طرحت انقرة منذ أربع سنوات مشروعاً لإقامة منطقة آمنة في شريط محاذ لحدودها شمالي سوريا، وقد اطلق ذلك مفاوضات (بعد القرار الاخير للرئيس الامريكي ترمب والذي قضى بسحب قواته من سوريا) مفاوضات بين امريكا وتركيا ومع روسيا، كما بين الاكراد ودمشق وموسكو بهدف الوصول الى ترتيبات عسكرية وإدارية شمالي شرقي سوريا.
مشروع المنطقة الآمنة – العازلة كان قد طرحه اواخر العام 2011 وزير خارجية تركيا آنذاك أحمد داوود أوغلو، وايدته المعارضة السورية حينها. وفي العام 2012 اعتبر رئيس الوزراء في حينه رجب طيب اردوغان المنطقة هذه بأنها جزء من خياراتنا. وكرر وزير الخارجية مولود تشاويش اوغلو في 2014 طلب انشاء منطقة آمنة وحظرها جوياً لأسباب انسانية. ردت موسكو بأن ذلك يتطلب موافقة مجلس الامن الدولي. وبعد التدخل الروسي العام 2015 طلب اردوغان باقامة المنطقة الآمنة وكرره عام 2017 على أن تكون خالية من الارهابيين. ووعد ترامب عام 2017 وقال بإنشاء مناطق آمنة لاستيعاب النازحيين السوريين. لكنه في العام 2018 اعلن قراره المفاجىء بسحب قواته من سوريا. داعياً إلى اقامة منطقة عازلة على طول الحدود التركية داخل الاراضي السورية، بينما اعلن اردوغان ان قواته ستقيم هذه المنطقة بين الحدود التركية ومواقع وحدات حماية الشعب الكردية، فسارعت موسكو الى رفض ذلك.
عقداً تواجه هذه الاقتراحات والمحادثات تبدأ بتحديد عمق هذا الشريط الامني، الذي تريده انقرة بعمق 32 كلم من جرابلس حتى كردستان العراق. امريكا توافق على عمق 10 كيلومترات وموسكو ما بين 5 و 10 كلم، قائد وحدات حماية الشعب الكرية طالب بأن تكون المنطقة داخل الاراضي التركية. تركيا تريدها منطقة آمنة اي تتضمن حظرا جوياً، لكن موسكو تقبل بمنطقة عازلة دون حظر جوي، الاكراد يطالبون بحظر جوي لحمايتهم من تركيا، وتنادي موسكو بعودة الدولة السورية كضامن، ومن حقها في ممارسة مبدأ السيادة على أرضها. في حين ترى انقرة في ذلك، أن سوريا ستتعاون مع الاكراد وستسهل لحزب العمال الكردستاني عملياته ضد جنوب شرق تركيا.
المباحثات ما بين تركيا وروسيا ستكون حاسمة لان محادثات سبقت سمحت لتركيا بالسيطرة على المنطقة ما بين جرابلس، كما سمح درع الفرات بالسيطرة على عفرين العام 2018 وخفض التصعيد في ادلب.
و كشفت الاتصالات و”خريطة طريق” قدمها مسؤولون اكراد سوريين الى الضامن الروسي عن مطالبتهم باعتراف دمشق بالادارة الذاتية شمال شرقي البلاد، وبدستور جديد يضمن المشاركة في الثروات الطبيعية، ويلغي التمييز مقابل اعترافهم بالرئيس بشار الاسد وبمركزية الدولة وبحدودها وبعلمها وجيشها.. وبعد ان قرر ترمب الانسحاب تكثفت الاتصالات بين الاكراد ودمشق وموسكو . الذين قدموا وثيقة تتضمن اعترافهم بسوريا دولة مركزية موحدة عاصمتها دمشق، معترف بحدودها الدولية، وأن الرئيس المنتخب اي بشار الاسد هو رئيس كل السوريين بموجب انتخابات 2014 وأن ثروات المنطقة الطبيعية هي ثروة وطنية لكل السوريين، وتشكل ثلث مساحة سوريا وغنية بالبترول وبالغاز وبالزراعة. وقد شجعت موسكو الطرفين على استمرار التفاوض.
تقول انباء ترددت ان الانسحاب الامريكي هو جزء من الاتفاق الذي جرى في لقاء ترمب مع نظيره الروسي بوتيين في هلنسكي العام الماضي، لافتة الى اتفاقية سرية بينهما على مستقبل المنطقة والدور التركي والوجود الكردي. المنطقة العازلة كانت محوراَ اساسياً خلال القمة الروسية التركية وكذلك بين رئيسي الاركان الاميركي والتركي.
وبعد أن هدد ترمب تركيا بتدمير اقتصادها اذا هاجمت وحدات “حماية الشعب” الكردية المدعومة من واشنطن أبلغ اردوغان نواب حزبه “العدالة والتنمية” انه بحث مسألة اقامة تركيا منطقة آمنة في شمال سوريا خلال اتصال هاتفي مع ترمب ووصف الاتصال بأنه كان ايجابيا ورأى اردوغان انه توصل مع نظيره الاميركي إلى تفاهم تاريخي مع ضرورة قيامها بالتشاور مع جميع الاطراف المؤثرة بما فيها الدول الضامنة ( تركيا وروسيا وايران) مع التشديد على رفضه مشاركة وحدات حماية الشعب الكردية، وقال: “سندفنهم في حفرهم”. وقسد هي المكوّن الرئيسي الحليف للولايات المتحدة في حربها على داعش.
في مثل هذا الجو، يسود القلق اكراد سوريا من تهديدات انقرة، والحذر من دمشق، حيث يشكك قسم منهم بجدية المباحثات معها. ويرى بعضهم أن الانسحاب الامريكي سيعيد رسم حدود مناطق التماس، بينما يرى اردوغان أنه يمكن بزعامة تركيا تحقيق استراتجية شاملة تسهم في احلال السلام والاستقرار في سوريا على المدى الطويل، وهو ما يتطلب أولاً إنشاء قوة استقرار تضم مقاتلين من أطياف المجتمع السوري كافة.
في مثل هذه الاجواء المشحونة وفي ظل تلك المصالح المتباينة، يتم بحث مصير مناطق شمال سوريا وشمال شرقها، حيث لروسيا مصالح أساسها الاحتفاظ بموقفها المظلل والممسك يكل المواقع والحالم ببسط سيطرته على أوسع رقعة من الاراضي السورية عبر امساكه بالنظام وأهله. كما لتركيا طموحات ليس أقلها إقامة شريط عازل يمنع تماسها مع الاكراد السوريين في حده الأدنى، أما الأبعد فقد يكون الامساك بالمنطقة الشمالية كلها بما فيها ادلب وشرقي الفرات، إضافة إلى مناطق السيطرة في عفرين وفي منطقة ما بين جرابلس والباب.
أما امريكا التى ستخرج من سوريا فلن ترضى دون أن يكون لها نصيب من منطقة فيها 90% من البترول السوري، واكثر من 50% من الغاز، إضافة إلى أراضيها الخصبة المروية بسدود الفرات الثلاثة القائمة في تلك المنطقة. كيف سيحاول الاكراد الاحتفاظ ببعض ما حققوه من استقلال في الإدارة؟ وكيف ستكون للنظام وسائله بالتواصل مع المناطق التى خرجت لفترة عن إرادته. كل هذه التساؤلات وبعض تلك الوقائع ستكون مدار أخذ ورد بين القوى ذات النفوذ وذات المصالح في هذا الجزء الموصل ببقية الأراضي السورية. والثابت حتى اللحظة أن الحلول كافة ليست بإرادة السوريين أو حسب رغباتهم، ما يعني أن الحل مربوط بأيد خارجية ومصالح لا صلة لأهل سوريا بها.
[author title=”محمد حسن” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]