رغم أن مقررات مؤتمر بعبدا عام 2013، أُقرت نتيجة حوار شاركت فيه مختلف قوى السلطة وأطرافها، بناء لدعوة رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان، وتضمنت نصاً على النأي بلبنان عن أزمات دول الجوار، وقد صنفها مجلس الأمن الدولي بالإجماع وثيقة صادرة عنه وضمانة للمصلحة الوطنية اللبنانية. لكن الإنقلاب عليها كان سريعاً بالنظر لرهانات اصحاب مشاريع الهيمنة الطائفية في الداخل على مصير النظام في سوريا، وارتباطاتها بمحاور الدول والأنظمة المشاركة والمتدخلة في أزمات المحيط المتفجرة. وعليه تحول “النأي بالنفس” إلى مقولة تضاف إلى أرشيف الشعارات التي تُستحضر عند الحاجة من هذا الطرف أو ذاك.
ولأن البلد استمر ساحة مرتهنة للخارج يتصارع فيها بقوى السلطة المرتهنة له، ولأنه دخل مرحلة التفكك والفوضى الأهلية التي تهدد بالانفجار جراء الحصار الخانق الناجم عن الإرتهان للخارج ومحاوره، بالتوازي وعجز رئيس الجمهورية عن تنظيم طاولة حوار بين قوى السلطة وأهل النظام، كانت دعوة بطريرك الموارنة للحياد.
استحضر البطريرك مقولة “حياد لبنان” مع بعض الإضافات التجميلية، ومثله فعل المفتي الجعفري الممتاز في رده الرافض لها. وكلاهما صدى لمواقع الطائفيات السياسية المحاصرة بالأزمات. ولم يختلف عنهما رجال الدين الذين أيدوا أو شككوا، ومعهم أولئلك الذين يمتهنون ثقافة التخوين من كل الضفاف. وإذا كان الأمر انعكاس لأزمة الكيان والهوية والفشل في بناء دولة مؤسسات، والتفريط بالسيادة بذرائع متنوعة، وتعطيل بناء قاعدة اجتماعية تستند إلى مصالح جامعة بديلاً عن إعادة انتاج الانقسام الأهلي الذي رافق تأسيس الكيان. فإن مبادرة البطريرك ورفضها في آن هما صدى لمأزق القوى التي تتصارع حول مشاريع الهيمنة التي تبرر وجودها وبرامجها وشعاراتها وأدوارها، واستعمال الخارج لها وللبلد في آن بعيداً عن المصلحة الوطنية الجامعة.
من الصعب بل المستحيل العثور على تعريف جامع لدى أي من تلك القوى للمصالح الوطنية اللبنانية، لأن الإشكاليات التي رافقت تأسيس الكيان قبل مائة عام لا تزال حاضرة. فالكيان تشكل وفق صيغة نظام لتقاسم الحكم والسلطة، وهي الصيغة التي لا يزال جوهرها قائما ومستمراً، وهي التي يستحيل أن تبني دولة وتوحد مجتمعاً أو تضمن استقراراً أو تعالج أزمات، لأنها ردائف تنطلق من مبدأ المحاصصة الطائفية ورفض المساواة بين اللبنانيين. وهذا الذي جعل البلد أسير مسلسل صراعات أهلية تتجدد مع تبدل المعطيات التي تخل بتوازنات الداخل أو الخارج المستعان أوالمستقوى به، أو بين الرهان عليه اوالارتهان له من هذا الطرف أوذاك.
في ضوء نتائج الصراعات ليس مستهجناً تناحر القوى الراهن، بين أوهام استعادة هيمنة وامتيازات مارونية، كان لها سياقها التاريخي ومقوماتها السياسيةً والاقتصادية والإدارية والثقافية المتراكمة عبرعقود طويلة من الزمن، ومن خلال رهانات تتنقل بين الدول والأنظمة بلا محرمات يستوي في ذلك القريب والبعيد والعدو والشقيق. أو محاولات تأبيد نفوذ طائفي نشأ وتكرّس في ظل الإنقسام والحرب الأهلية، بدعم إيراني ورعاية النظام السوري أثناء مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، والاستمرار في الارتهان لهما، بالاستناد إلى قوة السلاح ، ما اخرج الطائفة من قمقم التهميش والالحاق إلى مراتب الشراكة في الحكم والسلطة والتحكم بهما.
وإذا كانت المارونية السياسية، بقواها وتشكيلاتها المتعاقبة لم تعمل على ارساء مقومات دولة المؤسسات الحديثة، وفرطت بالسيادة بذرائع متنوعة وحاربت مشاريع الاصلاح، وأعاقت تطور بنى المجتمع نحو تجاوز الانقسام الأهلي، ما أدى إلى انهيار هيمنتها. فقواها الحاكمة راهناً لم تزل مقيمة عند خطوط التماس المتعلقة بالصيغة الطائفية ووهم استعادة الصلاحيات المفقودة، رافضة أي محاولة للخروج عليها وسط اصرار على تجاهل المتغيرات في ميادين الاجتماع والاقتصاد، والتحصّن بالانغلاق، في محاولات يائسة للعودة إلى الوراء.
أما الطرف الآخر المتمثل بالثنائي الشيعي، ورغم التباين الضمني والاختلاف بين جناحيه في النظر إلى الكيان وموقعه العربي والاقليمي، فإنه لا يقل سعياً للإستئثار والتفرّد في السلطة والحكم ، منطلقاً من الصيغة الطائفية ذاتها وقد تبدلت معادلاتها وفق تسوية الطائف، التي أقرت برعاية دولية عربية بالاستناد يومها إلى توازنات الحرب الأهلية. وإذ يرتكز الثنائي على مقولة الجيش والشعب والمقاومة وحصانة السلاح والارتباط بالمحور الايراني السوري، فإن مشروع بناء الدولة والمؤسسات لا مكان له في جدول اعماله أو مشاريع هيمنته.
وأزمة المواقع الطائفية الأخرى ليست أقل حدة. فليس تفصيلاً أن يصادر تحالف رئاسة الجمهورية وحزب الله موقع رئاسة الحكومة، في امتداد مأزق التيار الرئيسي للسنة، الذي خرج من الحكومة نتيجة فشل رهاناته وعجزه عن الوفاء بتعهداته للخارج. وهو راهناً يتأرجح بين الرهان على فشل الحكومة ونتائج حروب المحاور الدولية والاقليمية، عله يستعيد مواقع أو أدوار وشراكات كانت له. في وقت تجهد الزعامة الدرزية القلقة لحماية الطائفة من المخاطر التي تهدد وجودها، في ظل العواصف الهوجاء المقيمة والزاحفة على كيانات الجوار العربي.
وبما أن وضع لبنان لا يُقرأ إلا في امتداد مسارات الوضع الإقليمي المحيط ونزاعاته المتفجرة، في ظل تبدل طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني، إلى استراتيجيات حروب الوكالات الطائفية والمذهبية التي تقودها أنظمة مرجعية في كل من إيران وتركيا، برعاية ومشاركة أميركية ودولية وتدخل اسرائيلي، إمعاناً في تفكيك الكيانات الوطنية القائمة تمهيداً لإعادة النظر بخرائطها، ما يسهل معه تصعيد الحصار الاسرائيلي الاميركي ضد الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته الوطنية.
ومع تصاعد الانهيار البنيوي الشامل وولوج لبنان مرحلة الفوضى الأهلية والأمنية، وإبقاء البلد ساحة في ظل انعدام الأهلية الوطنية لدى أركان الحكم وقوى السلطة، في التعامل مع مترتباته المتصاعدة، والإستمرار في اعتماد السياسات والممارسات المدمرة ذاتها، ورفض الاستجابة لمطالب اللبنانيين الاصلاحية، وإدارة الظهر لشروط الخارج وعدم تنفيذ التعهدات الاصلاحية في سبيل فك الحصار المالي والاقتصادي والسياسي، ومع تزايد التهديدات والمخاطر الاسرائيلية، يصبح مشروع الحياد والدعوة له أمراً مفهوماً من أصحابه.
وإذا لم يكن الحياد متصلاً بالمصالح الوطنية هوية وانتماءً، وحصيلة حوار وتوافق داخلي، فإن محاولات استحضاره من الخارج لا يجعله احتمالاً ممكناً أو واقعاً قائماً، بل يبقيه طرحاً مستحيلاً، ويحوله دعوة لتصعيد الإنقسام وفتح نوافذ عودة الإقتتال، والمزيد من الارتباط بحروب المحيط ومحاورها، وتشريع أبواب الداخل أمام نيرانها.
هل من حكماء يتعظون من التجارب والأخطاء؟ سؤال صعب والجواب عنه أصعب!.
[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]