اقتصاد

طريق الإصلاح وسط الصعوبات المتداخلة

هذا عدا الإستهانة بانتفاضة تشرين المجيدة، وتحركات اللبنانيين التي ملأت ساحات الوطن على امتداد أشهر، بعدما استخدمت في مواجهتها كل ما يحتشد في ترسانتها من أسلحة ووسائل قمع وتضليل واختراقات سياسية وأمنية، إضافة للتخوين وابتزاز المواطنين في معاناتهم وحاجاتهم وابسط حقوقهم.

بصرف النظر عن استقالة وزير الخارجية وبيانه، يبقى من العبث البحث عن الإصلاح المفقود في أروقة السلطة ودهاليز قواها، ومثله أيضاً انتظار الخارج كي يحقق للبنانيين مطالب إصلاحية أو يقيم لهم دولة فعلية. وليس سهلاً فرز الحقيقة عن التضليل حول أسباب رفض قوى السلطة تحقيق المطالب المزمنة، أوعدم تنفذها بنود الإصلاح التي تشكل لازمة في برامج احزابها، والإمعان في تجاهل شروط الدول والمؤسسات الخارجية للدعم والمساعدة. علماً أن الرفض والتجاهل هما موضع إدانة، لأن أهل السلطة والحكم جميعاً يتحملون كامل المسؤولية عما آل إليه حال البلد. وما تكرار الحكومة رئيساً وأعضاءً الحديث عن المؤامرة والإنجازات، إلا مزيد من الاستخفاف بعقول اللبنانيين، الذين يتابعون مهازل التعيينات والصفقات والتهريب والنهب لأموال الدولة والمودعين من قبل سلطة غير مسؤولة وطنياً بكل المعاني.

والأسئلة كما القضايا والمطالب لا تُعد ولا تُحصى، تبدأ من  ملفات الوضع المعيشي والصحة والتربية والسكن وسائر الخدمات، مروراً بالاقتصاد والصناعة والزراعة والبيئة، إلى شؤون الضمان وحقوق جميع فئات المجتمع ومشكلات البطالة والفقر، إنتهاءً بالسياسة ومصير البلد وعلاقاته بمحيطه والإنقسام الأهلي والحصار المالي والخطر الإسرائيلي، وغيرها الكثير من الأزمات والمشكلات  التي يستحيل التصدي لها من قبل المسؤولين.

ولإن للخارج سياسات ومصالح، فإنه يتعامل مع البلدان والمجتمعات المأزومة كميادين للاستثمار السياسي والاقتصادي والأمني. ولذلك تُرسم المخططات وتُحدد الشروط والتسهيلات لتمرير الصفقات والمشاريع الاستثمارية، التي غالباً ما تتحمل تبعاتها وتدفع أكلافها المجتمعات، مقابل مكافآت ورشاوى ودعم للحكام والشركاء والوسطاء. يستوي في ذلك الدعم السياسي والاقتصادي والمالي والعسكري. وبناءً عليه تُحدد الجهات التي تحظى بالدعم وطبيعته، سواء أتى من أميركا ودول اوربا والخليج العربي أو من إيران وتركيا وروسيا وغيرها. ونتائج زيارة وزير الخارجية الفرنسي وكموفد دولي عربي، أكدت بفجاجة، أن القروض مرهونة بتنفيذ “الإصلاحات” و”النأي بلبنان” عن أزمات المنطقة، ضمانة لها. وإلا فالهاوية تتنظر اللبنانيين والحكام مسؤولين، وأن فرنسا كما غيرها ستكتفي بدعم المؤسسات ذات الصلة بمصالحها.

وإذا كان انتظار الاصلاح والحلول من الخارج من الأوهام، فإن استجابة قوى السلطة طوعاً لتحقيق مطالب اللبنانيين المحقة هي من الخيال. ولا يختلف عنهما إعتقاد البعض أن قوى السلطة تفتقد الرؤية لمعالجة الأزمات الناجمة عن سياساتها وممارساتها، وقد أصبحت ميادين استثمار، أو أنها تبحث عمن يقدم لها برامج ومشاريع حلول. والذين يعتقدون ذلك وبصرف النظر عن تشكيلاتهم الحزبية أو المهنية، يقيمون عند وهم استدعائهم للاستعانة بهم، وتكليفهم تنفيذ ما أعدوه من أوراق عمل واقتراحات ومشاريع قوانين وبيانات وزارية بديلة تنقذ السلطة من “عجزها وفشلها”. لكن  مأساتهم أن الحقيقة غابت عنهم، لأن قوى النظام تعرف مصالحها جيداً، وتدرك كيف تحصّنها وتدافع عنها بكل الأسلحة المتاحة لها، وهي كثيرة، وأن حاجتها لهؤلاء لا تتعدى التضليل والتغطية.  أما الثابت لديها فهو التزام السياسات التي أثبتت فعاليتها وجدواها في تكريس سلطتها ونفوذها بالاستناد إلى صيغة نظام المحاصصة الطائفية القائم بصرف النظر عما يثيره من خلافات وصراعات ضمن الصف الواحد.

أما حصيلة جهد تلك التشكيلات والأطر من مجموعات ومراكز دراسات وأبحاث وخبراء، فهي أكوام من الأوراق والدراسات الثمينة التي تحال إلى الأرشيف.  في المقابل تستمر الطبقة السياسية بجميع مكوناتها الحالية والسابقة والأسبق، في الإستهتار والإستخفاف بكل التحذيرات التي تتكررعلى ألسنة الداخل والخارج على السواء. هذا عدا الإستهانة بانتفاضة تشرين المجيدة، وتحركات اللبنانيين التي ملأت ساحات الوطن على امتداد أشهر، بعدما استخدمت في مواجهتها كل ما يحتشد في ترسانتها من أسلحة ووسائل قمع وتضليل واختراقات سياسية وأمنية، إضافة للتخوين وابتزاز المواطنين في معاناتهم وحاجاتهم وابسط حقوقهم.

ولأن جميع قوى السلطة تتحمل معاً كامل المسؤولية عن الإنهيار بكل مندرجاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدفع  بالبلد وأهله نحو الهاوية والفوضى الكاملة، فإن المطالب الاصلاحية والمعيشية وكل ما يتصل بالتغيير وبناء دولة المؤسسات والمواطنة وما يتفرع عنها ويتصل بها، هي أولاً وأساساً، لم ولن تتحقق وتتحول أمراً واقعاً إلا عبر مشاركة اللبنانيين في النضال من أجلها وفي سبيلها. فهم أهل القضية وأصحاب المطالب الذين يدفعون الأكلاف ويتحملون الضرر ويواجهون الصعاب، ولن يحققها لهم الآخرون.

لقد أثبتت التجارب أن قوى النظام لا تغِّير سياساتها إلا قسراً، وأن المطالب تؤخذ بالنضال ولا تُعطى، وأن مسارات التغيير صعبة ومعقدة وطويلة ولا تسير وفق خط مستقيم. أما التبسيط  والاستسهال وإدمان التحركات واختزال المجتمع، فهي أقصر الطرق لليأس وفقدان الثقة. ودروس الانتفاضة خير معلم إذا أحسنّا الاستفادة منها.

وعليه فإن معركة استعادة الثقة تبدأ بعدم تكرار التجارب الفاشلة، والمبادرة لاستحضار قضايا ومطالب فئات المجتمع بهدف إشراكها في النضال من أجل مصالحها في سياق مسار حقيقي لإعادة بناء الكتلة الاجتماعية من بوابة مصالحها، وإلا لن يتجدد الأمل بإمكانية التغيير الحقيقي.

[author title=”المحرر السياسي” image=”http://”]المحرر السياسي[/author]