لا مناقشات لجنة المال والموازنة النيابية، ولا قبلها الجلسات العشرين التي عقدها مجلس الوزراء، وضعت يدها على عطب الانهيار الاقتصادي – المالي الذي تعيشه البلاد، إذ كلا المحاولتين لا تعدوان أن تكونا عملية ترقيع لثوب مهلهل لم يعد ينفع فيه الترقيع، علماً أن عمليات “الترقيع” هي التي تمت ممارستها خلال عقود طويلة من خلال تشريع وتسريع الاعتماد على الديون من المصادر الداخلية والخارجية على حد سواء. وعليه لن تكون هناك من فائدة مرجوة لنقاش مشروع الموازنة، ولو بلغت الجلسات المائة عدداً. فهذا “الإنجاز” كما وصفته الحكومة لدى الانتهاء من إقرارها، لن ينجح إلا في تأخير الكارثة التي تحوم فوق البلاد سوى عدة أشهر، وهو ما أشارت إليه العديد من الأوساط المالية والاقتصادية الدولية والوطنية، التي وضعت هذه المحاولة تحت مجهر الرصد، وخرجت بنتائج سلبية في تقييمها.
ولعل السبب الرئيس في هذا المآل، ليس قلة الخبراء الماليين والاقتصاديين في البلاد، وتعذر الاستعانة بما لديهم من علم ومعرفة، بل بالبنية السياسية التي يتم من خلال شبكات مصالحها النظر إلى الموازنة العامة. واذا انطلقنا من أن هذه البنية حاضرة بكامل قوامها في مواقع السلطة المتماثلة في كل من مجلسي الوزراء والنواب، علينا أن نتوقع أن ليس بالامكان أحسن مما كان. وتبعاً لذلك يؤكد أفضل المتفائلين أن تخفيض النفقات وتقليص العجز كما يشاع، ليس سوى جرعة مسكنات غير مجدية، ينتهي مفعولها بعد وقت قصير. والواقع أن الموازنة، أي موازنة ليست مجرد أرقام، بل هي على نحو دقيق عبارة عن سياسات تترجم نفسها من خلال أرقام، تتوجه إلى هذا القطاع أو ذاك، وتقود في المحصلة إلى تحقيق نوع من أنواع التوازن بين الواردات والنفقات، مع الأخذ بعين الاعتبار الاوضاع الاجتماعية وعملية تنمية أوضاع المناطق والفئات المهمشة وتعزيز التقديمات لها بما يخفف الأعباء المعيشية عن كاهلها، ويعزِّز دورها الانتاجي في المجتمع. ويتأكد من أرقام الموازنة وتوزيعها استمرار غياب الرؤية الاقتصادية عند السلطة، إذ أقصى الطموح لدى واضعيها هو توزيع البقية الباقية مما يتوفر من الموجودات بين أركانها وقواها النافذة، حتى ولو أدى ذلك إلى فرض المزيد من الأعباء على الفئات المفقرة، ولحساب رؤوس الأموال والمصارف وكبار المستثمرين في ديون الدولة في المقام الأول. والفعلي أن هناك من كان يراهن على قيام المصارف ومعها المصرف المركزي بمهمة اسناد مالية الدولة في محنتها من خلال قروض بألوف المليارات من الليرات بفائدة واحد بالمئة، ما يخفف من عبء كلفة الدين العام التي تستنزف المالية العامة، علماً أن أصول الديون ثابتة لا تتزحزح. لكن المصارف أعلنت بلسان أصحابها وممثليها المباشرين، أنها ليست في هذا الوارد، الأمر الذي دفع البعض إلى دعوة المصرف المركزي لطبع المليارات لهذه الغاية، ولو أدى ذلك إلى هبوط سعر العملة اللبنانية، ما يعني أن أقصى الطموح هو كيفية استمرار الانفاق، ولو قاد ذلك إلى استعجال الانهيار مع مضاعفاته المعيشية. إذن تغيب السياسات الاقتصادية الاجمالية عن الموازنة، ومعها تغيب الأسئلة التي تدفع أي جهة تتولى مثل هذه المهمة إعداداً ونقاشاً، إلى اعتماد ما يتجاوز “لعبة الطرابيش”، ومطابقة أرقام النفقات مع الإمكانات المتاحة. وبديهي في دول العالم وقبل الشروع في أي عملية من وزن تحضير الموازنة أن تطرح اسئلة قبل أي خطوة تتعلق بمن يدفع الضريبة؟ ومدى قدرته على دفعها؟ وما هي ومن أين تأتي الواردات؟ وأين يجب أن تحدث تخفيضات وفي أي من الوزارات؟ وأين يتوجب إحداث زيادات في النفقات؟ وأي رؤية اقتصادية واجتماعية تعتمد؟ وفي ضوء الإجابة عن مثل هذه الأسئلة وسواها من نوع ما هي عناصر القوة والضعف في الاقتصاد داخلياً وضمن دوره ومحيطه الاقليمي، تتم صياغة سياسات وأرقام الموازنة وتوزيعها على الوزارات والمؤسسات العامة، باعتبار أن الموازنة هي العملية السنوية لترجمة خطة وسياسة اقتصادية تنعكس على القطاعات كافة.
ولدى الإنتهاء من مشروع قانون الموازنة بعد التعديلات الطفيفة التي ستحدثها عليه لجنة المال، لن تكون مستويات النقاش في مجلس النواب أحسن حالاً. ولعل التعبير الأنسب لما سيكون عليه مثل هذا النقاش أنه سيكون أقرب إلى “الحمام المقطوعة مياهه”، فالحكومة هي صورة مصغرة عن المجلس، ولا وجود لمعارضة جذرية وازنة في الأخير، تنطلق من خيارات ومصالح مختلفة عن خيارات ومصالح أهل الحكم الذين أعدوا الموازنة وناقشوها واتفقوا عليها. وعليه، فاننا لم ولن نستمع منذ بداية المناقشات وحتى منتهاها منتصف شهر تموز، الموعد التقريبي لإقرارها، إلا إلى محاولات لتبرئة الذات الفئوية من تبعات مشروع الموازنة، وكأنها لقيطة، وذلك ضمن محاولة لاقناع أنصار ومحازبي أهل السلطة، أنهم أبرياء من دم ومصير يوسف، وأنهم غير مسؤولين عن المحنة المحدقة. وتبعاً لذلك سنشهد “جعجعة” خطب “رنانة” من دون طحين أو خبز. خصوصاً وأن الصرف من الموازنة السنوية الموعودة لن يزيد عمراً عن خمسة أشهر، بعد اعتماد القاعدة الإثني عشرية. على أن المخالفة الأفدح تتمثل في غياب قطع الحساب عن العام الفائت، وهو مدخل رئيسي للطعن بكل وعود الضبط التي يجري تسويقها. وهكذا، لا يعرف أحد حقيقة الأرقام التي تمّ رصدها في موازنة العام الماضي وما تحقق من وارداتها؟، والمبالغ المنفقة منها؟ وأين جرى تجاوز النفقات المقررة والمقدرة؟ ولصالح أي مشاريع حدث العجز الذي تطمح الحكومة لتقليصه؟
على أن التأخر في قطع الحساب ليس بريئاً البتة، بدليل المثال الذي كشفت عنه لجنة المال نفسها، عندما أشارت إلى توظيف عشرات الألوف من مدنيين وعسكريين قبل الانتخابات النيابية الأخيرة وقبل تشكيل الحكومة، لغايات في نفوس أهل الحكم ترتبط بزيادة أرصدتهم الشعبية من خلال عمليات التوظيف العشوائية، التي تصب الزيت على نار العجز، بينما الكثير من الإدارات العامة تعاني الفراغ في أجهزتها…. أبشروا أيها اللبنانيون بمرحلة نوعية من الأزمات المحتدمة.
[author title=”كتب المحرر الاقتصادي” image=”http://”]كتب المحرر الاقتصادي[/author]