خاض أساتذة الجامعة اللبنانية معركة استمرت 7 اسابيع، من 7 أيار إلى الأول من تموز 2019، رفضاً للمس بموازنة الجامعة وبصندوق التعاضد لأفراد الهيئة التعليمية، واستثناء الجامعة من المادة 90 في مشروع الموازنة، ومطالبة بإضافة 5 سنوات على سن التقاعد وغيرها من عناوين تلقوا وعوداً بشأنها من السلطة السياسية. لكن هذه المعركة انتهت من دون أن تشكل قاعدة تعيد الاعتبار للموقع الاستقلالي للجامعة وللحركة النقابية فيها، وإن كانت أثبتت إمكان النهوض بالحركة النقابية التعليمية بعيداً عن الهيمنة السياسية والطائفية، لا بل كسر سيطرتها وإطباقها على الجامعة.
جاء قرار الإضراب المفتوح الذي أعلنته الهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة، سريعاً رداً على ما اعتبر استهتاراً من السلطة بشؤون الجامعة، وذلك خلال جمعية عمومية شارك فيها عدد من المتفرغين والمتعاقدين، إلى أن ينجز مشروع الموازنة في مجلس الوزراء. لكن رابطة المتفرغين استمرت بالإضراب حتى بعد إحالة المشروع إلى مجلس النواب، من دون أن تقيّم التحرك وتعيد هيكلته ومده بعناصر دفع بالعلاقة مع الطلاب والرأي العام. وعندما تبين أن الإضراب بدأ يضر بالطلاب وبمستقبل العام الجامعي، وجد الأساتذة بأن حصار الجامعة وأزمتها يكمن في داخلها، أولاً بطريقة تعامل السلطة ليس مع مطالب الأساتذة فحسب، إنما مع الجامعة ككل، من دون أن يتمكنوا من صوغ برنامج يستطيعون أن يخوضوا من خلاله معارك مطلبية وأكاديمية أيضاً تحمي الجامعة من السلطة التي لا ترى فيها إلا مكان توظيف وتنفيعات.
تمّ تعليق الإضراب بعد مخاض تداخلت فيه المزايدات النقابية والسياسية والحزبية، وبينما تبين أن الجسم الجامعي الأكاديمي منقسم على نفسه، خرجت مجموعة من الأساتذة بينهم عدد من المستقلين وقدموا أنفسهم كمنقذين للجامعة، واستفادوا من صراعات القوى السياسية والطائفية المهيمنة على الجامعة، لكنهم بدلاً من تأطير التحرك وتقويمه وقياس الجدوى واحتساب الخسائر والأرباح، راهنوا على إمكان تحقيق المطالب بالاستمرار في الإضراب من دون أفق، حتى جاءت مبادرة وزير التربية والتعليم العالي أكرم شهيب لتقدم مخرجاً لمسار التحرك كله، حتى من دون انجازات باسثناء الحيوية التي ظهرت في الجسم التعليمي ، لأن تحقيق مطالب الأساتذة لا يحل مشكلة الجامعة وينهي أزمتها، وكذلك المساهمة في إعادة بناء الحركة الطالبية الديموقراطية المستقلة.
لم تستطع القوى السياسية والطائفية في السلطة، الهيمنة على حراك الأساتذة، رغم الضغوط التي مورست ضدهم. لكن هذه القوى نجحت مع السلطة بمنع تحويل الحراك إلى حالة ديموقراطية قادرة على الفعل، فاستغلت نقطة الضعف الرئيسية المتمثلة بعدم قدرة الوليد الناشئ على تاسيس حركة مستقلة، وكذلك في العلاقة مع الطلاب، الذين حتى اليوم لم يشكلوا من موقع الدفاع عن حقوقهم عنصر ضغط مساند للأساتذة، أقله الحفاظ على مكتسباتهم والتقديمات التي يؤمنها صندوق تعاضد أفراد الهيئة التعليمية. وقد ظهر للأساتذة أن الراي العام ليس معهم، والنقابات غائبة عن دعم تحركهم الذي يرفع شعار الحفاظ على المكتسبات، من دون أن يتقدم لحماية الجامعة من المشاريع التي ترسم لها والسيناريوات التي بدأت تطل برأسها وتهدف الى إفراغ الجامعة من مضمونها وضرب وظيفتها الأساسية.
وبالرغم مما أدى اليه الإضراب من نتائج، فقد شكل الإضراب خروجاً عما يمكن تسميته هيمنة سياسية على الجامعة من كل الأطراف. وهذه الهيمنة عبثت بالجامعة طوال السنوات الماضية إلى حد أن المجالس الأكاديمية أفرغتها من وظيفتها، بفعل المحاصصة والإطباق على الكليات، وإن كانت الجامعة تغالب التدخل في شؤونها وبقي في كلياتها نبض تمكن من رفع اسمها واستمر بوظيفتها التعليمية العليا. أما المفارقة، فكانت واضحة، إذ أن أوضاع الجامعة ليست على ما يرام، وهو ما أثر على تحرك الأساتذة ومطالبهم المحقة، لأن السلطة اليوم لا تكترث لمستقبل الجامعة، ولا يعنيها أن يكون أساتذتها في وضع مريح، علماً أنها تتحمل المسؤولية الأولى عما حل بالجامعة الوطنية التي أرادتها مؤسسة للتوظيف والتنفيعات رغم الممانعة الأخيرة لأهلها وجسمها الاكاديمي الحي، فكيف يمكن لجامعة ثبتت موقعها في التعليم العالي ونافست ارقى الجامعات في لبنان أن تُحجب عنها موازنات للبحوث العلمية وللمشاريع الأكاديمية؟ ويقتصر الأمر على موازنة للرواتب والإيجارات والمستلزمات والتجهيزات.
ليس أمام الأساتذة وهم يطالبون بحقوقهم وبضمان مكتسباتهم، إذا أرادوا أن يكون حراكهم فاعلاً إلا الدفاع عن المؤسسة الوطنية وحمايتها، وهم معنيون برفع الصوت للقول أي جامعة يريدون، بدءاً بمواجهة التلاعب بمصيرها وجبه التدخل بشؤونها وإعادة تحديد وظيفتها الأكاديمية البحثية، وخوض معركة استمرارها جامعة لكل اللبنانيين. هم الذين يحددون مصيرها من خلال مجالسهم الأكاديمية الحقيقية وليس بالمحاصصة السياسية والطائفية.
إن الإضراب لم يثمر اعترافاً من السلطة بالمطالب، ولا بوظيفة الجامعة، لذا على الأساتذة إعادة تقويم تحركهم واستيعاب ما يرسم لها واتخاذ قرارات جريئة تعيد الاعتبار لمعنى أي تحرك مطلبي، والتوجه نحو الطلاب لكسب المعركة وإن كان ذلك عبر ربط نزاعات. وإذا كان الإضراب قد أعاد بعض الحيوية للجسم التعليمي وكرّس ممارسة ديموقراطية، لكنه أيضاً حمل الكثير من الالتباسات في علاقة الأساتذة بأحزابهم السياسية، وتعكس مدى التصادم وتصفية الحسابات بين قوى سياسية مختلفة. وللقضية مفعول رجعي يتعلق بملفات الجامعة والتوازنات السياسية والطائفية التي تحكمها. هذا يعني أن الأحزاب لا تزال مقررة في الجامعة، ولم تنتقل في قطاعاتها المختلفة خصوصاً الكادر التعليمي إلى تكريس ممارسة ديموقراطية مستقلة تعطي الاساتذة هامشاً للتحرك بعيداً من الوصايات، إلا اذا اعتبر البعض أن الطريق باتت سالكة للتغيير، ولا شيء يقف في وجه الثورة وطليعتها التي تتهيأ لتسلم مقاليد الأمور في البلد.
المعنى الذي يجب استنتاجه، أنه لا يجوز الرهان على قضايا أكبر من الجامعة. فإذا كان الإضراب أعاد الاعتبار للقرار في الجامعة ولقدرة الهيئة التعليمية وحيويتها، فإنه هو أيضاً مسؤولية أمام الطلاب وأهاليهم وأمام الراي العام، وهو يضع الأساتذة في أزمة العلاقة مع هذه الفئات الوحيدة القادرة على دعم الجامعة وأساتذتها وتامين الحصانة لهما.
[author title=”سالم حيدر” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]