآن وحيدة في هذا المسعى. وحين يتعلق الأمر بوضع الخطة العملية لتوظيف ما تبقى من مقومات أهلية المنظمة وطاقاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية في اتجاه مواجهة أزمة اليسار اللبناني، يجدر بنا أن ندرك أن منظمتنا تتنكب هذه المهمة اليوم منفردة في معزل عن أي حراك ضمن بيئة اليسار اللبناني بمجمله وإلى أمد غير منظور.
10 آب 2009 المؤتمر العام الثاني
لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان
ـ المرحلة الثانية ـ
قرار المؤتمر العام الثاني لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان في مرحلته الثانية حول
التوجهات الخططية للمنظمة في مواجهة أزمة اليسار اللبناني
ناقش المؤتمر العام الثاني لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان في مرحلته الثانية ما يمكن اعتباره توجهات خططية عملية هادفة إلى توظيف ما تبقى من مقومات أهلية المنظمة وطاقاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية في اتجاه مواجهة أزمة اليسار اللبناني، وأقر في هذا الصدد الخلاصات الآتية:
أولاً: مقومات استمرار منظمة العمل الشيوعي في لبنان طرفاً حزبياً طامحاً إلى تجاوز أزمته وتجـديد دوره في اسـتنهاض اليسـار اللبناني
إذ ينطلق المؤتمر من الخلاصة التي أقرها حول حدود أهلية المنظمة في ضوء الحصيلة الحزبية الضئيلة التي انتهت إليها مسيرتها بعد عقد ونصف العقد من مساعي التجديد الفكري ـ السياسي، طرحاً وممارسة، وإذ يعي حدود ما بقي لها من أهلية ضامرة لخوض غمار عمل حزبي يساري تأسيسي جديد، فإنه يسجل في المقابل وبالدقة اللازمة واقع استمرار منظمة العمل الشيوعي في لبنان طرفاً حزبياً عاملاً وطامحاً إلى تجاوز أزمته وتجديد دوره في استنهاض اليسار اللبناني. وهي استمرارية تقوم اليوم ـ بعدما غابت صورة المنظمة الحاشدة الناشطة الوازنة ضمن بيئة اليسار وإطار الحركة الوطنية ـ على مقومات ثلاثة:
- الوزن الرمزي لاسم المنظمة والذي يستحضر موقعها التاريخي ودورها السابق في معادلة الحياة الوطنية وفي مجرى السياسة اللبنانيتين. وإذا كان هذا الاسم ما زال مرشحاً للتغيير عندما تستكمل المنظمة الراهنة إنجاز عملية الانطلاق من تراثها السابق وتجاوزه في آن، ثم إذا كان هذا الاسم ما زال يحمل حتى اليوم العديد من الالتباسات التي رافقت مسيرتنا الحزبية على امتداد أربعة عقود، فإن ذلك كله لا يقلل أبداً من أهمية التعديلات الطارئة إيجاباً على صورة المنظمة عبر ممارستها الفكرية النقدية الشجاعة ومسلكها السياسي العملي المستقل والنزيه، مما يجعل الاسم مصدر وزن أكثر مما هو مصدر إعاقة.
2– الكتلة الحزبية المستمرة في التزامها خط المنظمة وفق المضمون الذي أنتجه مسار التجديد الفكري ـ السياسي خلال ما تجاوز العقدين من الزمان. صحيح أن هذه الكتلة الحزبية تناقصت عدداً على نحو تبددت معه حال الاحتشاد التنظيمي السابقة، وإن طاقتها الإنتاجية أصبحت ضيقة الحدود ضئيلة الميادين، كما أن وعيها الفكري ـ السياسي عانى ويعاني على الدوام من شتى أشكال الانكشاف أمام المؤثرات السلبية الناجمة عن المسار البنيوي الانحداري الذي تسلكه تطورات الوضع اللبناني منذ سنين طويلة، ذلك كله صحيح، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الكتلة الحزبية التي ما زالت صامدة تحت راية المنظمة تشكل الآن واحداً من المستندات المهمة لشرعيتنا التنظيمية، وقوة جماعية داعمة لخياراتنا الفكرية والسياسية والنضالية، وبها يكتمل نصاب الوضعية الحزبية المستمرة للمنظمة.
3- الدور القيادي المتميز للأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان في تاريخ اليسار اللبناني نشأة ونهضة ومشروعاً للتغيير الوطني الديمقراطي من ناحية، وفي تأسيس وبناء ورعاية مسيرة المنظمة وتوطيد موقعها الريادي ضمن بيئة اليسار وفي مقدم صفوف الحركة الوطنية اللبنانية من ناحية ثانية، ثم في إطلاق المراجعة النقدية الشاملة لفكر المنظمة وخطها السياسي ومجمل مسيرتها النضالية من ناحية ثالثة. وهو دور قيادي سابق للأمين العام ما زالت تسنده جاهزية راهنة لديه للإشراف على تنفيذ أي توجهات خططية يتيحها ميزان القوى الإنتاجي المتحكم بالمسعى الحزبي الجديد الذي تتطلع المنظمة إلى الانخراط فيه والاضطلاع بأعبائه.
ثانياً: التوجهات الخططية المتناسبة مع طاقات المنظمة وأولويـات المواجهـة اللازمـة لأزمـة اليسـار
تأسيساً على هذه النظرة الواقعية لحدود أهلية المنظمة ومقومات استمرارها طرفاً حزبياً طامحاً للعب دور متميز في استنهاض اليسار اللبناني، وانطلاقاً من القراءة الموضوعية التي تنفرد بها المنظمة لأوضاع هذا اليسار ومن الرؤية المستنيرة لمداخل التأثير إيجاباً في مجرياتها يقر المؤتمر التوجهات الخططية الآتية.
1 ـ أولوية الخوض المستنير في أزمة اليسـار
لا يستقيم أي مسعى نهضوي جديد في ساح اليسار، إذا لم ينطلق من تشخيص مستنير، دقيق وشجاع، لأزمة اليسار اللبناني بعيداً عن كل ما هو رائج من معالجات سطحية وعقيمة في هذا المجال. بل إن مثل هذا التشخيص يجب أن يذهب بعيداً في قراءته أوضاع اليسار اللبناني اليوم فيعود في القراءة إلى نشأة اليسار ليرى مساحة الريادة الفكرية والسياسية والاجتماعية فيها على حقيقتها وضمن سياقها التاريخي، وليتوقف من ثم أمام نهضة اليسار فيعين حدودها ومضامينها وإنجازاتها وثغراتها البنيوية بعيداً عن التضخيم والعدمية في آن. وعلى قاعدة هذه المقدمات يصبح ممكناً تشخيص الأزمة الراهنة لليسار بما يجلو عناصرها ويلم بأسبابها ويضيء على الموضوعي والذاتي منها. وبذلك يتوفر الأساس الملائم للوقوف أمام التحديات المصيرية التي تواجه اليسار اليوم والتي يلخصها السؤال الآتي: هل يقع احتمال النهوض المتجدد لليسار اللبناني ضمن أفق تاريخي واقعي ومرئي؟ وما هي شروط رجحان أو ترجيح مثل هذا الاحتمال؟
2 ـ صوغ وطرح أفكار ومواقف حول شروط النهوض المتجدد لليسار
يشكل التحديد الصائب من جانب المنظمة لشروط النهوض المأمول والمتجدد لليسار اللبناني دليلاً مرشداً للمساهمة الفكرية ـ السياسية المطلوبة من جانبنا في هذا المجال، والتي يجب أن تتمحور حول المسائل الآتية:
أ – تجديد الهوية الفكرية لليسار.
ب- إعادة بناء القاعدة الاجتماعية لليسار.
ج- تحديث البرنامج السياسي لليسار.
د- السعي لتوليد كتلة ديمقراطية علمانية بقيادة اليسار.
وتحت عناوين هذه المسائل تحتشد قضايا تكفي الإشارة إلى بعضها حتى يتبين حجم الجهد الفكري الذي لا يستطيع اليسار، أي يسار، اجتناب بذله إذا هو أراد الانتقال من حاضر مأزوم إلى مستقبل واعد. ونورد بعض هذه القضايا فيما يأتي على سبيل العينة لا الحصر.
ــ استجلاء هوية اليسار عالمياً، نسخة أو نسخ القرن الحادي والعشرين: قواعد اجتماعية، ومرجعيات فكرية، واستراتيجيات سياسية.
ــ استطلاع أزمة الرأسمالية العالمية مجدداً في طورها البنيوي الراهن من أجل رسم خطوط الوصل والفصل بين ثوابتها ومتغيراتها.
ــ التوقف أمام جديد الوضع الدولي والنظام العالمي: بنى وصراعات وسياسات وآفاق تطور وتغيير.
ــ رصد جديد الوضع العربي والنظام العربي: من مسائل الرابطة القومية والكيانات الوطنية، إلى مصائر التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي: هل من آفاق مفتوحة لمساع نهضوية عربية جديدة مختلفة؟ وهل من إمكان لولادات يسارية عربية جديدة تتجاوز ترسيمات القرنين التاسع عشر والعشرين؟
ــ التدقيق في آفاق الصراع العربي الصهيوني واحتمالاته، في ضوء اختباراته الحربية والسلمية السابقة وما نجم عنها من دروس وتحولات، والانطلاق من ذلك نحو رؤية المسالك الضيقة للقضية الفلسطينية، وامتحاناتها العسيرة، ومعادلاتها الضاغطة.
ــ صوغ خلاصات أعمق حول مسارات لبنان الكيان الوطني، ولبنان النظام السياسي، ولبنان التركيب الاجتماعي والطبقي والطائفي، ولبنان البنية الاقتصادية، ولبنان الحرب أو الحروب الأهلية، ولبنان استعصاء التغيير أو الإصلاح الديمقراطي.
3 ــ تنظيم حملة هادفة، انطلاقاً من طرح بطاقة التعريف الجديدة بالمنظمة، إلى استعادة بعض الوزن السياسي ـ الشعبي الموروث والمستمر موالياً لوجهتها السياسية، من خلال اعتماد وسائل في المخاطبة والتأطير تؤمن تثبيت العضوية الحزبية العاملة في صفوف المنظمة من ناحية، وتحقق تجديد حضور المنظمة كتيار ضمن اليسار يتجاوز نصابه حدود عضويتها من ناحية ثانية.
4 ــ استحضار ما يمكن من تراث المنظمة في ميادين العمل النقابي، والصلات المهنية، ومؤسسات العمل الديمقراطي، توصلاً إلى تجميع النثريات المتبقية لدينا على هذه الصعد. واستئناف السعي إلى بناء بعض عناصر موقعنا الاجتماعي من جديد، وإلى مواكبة أي حراك اجتماعي راهن ـ قادم بما يستحق من اهتمام ونشاط، وإلى استعادة الصلة بالملفات القطاعية الاجتماعية التي كان لنا سابق إلمام بها طرحاً وممارسة.
5 ــ تحديد وسائل وأشكال الحملة الفكرية ـ السياسية ـ الاجتماعية التي تشكل الإطار الناظم لجهد المنظمة من النطق الإعلامي إلى النشاط الشعبي. وكل ذلك على قاعدة الحساب الدقيق لإمكانات المنظمة وحدود قدراتها الإنتاجية في مختلف المجالات.
ثالثاً: تعيين موازين الأدوار المتمايزة والمتكاملة بين الأمـين العـام وسـائر التنظيـم
يشكل تعيين موازين الأدوار المتمايزة والمتكاملة بين الأمين العام وسائر التنظيم أمراً بالغ الأهمية يتوقف عليه أساساً نجاح التوجهات الخططية للمنظمة في بلوغ أهدافها المرسومة. وهو واقع تمليه خصوصية دور الأمين العام بالاستناد إلى موقعه الاستثنائي وجهده المتميز من ناحية، وأخذاً بعين الاعتبار حدود المساهمات الممكنة من جانب مجمل كادر وأعضاء المنظمة من ناحية ثانية.
لذا يوصي المؤتمر هيئة المتابعة القيادية التي ستنبثق عن الجمعية العمومية، وفق اللائحة النظامية الداخلية الجديدة، بإيلاء هذا الموضوع ما يستحق من اهتمام توصلاً إلى اشتقاق الصيغة المتوازنة المطلوبة في هذا المجال. وهي صيغة يجب أن تؤمن ـ تكراراً ـ تخصيص معظم طاقة الأمين العام للاضطلاع بأعباء المبادرات الفكرية ـ السياسية الأساسية من ناحية، ووضع سائر التنظيم أمام محك المساهمة النشطة في تنفيذ سائر التوجهات الخططية من ناحية ثانية.
رابعاً: نحو لائحة نظامية داخلية جديدة للمنظمة
تتطلب عملية الانتقال الناجح إلى الاضطلاع بأعباء هذه التوجهات الخططية الجديدة، صوغ وإقرار لائحة نظامية داخلية جديدة تؤلف بين أمرين أساسيين:
الأول: التكيف مع واقع الحصيلة الحزبية الضئيلة التي انتهت إليها مسيرة المنظمة فلا يكون النظام الداخلي فضفاضاً بالقياس إلى الوضعية التنظيمية الفعلية.
الثاني: المحافظة على منطق التشكل الحزبي للمنظمة ـ أياً تكن درجة التقلص في عديدها ـ لأن استمرار هذا المنطق الحزبي هو بالنسبة إلينا أمر بالغ الأهمية في السياسة ولا يقع أبداً في باب التفاصيل الإدارية الثانوية التي لا تقدم ولا تؤخر في تقرير مصير المسعى الحزبي من أساسه.
2 تشرين الأول 2009 المؤتمر العام الثاني
لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان
ـ المرحلة الثانية ـ
قرار المؤتمر العام الثاني لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان في مرحلته الثانية حول
اللائحة النظامية الجديد للمنظمة في وضعها الحزبي الراهن
تقديم:
توقف المؤتمر العام الثاني لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان، في ختام المرحلة الثانية من انعقاده، أمام ضرورة إقرار لائحة نظامية انتقالية للمنظمة تنطلق من موقعها الحزبي الراهن من ناحية، وتستوعب الإنجازات المحتملة لمسيرتها من ناحية ثانية، وتجسد مبادئ الخيار التنظيمي الذي اعتمدته في إطار مراجعتها النقدية من ناحية ثالثة. وانتهى المؤتمر من وقفته هذه إلى إقرار لائحة نظامية انتقالية جديدة، على أن يعمل بها لمدة عام من تاريخ إقرارها وتلغى بموجبها كل نصوص ومفاعيل اللوائح السابقة.
أولاً: التزامات العضوية المنتسبة راهناً إلى منظمة العمـل الشـيوعي في لبنان
تشكل منظمة العمل الشيوعي في لبنان في واقعها الراهن اتحاداً طوعياً لمناضلين انتسبوا إليها، في تواريخ مختلفة من مسيرتها الممتدة أربعة عقود حافلة على صعيدي الطرح الفكري والممارسة السياسية والنضالية والعملية.
وتستند التزامات العضوية المنتسبة إلى المنظمة في واقعها الحزبي الراهن ـ والمأمول ـ إلى ما أقره المؤتمر العام الثاني، في ختام المرحلة الثانية من انعقاده، من وثائق تناولت مسار التجديد الفكري السياسي في المنظمة خلال عقدين (1982-2002) من ناحية، وحدود أهلية المنظمة للاضطلاع بدور متميز ومبادر في استنهاض اليسار اللبناني من ناحية ثانية، وتوجهات خططية لتوظيف ما تبقى من مقومات أهلية المنظمة وطاقتها الفكرية والسياسية والتنظيمية في اتجاه مواجهة أزمة اليسار اللبناني من ناحية ثالثة، وبطاقة التعريف بمنظمة العمل الشيوعي في وضعها الراهن: هوية فكرية وخطاً سياسياً من ناحية رابعة وأخيرة.
ثانياً: حقوق العضوية المنتسبة راهناً الى منظمة العمـل الشـيوعي في لبنان
تستند حقوق العضوية، المنتسبة راهناً إلى منظمة العمل الشيوعي في لبنان، إلى خيار الديمقراطية غير المقيدة بأي قيد مبدئي على صعيد ممارسة العلاقات التنظيمية، بديلاً من “المذهب التنظيمي” السابق الذي ظلَّ معتمداً تحت عنوان المركزية الديمقراطية دستوراً صارماً لعلاقاتنا الحزبية ردحاً طويلاً من الزمن.
على أن العلاقات التنظيمية الديمقراطية، المفتوحة وغير المقيدة، لا تتعارض مع وجود مركز يسهر على تطبيق التزامات العضوية المنتسبة وحماية حقوقها في آن، ويؤمن الوحدة السياسية والنضالية الطوعية للمنظمة على قاعدة حرية الرأي الفكري وممارسة الاجتهاد السياسي وحق التعبير عن المواقف المتنوعة داخل المنظمة وخارجها. على أن يقترن ذلك كله باحترام المواقف التي تصدر سالكة طريق النقاش المفتوح والاقتراع الحر، بحيث يكون قرار الأكثرية نافذاً ويكون رأي الأقلية واضحاً.
ويحتل حق الترشيح الحر والاقتراع الحر لكل الأطر والمواقع والمراكز التنظيمية مكانة رئيسية غير قابلة للانتقاص ضمن حقوق العضوية المنتسبة وآليات الحياة الحزبية الداخلية للمنظمة.
ثالثاً: البناء الداخـلي للمنظمة
يتكون البناء الداخلي للمنظمة من الأطر والمواقع التنظيمية الآتية: المؤتمر العام ـ الأمين العام ـ المكتب التنفيذي ـ هيئة المنطقة.
أ ــ المؤتمـر العـام
- يتألف المؤتمر العام من جميع الأعضاء العاملين في مواقع الانتساب الحزبي وينعقد سنوياً في صيغة جمعية عامة للمنظمة.
- يتخذ المؤتمر العام في دورة انعقاده السنوية، وفي أي دورة استثنائية يعقدها، القرارات اللازمة في خصوص الهوية الفكرية للمنظمة وخطها السياسي وتوجهاتها الخططية وقضايا عملها التنظيمي.
- ينتخب المؤتمر العام أميناً عاماً للمنظمة ومكتباً تنفيذياً لإدارة الشؤون الحزبية.
- الأمــين العـام
1– يضطلع الأمين العام بأعباء المبادرات الفكرية ـ السياسية الأساسية من ناحية، ويرعى مسيرة المنظمة نحو تنفيذ توجهاتها الخططية الحزبية من ناحية ثانية.
2– يمارس الأمين العام دور الناطق الرسمي باسم المنظمة استكمالاً للمواقف والوثائق والبيانات الصادرة باسم المنظمة وعن مختلف هيئاتها المخولة.
3– يرعى الأمين العام عمل المكتب التنفيذي بما يساعد على تحويله إلى مرجعية حزبية مسؤولة عن قيادة عمل المنظمة في مختلف المجالات.
ج- المكـتب التنفيـذي
1– يشكل المكتب التنفيذي الهيئة القيادية الأولى التي تتولى مهمة تنظيم وتزخيم مسيرة المنظمة نحو تنفيذ مضمون القرارات والوثائق الصادرة عن المؤتمر العام. وهو يقوم – بإشراف الأمين العام – مقام المؤتمر بين دورات انعقاده العادية والاستثنائية.
2– يضطلع المكتب التنفيذي، وعلى وجه الخصوص، بمهمة المتابعة اللازمة لوضع التوجهات الخططية للمنظمة موضع التطبيق لدى جميع فروع التنظيم.
3– يتألف المكتب التنفيذي من عدد من الأعضاء يقرره المؤتمر العام في ختام دورته. ويتم انتخاب أعضاء المكتب التنفيذي من بين أعضاء المؤتمر على القاعدة التنظيمية الديمقراطية القاضية بأن الترشيح علني ومعلل والاقتراع سري.
4– ينتخب المكتب التنفيذي من بين أعضائه أميناً للسر يضطلع بمهمة ضبط محاضر اجتماعاته وتعميم قراراته ومتابعة شؤونه الإدارية. ويتولى أمين السر مهمة إدارة جلسات المكتب التنفيذي وتأمين سير أعماله في غياب الأمين العام.
د- هيئـة المنطقـة
1– تتألف هيئة المنطقة من جميع الأعضاء العاملين في مواقع الانتساب الحزبي في نطاق المنطقة.
2– تشكل هيئة المنطقة إطاراً جماعياً لمناقشة الوثائق والقرارات الصادرة عن المؤتمر العام، ولتنفيذ ما يخصها من التوجهات الخططية العامة للمنظمة.
3– تنتخب هيئة المنطقة أمين سر يتولى تنظيم اجتماعاتها ويساهم في تنفيذ قراراتها ويكون مسؤولاً عن أعماله تجاهها.
4– ترفع هيئة المنطقة بواسطة أمين السر تقارير عن أعمالها إلى المكتب التنفيذي.
30 تشرين الأول 2009 المؤتمر العام الثاني
لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان
ـ المرحلة الثانية ـ
القرارات الصادرة عن المؤتمر العام الثالث لمنظمة العمـل الشــيوعي في لبنان
تقديم – ليكن المؤتمر العام الثالث محطة الختام لمسيرة التأهيل المقفل على الداخل الحزبي في المنظمة.
عقد المؤتمر العام الثالث لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان دورته النظامية العادية خلال الفترة الواقعة بين منتصف تشرين الأول ومنتصف كانون الأول من العام 2012 تحت عنوان: تزخيم المسار الحزبي للمنظمة.
وكان المؤتمر العام الثاني أقر في نهاية دورة انعقاده عام 2008 ـ 2009 لائحة نظامية انتقالية جديدة نصت في جملة أحكامها على مبدأ الانعقاد السنوي الدوري والحكمي للمؤتمر العام. وهو أمر كان يفرض انعقاد المؤتمر العام الثالث في نهاية العام 2010. لكن العثرة التي أصابت المسار الحزبي مجدداً عامي 2010 و2011 أدت إلى تعطيل انعقاد المؤتمر في موعده الحكمي السنوي المشار إليه. وقد توقف المؤتمر العام الثالث ملياً أمام وقائع تلك الفترة من زاوية العوامل التي ساهمت في إنتاجها والتي يتعلق بعضها بموروثات الإعاقة في الأوضاع الذاتية للتنظيم الحزبي، ويتصل بعضها الآخر بالظرف الموضوعي المستجد، لبنانياً وعربياً ودولياً، انطلاقاً من الأحداث الضخمة التي توالت في محاور عدة من العالم العربي وما زالت تداعياتها تزداد اتساعاً واحتداماً حتى نهاية العام الجاري 2012.
ورأى المؤتمر أنه لم يكن هناك مفر، في ظل هذه المراوحة المتجددة في المسعى الحزبي، من أن يتم اللجوء مرة أخرى إلى إطلاق حملة تأهيل جديدة مقفلة على الداخل الحزبي، استغرقت عامين ونصف العام، وظلت مثل سابقاتها حبيسة الجدران الداخلية للتنظيم. لكن المؤتمر شدد في الوقت نفسه على ضرورة اختتام مسلسل التأهيل الحزبي المقفل بعد ان استنفد كل غاياته وفوائده وضروراته وبات يهدد بإصابة المنظمة بالتواء تنظيمي وفكري بنيوي يجعل منها ـ وعياً وممارسة ـ اشبه بالجمعية السرية، فيما هي تحاول الانطلاق في مسعى حزبي جديد لا يستقيم الا بالعودة إلى الانخراط العلني المسؤول في الحياة السياسية اللبنانية في حدود ما تبقى لها من طاقة حزبية فعلية، وإلى استئناف ما أمكن من الصلات التي كانت لها بالحياة السياسية العربية.
وفي ختام خوضه في مسألة التأهيل الحزبي الحيوية، انتقل المؤتمر العام الثالث إلى التوقف أمام جملة القضايا الفكرية والسياسية التي ينبغي تجديد راهنية وعي المنظمة لها، وتطوير معالجتها تأسيساً على ما قطعته مسيرتنا الحزبية السابقة من أشواط في هذا المجال. وقد تناول المؤتمر في هذا الصدد القضايا الآتية وأرسى التوجهات اللازمة في صددها.
أولاً – استكمال صوغ بطاقة التعريف الجديدة بالمنظمة شاملة كل الحقبات الزمنية منذ بدء المراجعة النقدية لمسيرتنا الحزبية وحتى الآن تحت عنوان: مسار التجديد الفكري ـ السياسي في المنظمة خلال ثلاثة عقود(1982 ـ 2012). وكان المؤتمر العام الثاني أقر في هذا الصدد نصاً حصر الحقبة التي تناولتها المراجعة بالفترة الممتدة بين عامي 1982و2002. لذا كان لا بد من أن يدعو المؤتمر العام الثالث إلى استدراك هذا النقص بجعل وثائق المراجعة تشمل أيضاً كل مجريات الحقبة الحزبية بين 2002 و2012. وأوصى المؤتمر بضرورة إعطاء حقبة الثمانينات والتسعينات في النص القادم للمادة الحزبية الفكرية والسياسية، مزيداً من الاهتمام تركيزاً وتوسيعاً. ذلك إن ما استقر في الأحكام الشائعة حول مسيرة المنظمة في الوسط السياسي العام يكاد يربط وجودها حصراً بالحقبة التي شهدت صعود وتعاظم دورها في قيادة الحركة الوطنية اللبنانية خلال السبعينات من القرن الماضي. أما حقبة الثمانينات والتسعينات، التي أعقبت تعليق الصيغة الجبهوية للحركة الوطنية، فلا تحظى سوى بأحكام غائمة يظللها افتراض الانكفاء المتزايد للمنظمة على غير إنتاج فكري ـ سياسي أو ممارسة نضالية وازنة خلال كل تلك الحقبة. كما أوصى المؤتمر بإيلاء عناية قصوى لوقائع مسيرة المنظمة خلال الفترة الممتدة بين عامي 2002و2012. وهي الفترة التي شهدت ذروة المغالبة الاستقلالية، الفكرية والسياسية، من جانب المنظمة في وجه ضغوط الإلحاق ووقائع الالتحاق التي اكتسحت سائر قوى اليسار لتجعل منها مجرد أدوات تجميلية ثانوية في قبضة الاستقطابات الطوائفية التي سادت الوضع اللبناني خلال العقد الأخير.
وأوصى المؤتمر أخيراً بتطوير النص الصادر عن المؤتمر العام الثاني حول الهوية الفكرية الجديدة للمنظمة. إذ اقتصر هذا النص على عرض محتويات كتاب “في الاشتراكية” الذي صدر عام 1993 حاملاً أهم عناوين المراجعة الفكرية التي أقدمت عليها المنظمة خلال النصف الأول من التسعينات. ومن المعروف أننا اعتبرنا، في حينه وبوجه حق، صدور هذا الكتاب إنجازاً بالغ الأهمية على صعيد تفكيك العقبات المعرفية التي اصطدمت من خلالها المراجعة مع ما أسميناه ثقافة الكراريس والمحفوظات الخشبية المتحدرة إلينا من الحقبات السابقة. لكن هذا الكتاب لم يعد يفي اليوم بموجبات التعريف اللازم بالمسار الفكري الأغنى الذي انفتحت من خلاله المنظمة ـ ممثلة بأمينها العام خصوصاً ـ على الآفاق الجديدة التي انتقلت إليها الثقافة اليسارية الموصولة بالتراث الماركسي عالمياً خلال العقد الأخير. مما بات يفرض صوغ خلاصة إضافية حول هويتنا الفكرية الراهنة لتضمينها بطاقة التعريف الجديدة بالمنظمة.
ثانياً – التدقيق مجدداً في طبيعة المسعى الحزبي الذي يتوجب على المنظمة الاضطلاع به كي تبقى محتفظة بالحد الأدنى من مواصفات التنظيم الحزبي المستمر حياً وملحوظاً ضمن الحياة السياسية. ويؤكد المؤتمر العام الثالث في هذا المجال أن التدقيق في طبيعة المسعى الحزبي المتجدد للمنظمة هو أولاً وأساساً تدقيق في واقع حال المنظمة لاستكشاف المعادلة الواقعية بين الواجب والممكن والمتعذر على صعيد انطلاقتها المأمولة اليوم. إذ لا مجال أبداً لتصور أو وضع خطط حزبية لا يسندها ميزان قوى إنتاجي ملائم على أرض الواقع. وهو، هذا التدقيق، ما يسمح بتعيين حدود الدور السياسي العام الذي تستطيع المنظمة استئناف الاضطلاع به، طرحاً وممارسة، ضمن الوضع اللبناني الراهن بتحدياته الضخمة وأخطاره الداهمة وصعوباته الموضوعية المتنامية، وانطلاقاً من الوزن المتبقي لها في مختلف الميادين وعلى جميع الصعد. ومن هنا تنبع ضرورة الالمام الدقيق والصريح بالرصيد الأخير للمنظمة اليوم: موقعاً سياسياً، وتعداداً بشرياً، وبيئة اجتماعية، ومدى جغرافيا، وطاقة تنظيمية، ووسائل وميادين نضالية. وعلى قاعدة اعتماد هذه المقاييس عناصر لتقدير واقع حال المنظمة بما انتهى إليه راهناً، انخرط أعضاء المؤتمر العام الثالث في مناقشة مستفيضة ومتجددة لحدود أهلية المنظمة للاضطلاع بدور متميز ومبادر ضمن إطار اليسار اللبناني. وانتهت هذه المناقشة إلى ما يشبه الاجماع على أن الضمور الإجمالي في طاقة المنظمة هو الواقع الذي لا بد من النزول عند أحكامه في تعيين الحد الفاصل بين الممكن والمتعذر في مجال تعيين التوجهات الخططية الملائمة في مختلف الميادين. وهو النهج الذي يوصي المؤتمر العام الثالث باعتماده على نحو صارم في الممارسة القادمة للمنظمة.
ثالثاً – ناقش المؤتمر العام الثالث خلاصات سياسية بنيوية حول مسيرة الانتفاضات العربية المتوالية فصولاً منذ مطلع العام 2012، وحول آفاقها الممكنة والمرتقبة من زاوية سؤال النهوض العربي الذي ما زال يقرع أبواب المستقبل وتكبله قيود الماضي. وفي هذا المجال شدد المؤتمر على النقاط الآتيـــة:
1 – يغلب على مسار الانتفاضات العربية، التي اندلعت أصلاً تحت راية الديمقراطية، واقع التخبط الشديد الذي يطعن في جدارتها على بناء البدائل الديمقراطية من الأنظمة التي أسقطتها، او هي في طريقها إلى إنجاز أو استكمال عملية إسقاطها. وينطبق ذلك على الانتفاضات العربية جميعاً من دون استثناء: من تونس إلى مصر ومن ليبيا إلى سوريا، فضلاً عن اليمن التي أقامت إنتفاضتها نظاماً آخر يشبه نظامها السابق، في ظل أحكامه ذاتها وحكامه أنفسهم.
2 – على أن أزمة التغيير الديمقراطي المستعصية والتي تلف بلدان الانتفاضات العربية جميعاً، لا تلغي أبداً أهمية النتائج التي حققتها هذه الانتفاضات والتي تمثلت في إسقاط أنظمة الاستبداد في هذه المحاور المهمة من العالم العربي، وتفكيك آلية اشتغالها في جعل القمع غير المحدود قدر الشعوب العربية عقوداً طويلة من الزمن.
3 – إن الشطر الأكبر والأهم من مسؤولية تعثر عملية التغيير الديمقراطي في بلدان الأنظمة العربية المستبدة، تتحمله هذه الأنظمة ذاتها من خلال انخراطها المتمادي والمزمن في عملية إبادة منظمة للحياة السياسية وتعطيل متماد لآليات الانتظام الاجتماعي الحديثة في هذه البلدان. وهي موروثات سلبية ضخمة لا يمكن تجاوز نتائجها التدميرية إلا بمخاض إجتماعي بالغ التعرج وطويل النفس.
رابعاً – لا بد من التدقيق مجدداً في آفاق الصراع العربي الصهيوني واحتمالاته في ضوء اختباراته الحربية والسلمية السابقة وما نجم عنها من دروس وتحولات. والانطلاق من ذلك نحو رؤية المسالك الضيقة للقضية الفلسطينية والامتحانات العسيرة التي تواجهها الحركة الوطنية الفلسطينية في الظرف العربي الراهن. وفي هذا المجال أوصى المؤتمر العام الثالث بالتوقف ملياً أمام الحدثين الأبرز اللذين شهدتهما الساحة الفلسطينية وهما: الحرب الإسرائيلية ـ الثانية من نوعها ـ بعد العام 2008 على قطاع غزة من ناحية، والإنجاز الديبلوماسي ـ السياسي الذي حققته فلسطين بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية من خلال الفوز بمقعد مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة من ناحية ثانية.
ــ ففي مجال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لا بد من القول إن الحرب على غزة قررتها وشنتها إسرائيل من دون أن تتمكن هذه المرة من استحضار ذريعة الرد على فعل فلسطيني مسلح أصلي يجعلها في موقع الدفاع “المشروع” عن نفسها. والحقيقة أن نتائج الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة كانت في مفاعيلها التدميرية شبيهة إلى حد بعيد بالحرب الإسرائيلية السابقة لجهة عدم التكافؤ في النتائج على صعيد الخسائر العسكرية والعمرانية التي نجمت عنها والتي تكبدها كل من الطرفين على نحو متفاوت. لكن صراع الإرادات السياسية الذي أطلقه العدوان الإسرائيلي بين القوى الوطنية الفلسطينية وحكومة تل ابيب أسفر في ميدان السياسة عن خسارة نسبية أصابت إسرائيل ومكسب نسبي حققه الفلسطينيون. مما عاد يثبت أن العمل الفلسطيني المسلح في معرض الدفاع والرد ما زال وارداً في معادلة الصراع وأن الشعب الفلسطيني مستعد لتحمل أعبائه ضمن نسبة معينة. وهذا واقع يجدر بالفلسطينيين جميعاً، في حركة حماس وحلفائها وفي منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، وعيه والإفادة منه بما يعود على المسيرة الفلسطينية المشتركة بمكاسب مهمة.
ــ وفي مجال الإنجاز الديبلوماسي ـ السياسي البارز الذي حققته فلسطين في الأمم المتحدة، ثبت أنه إذا كانت المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية تدور في حلقة مفرغة تجعلها عديمة الجدوى، فإن دق ابواب المجتمع الدولي في معركة سياسية منظمة ومشغولة جيداً بكفاءة يمكن أن يحقق للشعب الفلسطيني مكاسب سياسية مهمة على طريق صراعه الطويل من أجل حقوقه، مما يحفظ للسياسة الواعية والذكية في العمل الفلسطيني إعتبارها وأهميتها. وإذا ما توج ذلك ببناء مساحة مشتركة للنضال الفلسطيني الجامع، نستطيع أن نتصور رجحاناً لكفة المصالحة الفلسطينية وعودة إلى حشد الطاقة الفلسطينية، مما يعيد عامل البناء الفلسطيني الداخلي على قواعد وفاقية عاملاً فاعلاً في حاضر الوضع الفلسطيني ويشحن المسيرة الفلسطينية بطاقة إيجابية مهمة.
خامساً ـ لا بديل من إجراء قراءة في المسألة السورية من زاوية آثارها النوعية على مستقبل لبنان كياناً وطنياً، ونظاماً سياسياً، ومجتمعاً أهلياً.
وقد أوصى المؤتمر العام الثالث بجعل القراءة المشار اليها تنطلق من الوقائع الملتهبة الجارية الآن على المسرح السوري وفي جواره، والتي تقطع بأمرين متلازمين:
الأول ـ بلوغ معركة الدفاع التدميري التي يخوضها النظام السوري ضد شعبه وأرضه ومقومات بلده ذروة الحرب الأهلية التي يمكن القول بموضوعية كاملة أنه لا سابق لها ولا شبيه في تاريخ المنطقة المشرقية كلها والعالم الواسع بأسره. وهو أمر يجعل الإنقسام والتقسيم والفوضى الكيانية الزاحفة على سوريا، نتائج مؤكدة لمجريات هذه الحرب التي تدور اليوم على أرضها. لذا فإن كل من يريد ممارسة واجب التضامن الأكيد مع الشعب السوري أن يضع نفسه في موضع المسؤولية الخطيرة عن رسم المسافة التي يجب أن تبقى حاجزاً مانعاً من إنتقال عدوى الحرب الأهلية الى موقع المتضامن نفسه وإلى بلده في نهاية المطاف.
والأمر الثاني ـ إن واقع الحال اللبناني ينبيء أن الاستقطابين الطائفيين الرئيسيين اللذين يصادران مقاليد السياسة في لبنان اليوم، يخوضان بالفعل، وانطلاقاً من التضامن مع الشعب السوري أو من الإلتحاق بالنظام السوري لوناً من ألوان الحرب الأهلية تدور وقائعها في جزء منها على الأرض السورية فيما هي تدور على الأرض اللبنانية في جزئها الآخر. وما يجعل هذه الحرب الأهلية مرشحة لمزيد من الإلتهاب أن كلا الطرفين المنخرطين فيها ينظران إلى مستقبل لبنان مرتهناً لنتائج الحرب التي تدور في جواره بين الشعب السوري من ناحية، وبين النظام الذي يقتله ويسعى إلى التحكم الأبدي بمصيره من ناحية ثانية. ومن هنا لا تعود المسألة مسألة توفق في التحليل من جانبنا للمسألة السورية وآثارها النوعية على مستقبل لبنان، بل يصبح الأمر أمر صياغة لازمة للدور الذي يتوجب علينا المساهمة من خلاله ـ إلى جانب آخرين ـ في وقف هذا الإنخراط اللبناني الإنتحاري المزدوج في الحرب الأهلية السورية، التي تقع مجرياتها على مسافة بضعة كيلو مترات من أرضنا وبعض مدننا وقرانا.
سادساً ـ لم يعد هناك مفر من إجراء مناقشة جديدة لمعضلات السلاح الأهلي في لبنان بين أيديولوجيا المقاومة الافتراضية وواقع المشروع المذهبي، وهي المعضلات التي تسترهن المصير الوطني للبلد وتشحن الاجتماع اللبناني بعناصر من التفكك والانقسام تلقي به في مهاوي فوضى كيانية لا قعر مرئياً لها.
ويرى المؤتمر العام الثالث أن المناقشة الجديدة المشار اليها تصبح غير ذات جدوى إذا هي لم تنطلق من الإلمام الواعي بعناصر الخلاف اللبناني ـ اللبناني التاريخي حول الموقع الوطني للبنان. وهو الخلاف الذي تمتد وقائعه سحيقاً إلى ازمان سبق بعضها ولادة الكيان اللبناني، ورافق بعضها هذه الولادة، كما لازم بعضها عملية الاستقلال اللبناني، وتصاعد بعضها وتعمق بعد قيام إسرائيل في قلب المشرق العربي. ثم أتت بعد ذلك الحقبات الأخيرة التي شهدت اندلاع مقاومات ومواجهات لإسرائيل على الأرض اللبنانية بهويات مختلفة وبرامج متباينة وبمرجعيات داخلية وخارجية متنوعة.
إن القصد من هذه العودة إلى الوقائع التاريخية السابقة والأسبق هو ربط الموقف من سلاح حزب الله راهناً بالإطار البانورامي الأوسع الذي يجعل مناقشة مصير هذا السلاح أوسع بكثير من الحجج التي يتبادلها الطرفان المتصارعان حول شرعية أو لا شرعية السلاح المشار إليه. لذا فإن الضرورة تقضي بجعل السجال الإيجابي حول مصير سلاح حزب الله أعمق بكثير من الحيثيات التي يسوقها الحزب دفاعاً عن هذا السلاح، وأهم بكثير من المرافعات التي يكررها خصومه هجوماً على السلاح ذاته.
وفي ذلك كله تكمن شروط النجاح في صوغ توجهات لبنانية جامعة يمكن التوصل في ظلها إلى حلول تنهي الوظيفة الاستثنائية لسلاح حزب الله، وتطلق الاجتماع اللبناني من عقاله بعد ما طال تعليقه على غير منطق أو مسوغ في ظل تحقيق معركة تحرير الأرض اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي الشطر الأكبر والأهم من إنجازها الجوهري.
سابعاً ـ توقف المؤتمر العام الثالث مجدداً أمام قضايا الوضع التنظيمي في سياق تجديد الملاءمة بين التدابير والتوجهات المطروحة في اللائحة النظامية الداخلية، وبين واقع حال المنظمة في مختلف الميادين.
وفي هذا المجال قرر المؤتمر العام الثالث الاستمرار في اعتماد اللائحة النظامية الانتقالية التي أقرها المؤتمر العام الثاني في 30 تشرين الثاني 2009. ولم يجد من ضرورة لأي تعديل في أحكام هذه اللائحة، سوى إعادة النظر بملحقها الذي يحمل عنوان: “نحو عضوية حزبية نامية تحت راية التجديد اليساري”، لأنه يبدو اليوم غير ذي موضوع، على أن يعمل به مستقبلاً عند توفر المادة التنظيمية اللازمة لتطبيقه.
وتوقف المؤتمر أمام الدور القيادي الخاص للأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان انطلاقاً من الإشارات التي وردت في قرارات المؤتمر العام الثاني حول هذا الموضوع، وفي اتجاه إزالة أي التباس أو خلط غير موضوعي بين دور الأمين العام قائداً لعمل المنظمة في حدود إنتسابها اللبناني وحجمها وطاقتها ومتطلبات مسيرتها الحزبية فكرياً وسياسياً ونضالياً، وبين دور الأمين العام معطوفاً على مساهمته التاريخية في المسيرة الأعم لليسار العربي (واللبناني ضمنه) ولحركة التحرر الوطني العربية عموماً والحركتين الوطنيتين اللبنانية والفلسطينية خصوصاً.
ولقد ناقش المؤتمر العام الثالث هذه المسألة مجدداً انطلاقاً من مساهمات وافية قدمها الأمين العام نفسه في هذا المجال. وحملت هذه المساهمات دعوة إلى التمييز بين الاعتبارات التي يجب أن تحكم دور الأمين العام في إطار موقعه الحزبي ضمن المنظمة، وبين تلك التي تفرض نفسها حين يكون الأمر متعلقاً بمسؤولية الأمين العام عن تتويج مسيرته المديدة ضمن إطار اليسار العربي وحركة التحرر الوطني العربية.
ففي ممارسة دوره الضروري ضمن المنظمة لا بد من اجتناب أي تضخيم لما يستطيعه الأمين العام حيال مسيرة المنظمة، لأن معادلات العمل الحزبي لا تحكمها كفاءة المسؤول الأول وحده، بل تقررها أساساً محصلة الوزن الجماعي للعمل الحزبي. مما يعني أن دور الأمين العام في المنظمة يكون مجدياً إذا هو انطلق من حسن الانضمام المؤثر إلى المحصلة الحزبية الجماعية، ومن الاضطلاع بمسؤولية السعي إلى ترقيتها انطلاقاً من إمكانات الوضع الموضوعي وضوابطه. أما الصيغ التي تنزلق إلى تصور أي مشروع حزبي قائماً على كفاءة فرد وعلى انضمام الجماعة إلى جهود الفرد فإنها تضرب في الفراغ ولا تؤدي إلا إلى لون من المراوحة خارج أي إنتاج حقيقي أو نجاح ملموس. وفي اضطلاعه بمسؤوليته عن تتويج مسيرته الفكرية والسياسية والنضالية، ضمن المدى اللبناني ـ العربي الأعم والأوسع، بما يمكن أن يقدم جديداً ومفيداً على هذا الصعيد، لا بد أن يبذل الأمين العام كل الجهد الضروري للإدلاء بشهادته الوافية حول ماضي العمل اليساري وقضاياه ـ لبنانياً وعربياً ـ بمستوى من العمق يرشحها للمساهمة الملموسة في زيادة رصيد الوعي اللازم لدق أبواب مستقبل مختلف لليسار العربي عموماً واليسار اللبناني خصوصاً. وغني عن القول أن هذا الجهد يرتد إيجاباً على مسيرة المنظمة بمختلف جوانبها.
9 كانون الأول 2012 المؤتمر العام الثالث
لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان
ــ ملحـق ــ
نص الإعـلان الفـكري السياسـي على لسان الأمين العام للمنظمة
في ذكرى أربعين الشهيد جورج حاوي: حول الحراك الطوائفي وشرعة النضال من أجل العلمانية
ربما يكون أفضل ختام لهذا العرض الشامل لمعالم التجديد الفكري ـ السياسي الذي تصاعد مساره في منظمة العمل الشيوعي خلال عقدين، أن نثبت هنا نص الكلمة التي ألقاها الأمين العام للمنظمة في ذكرى استشهاد القائد جورج حاوي في السابع من آب عام 2005، وهي الكلمة التي جمعت بين الوقوف أمام الحركة الوطنية اللبنانية نشأة وبرنامجاً ونضالاً وبين النقد الذاتي الشجاع لما كان من أخطاء في تجربتها المجيدة والفريدة.
قال محسن إبراهيم في كلمته أمام حشد المناضلين والرفاق الذين التقوا تكريماً للشهيد جورج حاوي:
قبل ثمانية وعشرين عاماً وقفت، في هذه القاعة بالذات، متحدثاً باسم المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية اللبنانية، في اليوم الأربعين لإستشهاد قائدنا ورئيسنا وفخر تاريخنا الديمقراطي، شهيدنا الأكبر كمال جنبلاط. ومنذ ذلك اليوم وأنا وجورج حاوي لا ندري من منّا يمكن أن يسبق الآخر شهيداً على كثرة ما مر بنا من أيام حوالك. وها هو يسبقني، كعادته عندما يتعلق الأمر بالتسامح في حساب المجازفات. وها أنا أقف اليوم بينكم وقفة تأبين حارقة لرفيق الدرب الأعز، وصديق العمر الأقرب، وزميل الشدائد في كل موقعة وفي كل زمان ومكان.
وبعد، لا يستقيم تكريم شهيدنا الذي نجتمع اليوم في أربعينيته الاّ بإعادته وبالعودة معه إلى الزمن التأسيسي الأول للمسيرة النضالية الطويلة لهذا القائد الشيوعي الشجاع. إنه زمن المخاض الكبير والعسير في حركة التحرر العربية على امتداد ستينات القرن الماضي والنصف الأول من سبعيناته. في ذلك الزمن الصاخب نشأ جورج حاوي في قلب الحزب الشيوعي اللبناني ليباشر منذ منتصف الستينات دوراً قيادياً بل ريادياً في اتجاه حث الخطى نحو إنضاج مقومات حركة يسارية لبنانية بدأت تتجاوز، أفقاً وحجماً وزخماً، كل الاقفاص التنظيمية التي حبستها كثيراً وطويلاً. لقد كنا في تلك الأيام أمام حراك خصب طاول الروافد الثلاثة لبيئة اليسار اللبناني الآخذة في الاتساع. كنا أمام علمنة في اليسار التقدمي الاشتراكي راحت تشتد وضوحاً وتتعمق حسماً أكثر من أي وقت مضى. وكنا أمام تعريب لليسار الشيوعي اللبناني ـ الاممي فريد في بابه على امتداد المنطقة كلها. ثم كنا أمام لبننة لليسار القومي العربي في لبنان أحدثت فتحاً جديداً في إرساء نقطة التقاطع والتوازن بين الوطني والقومي ضمن خارطة عربية كانت ألوانها وشواخص حدودها تتبدل على غير إنقطاع، وهو ما نشات في امتداده منظمة العمل الشيوعي في لبنان مطلع السبعينات.
هكذا تأسست نهضة لليسار اللبناني تجاوزت بكل المقاييس وفي جميع الميادين كل حقباته النهضوية السابقة. ومن حق جورج حاوي علينا أن نقرر اليوم أنه لم يكن فقط الإبن الشرعي لهذه النهضة اليسارية، بل كان واحداً من أبرز صناعها الكبار. لقد انخرط أبو أنيس، منذ اطلالاته الحزبية الأولى، ضمن تيار التجديد في صفوف الحزب الشيوعي، وحين تقدم من ثم حشد المجددين الشيوعيين كان سلاحه الأول والأهم دعماً حازماً تلقاه من زملائه ورفاقه ومناضلي حزبه. وإلى ذلك تضاف رعاية إستثنائية خصه بها كمال جنبلاط وكنت مع رئيس حركتنا الوطنية شاهداً على جميع وقائعها ويومياتها ومساهماً في كل مبادراتها الوفية.
ومن التجديد في الحزب الشيوعي اللبناني، إلى الدور البارز في بناء الحركة الوطنية اللبنانية، ثم إلى الدور في إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، حلقات ثلاث مترابطة الطموح امتد على مساحاتها الفسيحة الزمن التأسيسي الأول والأهم في المسيرة القيادية الغنية لجورج حاوي. ومن طروحات ذلك الزمن ومن تجاربه ودروسه، نجاحاً وإخفاقاً، إنبثقت ثوابت جورج حاوي التي أود أن أشهد اليوم أنها لازمته حتى النفس الأخير، على رغم أنه كان الأجرأ بيننا في التجريب، والأكثر إقداماً على التغيير في الأداء، والأسرع في التنقل بين محاولات الإنجاز، صغر الإنجاز أم كبر، على غير كلل أو فتور.
ولا يتسع الوقت المتاح لتكريم شهيدنا اليوم أن نقف أمام كل ما كان من إنجازات الحركة الوطنية اللبنانية وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وقد شكلتا متصلتين رهان عمره الأكبر. لقد كنا معاً ثنائياً عمل تحت قيادة الشهيد كمال جنبلاط، ويكفينا فخراً أن نقول اليوم، ونحن في مجال تكريمه، أن الحركة الوطنية اللبنانية التي إليها انتسب لم تقدم للبلد، في ذلك الصيف الحارق من عام 1975، مجرد نص برنامجي شهد الجميع بتقدمه واستنارته، بل هي قدمت أولاً وأساساً ممارسة غنية حركت وأطلقت تياراً شعبياً زاخراً عابراً لكل المناطق ولجميع الطوائف، احتشدت ضمن شوارعه كتل اجتماعية شتى في وحدة مطلبية متصلة الأواني من دون افتعال. وحين كان على هذه الحركة الوطنية أن تشتق من وقائع ممارستها المديدة، خلال كل الستينات والنصف الأول من السبعينات، برنامجاً يخاطب مصالح البلد ويلبي حاجاته خرجت بما يمكن اعتباره أبرز وأهم برنامج نهضوي في تاريخ لبنان الحديث. وفيه تلازمت مفاهيم وقضايا عانى اللبنانيون من افتراقها زمناً طويلاً: الاستقلال الوطني الحاسم بما هو حق صريح لشعب لبنان بعيداً من أي مركب نقص أو من الاختناق بين جدران العزلة وأساطيرها، والعروبة الثقافية والسياسية المستنيرة بما هي أفق حيوي لبقاء لبنان نقيضاً لكل إستبداد، والديمقراطية المسيجة بالعلمانية الرحبة محط أمان وتفتح، والمسلحة بالقاعدة الاجتماعية العابرة للطوائف ولجغرافياتها الضيقة ضمانة ومرجعاً. وإلى ذلك يضاف نبض لبناني مع فلسطين يعرف أصحابه جيداً ما بين لبنان وإسرائيل من صراع مصير، ويدركون تماماً أن الشعب الفلسطيني إذ يرابط منذ قرن من الزمان على خط المواجهة الأمامية لأعنف غزوة كولونيالية إستطانية، مستمرة متسعة، تعرضت لها المنطقة العربية وما تزال، لا يدافع عن وجوده الوطني فحسب، بل هو يحجز ويضبط ـ وسع طاقته ـ خطراً يتهدد كل أرض الجوار العربي لفلسطين. لذا اعتبرت الحركة الوطنية اللبنانية دعم نضال الشعب الفلسطيني قضية وطنية تخص لبنان مثلما يجب أن تخص كل بلد عربي تضعه إسرائيل ضمن استهدافاتها المباشرة وغير المباشرة.
هل تراني في هذا التقديم التكريمي لما كان عليه دور الحركة الوطنية اللبنانية وبرنامجها، وقد ساقني إليه واجب تكريم جورج حاوي بصفته أحد بناتها الكبار، هل تراني أردت الإفلات من مسؤولية النقد الصريح لما كان من أخطاء هذه الحركة الوطنية وبعضه كان قاتلاً؟ كلا بالتأكيد، فليس هذا نهجي ولا هو نهج رفيق دربي أبي أنيس. واذا كان ثبت الأخطاء هنا يطول فإنني أكتفي بإيراد إثنين منها كان ضررهما عظيماً على الحركة الوطنية اللبنانية وعلى البلد في آن.
الخطأ الأول: إننا في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وإنصافاً.
والخطأ الثاني: إننا استسهلنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم إختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي. فكان ما كان ـ تحت وطأة هذين الخطأين ـ من تداعيات سلبية خطيرة طاولت بنية البلد ووجهت ضربة كبرى الى الحركة الوطنية وفي القلب منها يسارها الذي كان واعداً في يوم من الأيام.
وأسوق مجدداً هذا النقد الذاتي الواضح باسم رفيقي جورج وباسمي على رغم أننا لم نسمع حتى اللحظة ما يعادل هذا النقد وضوحاً أو يلاقيه صراحة من الضفة الأخرى، أو من أي ضفة. فمتى تصبح للبلد ذاكرة نقدية مشتركة نستطيع أن نستلهم منها معادلة لبنانية شاملة ترسي ثوابت صون الموقع الإقليمي للبلد من ناحية وتحدد أصول الصراع حول مستقبل نظامه السياسي من ناحية ثانية؟
أما عن جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي أطلقنا نداءها سوياً يوم السادس عشر من أيلول 1982 وأعطاها أبو أنيس، إعلاناً ومتابعة ورعاية، كل ما يملك وكل ما تستحق، فكانت بحق حدثاً تأسيسياً لا نظير لأهميته في تاريخ اليسار اللبناني وفي مجرى العمل الوطني اللبناني. لقد كان لبنان ساح قتال مع إسرائيل نصرة للقضية الفلسطينية منذ عام 1968، لكن لبنان دخل مع قيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية مرحلة الدفاع عن نفسه في مواجهة إسرائيل بمحركات لبنانية، وتحت راية لبنانية، وبسواعد وبنادق لبنانية، ومن أجل حماية السيادة والسياسة والأرض والمياه اللبنانية.
وبعد، لا يكتمل نصاب الكلام في تكريم القائد والمناضل الشيوعي جورج حاوي من دون المرور بكلمات على لحظة العسر الشديد التي يعيشها لبنان اليوم تحت وطأة حراك طوائفي لم تواجه البلاد مثيلاً له من قبل، سواء لجهة انفلاته السياسي من كل عقال، أو لجهة اكتساحه كل مساحات البنية اللبنانية، ومحاصرته جميع بؤر الحداثة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي كانت تحققت للبنانيين بجهود شاقة بذلوها على امتداد عقود عسيرة من الزمن.
لقد فوت هذا الحراك الطوائفي العارم على البلد فرصة تحويل التخلص من قيد الهيمنة السورية الرسمية الثقيل على مقدراته إلى إنجاز استقلالي جامع يخطو بالوطنية اللبنانية مسافة جديدة نحو النضوج التوحيدي. فإذا بنا أمام قراءات لدلالات الانسحاب السوري، ونظرات إلى نتائجه على المستقبل اللبناني، متعددة تعدد الضفاف الطائفية بل المذهبية المتواجهة من خلف حواجز القسمة الموروثة. وهو نفسه الحراك الطوائفي الذي كان ابتلع وئيداً، ولكن حثيثاً، معظم مفاعيل التحرير العظيم للجنوب اللبناني من نير الاحتلال الإسرائيلي، لتضيع على اللبنانيين هنا أيضاً فرصة كانت مأمولة لإغناء وطنيتهم الجامعة بمضمون إضافي يجعل من بنيانها في الزمان والمكان إنجازاً متصل اللحظات متتابع الحلقات كما هي حال كل الوطنيات الحية والعريقة. ويزداد الأمر قتامة حين نتذكر ونرى أن سلبيات الحراك الطوائفي الصاخب تجعل البلد اليوم أكثر انكشافاً أمام ضغط خطة التدويل الأميركي التي تريد من اللبنانيين – باسم الدعوة إلى استكمال تنفيذ القرار 1559 ونزع سلاح المقاومة – الانزلاق نحو ارتجال سلم مع إسرائيل لا صلة له البتة بأي مصلحة وطنية لبنانية، ولا وظيفة فعلية له سوى استكمال حلقات التلاعب بمصائر بلدان المنطقة العربية.
وإذ ننطلق، في استهوالنا لسلبيات الحراك الطوائفي الذي يأخذ بتلابيب الوضع اللبناني اليوم، من موقع الدراية الشديدة بمدى رسوخ البنية الطائفية في مفاصل نظامنا السياسي بل في مجمل حياتنا الوطنية، لا نرى ـ مع ذلك ـ بديلاً من القول وبأعلى النبرات أنه إذا كان المستقبل العلماني للبنان صعباً حقاً، فإن مستقبله الطائفي مستحيل أساساً. فهل يمكن أن نبقي بلدنا رهينة مستقبل مستحيل؟
وإذ لا نستسهل أبداً أمر الوصول إلى علمانية تفتح كهوف البلد لأنوار التحديث، ندعو أنفسنا وكل اليسار ـ وهو المعني قبل غيره بالنضال العلماني أساساً ـ إلى وعي جملة حقائق أهمها أن إنجاز العلمانية بانقلاب أو بمرسوم هو مجرد سراب لا يجدي الركض خلفه وهماً، وأن تحقيق العلمانية بسلطة الاستبداد هو بديل أسوأ من الطائفية على سوئها الفادح، وأن العلمانية لا تقوم ولا تستقيم ولا تتحول إنجازاً عصياً إلا بنضال شاق من أجل بناء كتلتها الاجتماعية الراجحة الوزن في ميادين السياسة والثقافة ومؤسسات الانتظام المدني الاجتماعي الحديثة، وهي لا تتحول أخيراً من نوابض اجتماعية منتشرة حاشدة إلى نظام سياسي وطيد إلا باستفتاء اللبنانيين على مصيرهم في هذا المجال بكل الحرية الواجبة والمسؤولة. فهنا أيضاً لا يمكن أن يقاد اللبنانيون حتى إلى جنة العلمانية بالسلاسل”.
أما بعد،
وإذ لا يمكن الاسترسال أطول وأكثر، في مجالنا الضيق اليوم، مع دفق عاطفة التكريم وسيل خواطر التقدير لعطاءات شهيدنا جورج حاوي، فإنني أختم كلمتي بتحية حميمة لمن سوف يبقى في البال أبداً.
يا أبا أنيس، يا شهيد الشيوعيين والديمقراطية، يا شهيد كل الوطنيين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب، سلام عليك.
سلام عليك كلما طلع الصبح على مقاوم يحمي السيادة والحدود، وكلما احتضن الليل مناضلاً هده التعب من أجل الحرية للشعب والعدالة للناس.
سلام عليك ما دام لبنان يملك ذاكرة حية تضع الكبار من مناضليه وشهدائه على القمم التي يستحقون.
بيروت في 7 آب 2005