سياسة منشورات

الجزائر وأسئلة حداثة “الربيع العربي الثاني”؟

رجح أن يكون بداية فعليّة لموجة ثانية من “الربيع العربي”. في الموجة الأولى منه، بدا “الربيع” كأنه يسير بدفع جماهيري محض، لكن سرعان ما تبيّن وجود تجاذب عميق بين “الأخوان المسلمين” وبين قوى كبرى في النظام العالمي. كيف هو الحال الآن

الأرجح أن نجاح الشارع الجزائري في إعادة صوغ العلاقة بين الشعب والدولة، ربما يستهل تحولاً ضخماً في مسارات المنطقة، خصوصاً العلاقة بين الحداثة والأصوليّة فيها. واستباقاً، يفرض ذلك على الحداثة العربيّة أن تعيد صوغ وعيها حيال ذاتها أولاً ثم الشعوب التي تنتمي إليها، وكذلك الانخراط في حوار معمّق مع الأصوليّة بتنوّيعاتها في المنطقة باعتبارها جزءاً أساسيّاً في كينونة الشعوب وثقافاتها.

الأرجح أن الأصوليّة الإسلاموفوبياوية المعاصرة تقفز إلى الذهن فوراً، لكن مسألة اتّجاه المُكوّنات المختلفة صوب أصوليّات متطرفة سياسيّاً لا يقتصر على الإسلاموفوبياويّة. في الجزائر تجربة واضحة على ذلك التشابك. لنذكر أن “العشريّة السوداء” (مع الاعتذار من عنصرية التعبير) سيطر على مشهديتها الصراع بين الجيش والإسلاموفوبياويّة المتطرفة المسلحة، ما جعله صداماً بين دولة الحداثة العربيّة المختلة التي يقود حزب “جبهة التحرير الوطني”

نموذجها المنتقل من النجاح في التحرّر الوطني إلى الفشل في بناء دولة حديثة، وبين إسلاموفوبياويّة متطرفة قادتها “الجبهة الإسلاموفوبيايّة للإنقاذ” استعملت السلاح لفرض مشروع سياسي عماده الاستيلاء على الدين للوصول إلى السلطة، ومبرراً خطابه بفشل دولة الحداثة العربية وتحوّلها إلى قمع ضارٍ يحمي تخلفها. وفي مقدمات تلك الحرب الأهلية، برزت حجة منطقيّة بأن الحداثة العرجاء ضربت أسس حداثتها بأن رفضت الاعتراف بانتخابات نظّمتها بنفسها وفاز فيها أصوليو “جبهة الانقاذ”. في المقابل، بررت الدولة ذلك الرفض بأن الأصوليّة كانت تُخادع بشأن انصياعها لمعايير الديمقراطيّة، بل أن شعارها كان “انتخابات ديمقراطية مرّة واحدة فقط”، بمعنى أنها ستفرض مشروع السلطويّة الإسلاموفوبياويّة إن أمسكت بالسلطة. في ثنايا تلك الدائرة الدمويّة المغلقة، لم ينطق أحد بوضوح بكلمة “قبائل”، بمعنى أن مسألة المُكوّن القبائلي الجزائري بقي ظلاً لم يجرؤ كلا طرفا النزاع الدامي آنذاك على الإشارة إليه.

 

الأمازيغ: كلمة سر لم تعد خفيّة

بعد فوزه بالرئاسة قبل عشرين سنة، طرح عبد العزيز بوتفليقة “ميثاق السلم والمصالحة الوطنيّة” ولم يستطع السير به إلى النهاية، بل بقي أقرب إلى وعدٍ معلّق. ربما مهم الإشارة إلى شعبيّة تمتّع بها بوتفليقة طويلاً في المُكوّن القبائلي للجزائر. (تذكيراً، الإسلاموفوبياوية لديها فشل هائل في مسألة المُكوّنات لأن وعيها لا يستوعبه. وظهر ذلك بعد “الربيع العربي” في علاقتها المأزومة مع أقباط مصر، وأزمتها الدامية مع الكرد والمسيحيين والأيزيديين في سوريا والعراق). وفي ولايته الرابعة، برز حرص بوتفليقة على الإمساك بذلك المفصل الذي دَعَّمَه بالاعتراف المتصاعد بخصوصيّة المكوّن القبائلي مثل الإقرار باللغة الأمازيغية وثقافتها وإتاحة تعليمها رسميّاً في منطقة القبائل وغيرها.

ما زال شبح تلك الدائرة المغلقة يحوم حول الجزائر التي يمكن المجازفة بالقول بأن نجاح حراكها بصورة سلميّة مذهلة (وقد أسقط النماذج النمطيّة عن شعبها)، يرجح أن يكون بداية فعليّة لموجة ثانية من “الربيع العربي”. في الموجة الأولى منه، بدا “الربيع” كأنه يسير بدفع جماهيري محض، لكن سرعان ما تبيّن وجود تجاذب عميق بين “الأخوان المسلمين” وبين قوى كبرى في النظام العالمي. كيف هو الحال الآن، إذا اعتبرنا الجزائر بداية لـ”الربيع العربي- 2.0″؟ هل تسير “حركة مجتمع السلم” مثلاً لتكون نسخة متطوّرة من الإسلاموفوبياويّة؟ هل تستطيع الخروج من أسر النموذج الإسلاموفوبياوي الأصولي المتجمّد عند زمن “دولة المدينة” والخلفاء الراشدين، لتصل إلى تفاعل ما مع الدولة الحديثة التي يقف في أساسها أنها دولة مواطنة وإنسان تعمل في الفضاء المدني، وتفصل دستوراً وقانوناً الفضاء الديني بتلاوينه كلّها؟ ما الحل الفعلي الذي تملكه الإسلاموفوبياويّة للمسألة القبائليّة في الجزائر، خصوصاً بوصفها إشكالية في الوحدة الوطنية للشعب، وليست مجرد مسألة أقليّة أو مُكوّن خاص؟

مأزق الوعي الحداثي

استطراداً، من المستطاع تصوّر أن دولة مواطنة ودستور بمقدورها التعامل مع الإشكاليّة القبائلية- الأمازيغيّة، على رغم أنه حتى الحداثة الغربيّة تعاني في ذلك الشأن. ومن الأمثلة التي لا حصر لها على تلك المعاناة، تبرز بسرعة  قضايا كاتالونيا والباسك (اسبانيا) وكورسيكا (فرنسا)، وكوسوفو ومقدونيا وقبرص وغيرها. لكن، لعل الأكثر تعبيراً عن ذلك الأمر هو مسألة الإسلاموفوبياوفوبيا التي تبدو كأنها تتحدّى أربعة قرون من التحوّل الحداثي في الغرب نفسه. استطراداً، يظهر ذلك خصوصاً بتكرار المناداة بالعودة (الآن؟) إلى قيم عصر التنوير في القرن الثامن عشر، في قلب فرنسا التي هي من التجارب الأساسيّة لمشروع الحداثة والعقلانية، بل عملت على نشره مع نموذجه في الدولة والحكم عالمياً. استطراداً، تضمّن ذلك “النشر” ظواهر إشكالية وسلبية، بل تعاكس منطق الحداثة، مثل الاستعمار ودول الحداثة العرجاء في العالم الثالث. عند هذه النقطة، يبدو الكلام ميّالاً للعودة إلى الجزائر باعتبارها نموذجاً كثيفاً وقاسياً عن تلك الظواهر المتشابكة كلها.

ماهو الوعي الذي لدى الأصولية الإسلاموفوبياوية لذلك التاريخ، سوى ما هو معروف عنها من رفض يصل إلى حدّ الخروج من التاريخ والإقلاع عكسه والاصرار على نموذج طوباوي ذهبي متخيّل كان منذ قرون وقرون، وانتهى قبل ما يزيد على القرن. كيف تكون علاقة إسلاموفوبياويّة الجزائر مع أردوغان المصر على العودة إلى ما قبل القرن الذي يفصل الحاضر عن زمن نهاية الخلافة العثمانية بوصفها المحطة الأخيرة آنذاك للامبراطورية الدينية الإسلاموفوبياية؟

قبل ذلك، ما هو وعي الحداثة العربيّة عن تلك الأمور، بما فيها ظهور “داعش” وظاهرة الإسلاموفوبياوفوبيا. لنتذكر أن مفكراً جزائرياً وقبائليّاً (هو المفكر محمد أركون) نعى قلّة وعي الحداثة العربيّة، بل المغاربيّة تحديداً، خصوصاً بشأن الأصوليات الدينيّة.

في شوارع الجزائر الفوّارة، سارت جميلة بوحيرد على قدميها وهي تحمل تاريخاً يعرفه الجزائريون والعرب من النضال ضد الاستعمار الفرنسي. شاركت بوحيرد شباب الجزائر في حراك لإنهاء حكم مستمر منذ عشرين سنة لبوتفليقة. وأطلقت بوحيرد كلمات كثيفة الدلالة عما يحصل في بلادها “مَنْ سرقوا أحلام جيلنا، يجب منعهم من سرقة أحلام أجيال المستقبل”. هل تتحقق كلماتها في تحرك سلمي يطلق مرحلة أكثر وعياً وتقدماً في حراك الشعوب العربية؟

[author title=”احمد المغربي” image=”http://”]كاتب لبناني [/author]