*صقر أبو فخر
ما برح التحرّق جرّاء ما يجري في قطاع غزة يغمُرنا صبحَ مساء منذ ستة أشهر. ومعظم العرب يتفلفلون ليلَ نهار خوفاً من اجتياح مدينة رفح وأنفالها. وكل ما نخشاه في هذه الفترة المستعرة أن تتحوّل غزّة، بالتدريج، إلى خبر يومي في أوساط الناس. فاليوم الذي يسقط فيه أربعون شهيدًا مثلاً يجعل بعضهم يردّد: “الحمد الله، عدد شهداء اليوم قليل”؛ فالجاري هو سقوط أكثر من مائة شهيد يوميّاً. ولعلّ أكثر ما يثير الألم في نفوسنا أن تصبح أخبار غزّة في المجتمعات العربية مثل أخبار أوكرانيا أو ميانمار، وهو أمر لا يعني غير تبلّد الأحاسيس وانطفاء جمار الغضب التي ظلّت متوهّجة طوال المرحلة المنصرمة. وها أنا، على سبيل المثال، مثل كثيرين غيري، عالقٌ في دوامة من البلبلة والاضطراب، ومن المُحال، في هذه الأحوال، أن يتمكّن عقلي من صوغ ولو فكرة واحدة لها قوة تفسيرية تستطيع النفاذ إلى ما يجري حقاً في غزّة، وتكون لها، في الوقت نفسه، القدرة على استنباط نتائج متينة. وأكاد أحسُد غيري ممن يتجرّأون على تدبيج مقالات يناقض مضمونها اليوم ما كان كتبوه في الأمس. ومع ذلك، أتساءل تساؤل الحائر: أَما صار في الإمكان الشروع، ولو بحذر، في تقليب الأمور الفلسطينية على وجوهٍ شتّى، والخروج من ذلك التقليب بآراء أولية في ما يجري وينتظرنا؟ وها أنا أجازف بالإفصاح عن بعض الأفكار المتشابكة والنقائض المتعاركة.
… عاشت طويلاً بعض “الحكايات” الفلسطينية عن إسرائيل وقدراتها العسكرية، منها، على سبيل المثال، أن اسرائيل لا تستطيع أن تخوض حرباً تدوم أكثر من أسبوعين أو ثلاثة على أبعد تقدير. ومع أن حرب 1982 دامت قرابة 84 يومًا، إلا أن الكلام نفسه تردّد في بدايات الحرب التي نشبت غداة 7 أكتوبر/تشرين الأول (2023)، وها هي الحرب تتجاوز ستة أشهر، وما زالت مستمرّة إلى أجلٍ لا نعلمه.
وفي الانتفاضة الثانية التي أشعلها الشهيد ياسر عرفات في سنة 2000، تسابق بعض المنظمات على تنفيذ عمليات انتحارية (أو استشهادية) طاولت مطاعم ومؤسساتٍ إسرائيلية ذات طابع مدني. وحين كنا نتحفّظ عن هذه الأهداف، ونرى أن من الضرورة لمصلحة القضية الفلسطينية حصر العمليات في أهداف محدّدة كالجيش والاستخبارات والمستوطنات، كان يحلو لكثيرين أن يواجهوننا بالقول: لو أرسلنا 300 تابوت إلى إسرائيل لانسحب الجيش الاسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزّة. ويتبين اليوم، في غمرة هذه الآلام العظيمة، أن الإسرائيليين مستعدون لدفع آلاف القتلى ما داموا يعتقدون أن هذه الحرب حرب وجود بالنسبة إليهم، وأن لا خيار أمامهم غير القتال تحت راية الولايات المتحدة ورعايتها.
ويردّد كثيرون اليوم من ذوي اللغة الانتصارية التعبوية أن ليس لدى سكّان غزّة ما يخسرونه بعد 19 سنة من الحصار، وعشرة حروب قاسية هي بالتعبير الإسرائيلي، التالية: أول الغيث (2005)؛ سيف جلعاد (2006)؛ أمطار الصيف (2006)؛ الرصاص المصبوب (2008 – 2009)؛ عمود السحاب (2012)؛ الجرف الصامد (2014)؛ حارس الأسوار (2021)؛ الفجر الصادق (2022)؛ السيوف الحديدية (2023). والحقيقة أن لدى الغزّيين ما يخسرونه حقًا، ويبكون عليه بألم وتفجّع وحرقة: إنها أجسادهم وأجساد أبنائهم وأهاليهم ومنازلهم وأماكن هجعتهم، وذلك كله لا يمكن تعويضه إطلاقًا، إلا إذا كان النصر على همجية العدو مؤزّراً وكاسحاً وواضحاً كشمس الهاجرة، غير أن تحقيق إنجازات عسكرية هنا وهناك، مع دفع أثمانٍ بشرية وعُمرانية باهظة جدّاً جدًاً يعني، في حساب الأرباح والخسائر الفلسطينية، خسائر لا تُحتمل.
وفي جميع المعارك الماضية، كان هناك دائمًا مَن يرفع الصوت فورًا ليهدي إلينا النصر ويبشّرنا بأن إسرائيل هُزمت شر هزيمة. حسناً، حبذا لو كانت صحّة هذا الأمر قاطعة فنحتفل من غير تردّد. لكن، ألا يجدر بنا جميعاً أن نتأمل تلك المفارقة المتواصلة، وهي أننا نحقّق، بعد كل معركة “انتصاراتٍ فوق انتصارات”، ولم نتمكّن من تحرير شبر واحد من الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو نرغم الاحتلال على التراجع ولو شبرًا واحدًا؟ تحتاج المسألة، بلا شك، إلى عُدّة معرفية مختلفة، وإلى أدواتٍ تحليلية مغايرة للكلام الجاري في الجرائد ومحطات التلفزة وخطب المهرجانات والمسيرات.
صمود المقاومة الفلسطينية في غزّة لا يمكن أن يستمر على زخمه إلى ما لا نهاية، لأن مواردها وذخائرها المخزّنة محدودة في نهاية المطاف، كالوقود والطعام والماء والأدوية والأدوات الطبية ووسائل الحركة، فضلاً عن تقلّص المدى الجغرافي الذي تعمل المقاومة في نطاقه، وضمور العنصر البشري الذي يُستشهد أفراده وأهاليهم في كل يوم. وتستطيع إسرائيل أن تزعم أنها دمّرت القوام العسكري للمقاومة في غزّة. لكن ذلك الزعم ينطبق على الجيوش النظامية، لا على المنظمات التي تمارس تكتيك حرب العصابات، وهو أمرٌ أجبر الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي غيورا أيلاند على ادّعاء أن “ما يجري [في غزّة] ليس حرباً ضد منظمة إرهابية، بل بين دولة إسرائيل ودولة غزّة التي تحكمها حركة حماس. ولذلك، محاصرة جيش الدولة الحمساوية أمر طبيعي من أجل استسلامه، ويتضمّن ذلك الحصار والتجويع حتى الموت لمقاتلي الطرف الآخر مع السماح للمواطنين بممرّات إخلاء لا لإدخال الغذاء والدواء، بل للخروج. ثم أن لا شيء في القانون الدولي يُلزم دولة بأن تقدّم المساعدة لدولة عدو كتزويدها بالوقود مثلاً” (أنظر: يديعوت أحرونوت، 30/1/2024). وفي هذا السياق، يصبح من الصعب أن تزعم إسرائيل، حتى الآن، أنها حققت انتصاراً على المقاومة، ومن الصعب أيضاً أن تدّعي المقاومة أنها هزمت إسرائيل. وفي هذه الحال، من الممكن أن تتوقّف المعارك في لحظة ما عند “ستاتيكو” جديد يتيح لكل طرفٍ أن يقول إنه حقق انتصاراً ما، أو إنجازاً ما، أو يقول إنه منع خصمه من تحقيق أهدافه، وأنزل به ما لا يحتمل. وعلى ذلك المنوال، يحقّق الجميع انتصارات إلا أهالي غزّة، فالجميع ينتصر عليهم، إلى درجة أن هناك من اعتقد، وما زال يعتقد، أنه بات قادرًا بعد عملية 7 أكتوبر على إرغام إسرائيل على تفكيك الاستيطان وترحيل المستوطنين والانسحاب من الضفة الغربية والقدس، ثم إرسال ستة ملايين لاجئ إلى فلسطين التاريخية. وهذا الاعتقاد نوعٌ من الخيال السياسي والتاريخي والعلمي، لأن هذ الهدف يحتاج إلى حرب ساحقة ماحقة منتصرة، أي إلى هزيمة مروّعة لإسرائيل، وهو أمر ليس في الإمكان تحقيقه اليوم.
… لن تبقى صورة إسرائيل على ما كانت عليه إطلاقًا. ولا ريب أنها ستخضع لتحوّلات جوهرية من المحال تحديدها منذ الآن، وإن بدأت ملامحها ترتسم منذ اليوم، وستبدّد هذه التحولات الأوهام القديمة التي نسجتها إسرائيل عن نفسها، ومن تلك الأوهام أن إسرائيل كانت تعتقد أنها قادرة على القتال في ثلاث جبهات: الشمالية والجنوبية والشرقية. لكن الحرب اليوم على غزّة ستغير هذا الاعتقاد أو تبعثره. وحتى تستقيم الصورة الجديدة للقدرات العسكرية الإسرائيلية، ستخضع إسرائيل لفوضى فكرية طاحنة ترافقها تساؤلات جدّية جدّاً عن قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها بمفردها، وهو ما كانت تعوّل عليه الولايات المتحدة التي اضطرّت إلى المسارعة في إرسال أساطيلها لنجدة ثكنتها المدرّعة خوفًا من سقوطها. وأخال أن النظرية الإسرائيلية التي كانت تتوهم أن المستوطنين هم حرّاس أمن إسرائيل قد انهارت، ولو جزئيّاً، بعد هروب المستوطنين وتفريغ المستوطنات في غلاف غزّة وفي شمال فلسطين المحتلة. وثمّة عودة، في الأوساط الأمنية، إلى المفاهيم القديمة للأمن الاستراتيجي أن الجيش هو المؤسّسة الأمنية الأولى، وربما الوحيدة التي يعوّل عليها في حماية حدود اسرائيل وحماية المجتمع اليهودي والمستوطنين معاً.
مهما يكن “الستاتيكو” الذي ستتمخض عنه الحرب الدائرة في قطاع غزّة، فإن المراهنة ما برحت هي هي؛ المراهنة على صمود الفلسطينيين في أرضهم، وعلى استمرار مقاومتهم فوق أرضهم وبأشكال متجدّدة وبمعايير حركات التحرر الوطني، لا بمعيار “عليّ وعلى أعدائي يا رب”. والمراهنة أيضاً على تطوير سياسة وطنية جامعة لمواجهة المخاطر الوجودية المحدقة بقضية فلسطين، وللتصدّي للمصاعب المقبلة، وهي كثيرة جدًا. وفي جميع الأحوال، القاعدة المأنوسة لدى جميع الشعوب أن كل احتلال سيولّد نقيضه، أي المقاومة. ومع أنني ما عدتُ قادراً على إدراك الفارق النوعي بين النصر والهزيمة في مثل هذه الأحوال الراعبة في غزّة، إلا أن ما أعرفه، على وجه الدقة، أن طريق آلام الفلسطينيين لم يصل إلى محطّته الختامية بعدُ، وهو لن يصل في المدى القريب. وحتى لو قُيّض للإسرائيليين أن يحققوا “نصراً” موقتًا اليوم، فإن “مهزومي” هذه اللحظة سيكونون بالتأكيد منتصري الغد. وهنا استذكر آخر ما كتبة كارل ليبكنخت بُعيد انتفاضة سبارتاكوس الألمانية المهزومة في سنة 1919 فقال: “هناك هزائم أعظم من الانتصارات، وهناك انتصاراتُ أشدّ عاراً من الهزائم”.
اختار الصندوق القومي الصهيوني، في خمسينيات القرن المنصرم، كما يذكر إيلان بابيه في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين”، أنواعاً من الصنوبريات، كالعرعر والسرو المخروطي والسرو المثلث والشوح أو التنوب، ليزرعها فوق القرى العربية المدمّرة كي يخفي علائم المكان، ولإضفاء الطابع الأوروبي على البلاد. وقد فشلت تلك الصنوبريات في التأقلم مع التربة، وراحت أمراض الأشجار تفتك بها. وفي قرية المجيدل، لاحظ أهالي القرية المدمّرة الذين تمكّنوا من زيارتها بعد سنين طويلة، كيف أن بعض أشجاء الصنوبر انشقّ نصفين، وبرزت في وسط الجذوع المنشقّة أشجار زيتون متحدّية الأشجار الغريبة التي غُرست في تراب البلدة قبل نحو 60 سنة. إنها الطبيعة التي تُظهر قوتها في الوقت الملائم على الرغم من جميع الأهوال. وستفتك الأمراض بالمجتمع الإسرائيلي بالتدريج، ولن تنقف الأرض غير الأزاهير التي لها جذور في التراب.
*نشرت في العربي الجديد بتاريخ 8 نيسان/ ابريل 2024
Leave a Comment