اقتصاد سياسة مجتمع منشورات

الكهرباء سؤال والموازنة تكرِّس الفساد ولا تعالج العجز

لأن اطراف الحكم  يتعاطون مع  مؤسسات الدولة على أنها ملكيات خاصة قابلة للتوريث. ولضمان توزيع المنافع وتقاسم الفوائد المتأتية من الكهرباء، كان  أطراف الحكم دوماً  شديدو الحرص على إبقاء الصراعات حولها بعيدةً عن الشارع.

وأخيراً أحتفل العهد القوي وتياره ووزارؤه بإقرار خطة الكهرباء. وأعقبت تصاريح الإنتصار حملات تقاذف التهم والتشكيك بين أصحاب الخطة والمعترضين عليها، لينتهي الأمر باتفاق سياسي جامع على تمريرها في مجلسي الوزراء والنواب. لم يخل الأمر من  بعض الاعتراضات  التي  أشرّت إلى التجاوزات التي استدعت تعديل قوانين المناقصات العامة،  وتلزيم المشاريع وآليات عمل الهيئات المعنية بها، لضمان تمريرالخطة، وحماية التوافقات التي  تغلف الشراكات في المنافع، عبر إطلاق يد الوزارة في الإدارة والتنفيذ وصرف النظر عن تشكيل الهيئة الناظمة، ونزع حق الاعتراض من هيئة إدارة المناقصات، وإحالة القرار إلى مجلس الوزراء وتأجيل تعيين مجلس إدارة لمؤسسة الكهرباء. أما المعترضون فمن المشكوك فيه أن يتمكنوا من الطعن بدستورية ما تقرر بالنظر لتباين خلفيات  إعتراضاتهم. 

لقد خبر اللبنانييون جيدا فضائح وأكلاف المسيرة المتعثرة لخطط تأمين الكهرباء التي لم تنفذ، رغم تعدد المشاريع والدراسات بشأنها منذ اتفاق الطائف. لقد شكلت أزمة الكهرباء باباً مضموناً ومكفولاً للإثراء غير المشروع لأهل السلطة،  فتحولت وزارة الطاقة إلى ميدان صراع للفوز بها نظراً لحجم المنافع والأرباح التي  تتأمن عبرها، استناداً للمبالغ الخيالية التي استهلكها قطاعتها، والتي فاقت الثلاثين مليار دولار، وتعادل ثلث الدين العام المتراكم على الخزينة، عدا ما دفعه اللبنانيون من أكلاف  لتأمين حاجتهم من الطاقة. 

وما يعزز الشكوك في عدم تنفيذ الخطة، أنها أقرت  استجابة لضغوط  الدول المانحة للقروض، وليس بفعل صحوة  المسؤولين الذين استماتوا للتحايل على الشروط  المطلوبة، لضمان الأرباح والمكاسب أثناء وبعد التنفيذ الذي يستغرق في أحسن الأحوال ما بين 7 إلى 8 سنوات، لأن اطراف الحكم  يتعاطون مع  مؤسسات الدولة على أنها ملكيات خاصة قابلة للتوريث. ولضمان توزيع المنافع وتقاسم الفوائد المتأتية من الكهرباء، كان  أطراف الحكم دوماً  شديدو الحرص على إبقاء الصراعات حولها بعيدةً عن الشارع. مما جعل اللبنانيين يتصرفون حيال الأزمة، رغم أكلافها الباهظة جداً عليهم، قدر محتوم يجب الخضوع له وتقبل أحكامه بطيبة خاطر.

   لا يختلف النهج المعتمد مع قطاع الكهرباء، عنه في بقية قطاعات الاقتصاد والمالية العامة، سواء مع أزماتها  المتفجرة أو مع موارد الدولة وما اصابها من عجز بفعل الهدر والنهب. فبعد ثلاثة عقود يقف الاقتصاد اللبناني على شفير الإنهيار نتيجة المعضلات البنيوية التي حلت به.  والتي تتمثل أولاً بالدين العام، الذي  قارب ال90 ملياردولار، ويعتبر من أعلى الديون في العالم، وتشكل خدمته نسبة 35% من حجم النفاقات. والمعضلة الثانية تتصل بتراجع الواردات وضآلة حجمها بسبب فساد الطبقة السياسية واستباحة مؤسسات الدولة  ومرافقها وقطاعاتها، وممارسة التهريب والسمسرة والتهرب الضريبي، حيث يقف لبنان أيضاً في أعلى درجات السلم بين دول العالم. أما ثالث المعضلات فتكمن  في تباطوء نمو القطاعات الانتاجية وتفاقم الجمود الاقتصادي وضعف الاستثمارات المحلية والخارجية  وتراجع الاهتمام الدولي باقتصاد البلد، جراء انعدام الثقة بالطبقة السياسية وغياب الاستقرار السياسي وشلل مؤسسات الحكم وتعطيل الاستحقاقات الدستورية المتكرر.

 وإذا كان النزوح السوري وسوء إدارة أهل السلطة لهذا الملف، قد أضاف أعباءً كبرى على اقتصاد البلد وفاقم أزماته الاجتماعية، فإن الاصلاحات البنيوية المفقودة  تشكل المؤشر الأخطر، بالنظر إلى طبيعة النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية، وبنية القوى التي تتشكل منها الطبقة الحاكمة والتي ترى في الوضع القائم  سوق استثماري لخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية غير عابئة بتفاقم الأزمات اجتماعية ومخاطر انهيار الاقتصاد وتراكم الدين أو إفلاس الخزينة وانهيار العملة الوطنية.

لذلك ليس مستغرباً أن تلجأ اطراف السلطة وهي تحاول التجاوب مع شروط الجهات المانحة، في الاصلاح  وتخفيض عجز الموانة، إلى  ممارسة التعمية والتضليل حول الاسباب الفعلية لمكامن العجز والفساد المستشري، بهدف حماية “أبطاله”، سواء من أهل السلطة وارباب العمل والشركات العقارية، اوالمصارف التي تجني أعلى معدلات الربح عبر شراء سندات الخزينة بفوائد خيالية، أو عبر الهندسات المالية التي ينفذها المصرف المركزي بذريعة  تمويل خزينة الدولة.  أما  الإثراء غير المشروع من خلال الصفقات والسمسرة والتهرب والتهريب الضريبي واستغلال الاملاك البحرية والنهرية وغيرها، فهي جميعاً خارج التداول. ولا يغير في الأمر ضجيج المعارك الوهمية لمحاربة الفساد، التي تمخضت عن توقيف  بعض المرتشين الصغار أمام المحاكم بصرف النظر عن اسباب اختيارهم دون سواهم. أما الجمعيات الوهمية  والمجالس الوطنية والادارية المتخصصة.. والهيئات ذات المنفعة العامة المعفاة من الضرائب، فهي في حماية من يرى فيها اقطاعات عائدة له.

  وعليه لم يكن مصادفة استهداف رواتب وأجور موظفي القطاع العام والاساتذة والعسكريين والمتقاعدين والتقديمات العائدة لهم، على أنها المسببة لعجز الخزينة وتراكم الدين والمنتجة لمخاطر انهيار الاقتصاد والعملة الوطنية، وفق ما جاء على ألسنة المسؤولين. لذلك يجب أن يتحملوا أعباء الأزمات، وإلا انهار الهيكل على رؤوس الجميع. ينطلق أهل الحكم في خيارهم هذا من القدرة على التحكم بردة الفعل الاعتراضية لهذه القطاعات استناداً لما أصاب أدواتها النقابية من تدجين وتجويف وتحويلها ملحقات، حالها من حال الاتحاد العمالي العام المحكوم بالعجز والتحرك غب الطلب. يضاف إلى ذلك ضآلة وزن قوى الاعتراض الديمقراطي وضعف قدرتها على حشد الفئات الاجتماعية المتضررة وإشراكها في التحركات. لذلك يسود أركان الحكم اعتقاد بإمكانية  تمرير الاجراءات التي يجري ترويجها، وفي أسوأ الحالات يمكن استبدالها بفرض المزيد من الرسوم على المعاملات الإدارية والمالية للمواطنين، وإقرار ضريبة جديدة على صفيحة البنزين ورفع الضريبة المضافة إلى 15%، وتغطية ذلك بعدد من الإجراءات التجميلية في بعض المجالات التي لا تشكل مساً بمصالح وأرباح التحالف المسيطر. أما فعالية المعارضة الديمقراطية للسياسات الاقتصادية وعلى الصعيد الاجتماعي، فإنها تبقى مرهونة بقدرتها على إعادة بناء كتلة شعبية مستقلة قادرة على خوض الصراع والمواجهة.

[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]