أخذت أزمة التشكيل الحكومي والفراغ الذي يعانيه البلد، اللبنانيين إلى مسارات مجهولة، فلا يمكنهم تحديد من المسؤول عن الأزمات المعيشية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يعرفون إلى من يتوجهون للمطالبة بحل مشكلاتهم وإعادة تصويب عمل المؤسسات. وإذا كان النظام السياسي والطائفي يستمر بتوليد الأزمات، فإن المسؤول ليس طرفاً طائفياً أو قوة سياسية واحدة تتلطى خلف مصالح طائفتها أو مذهبها، إنما كافة قوى السلطة هي المسؤولة عن انتاج الأزمات، وعن الفراغ الذي أصبحت معه مصالح اللبنانيين أسيرة لغايات الفرقاء ومشاريعهم وحساباتهم الداخلية والإقليمية، طالما أن غياب الحكومة يجعل لبنان بلا قرار ويعطل عملية التشريع ولو كان مجلس النواب يناقش مشاريع قوانين ويقرها.
يترك الفراغ اللبنانيين بلا حكومة ومؤسسات، ويشعرون أنهم متروكون لمصيرهم، ويترك تداعيات على مختلف القطاعات في البلد، فلا أحد يستطيع أن يقرر أو يبادر لحل مشكلات آنية ومتراكمة، فيما التحركات التي تجري في الشارع تتحكم بها الفوضى، ولا تستطيع أن تؤثر في المشهد العام، ولا أن تستقطب فئات اجتماعية من دون أن تحدد هدفها وإلى من تتوجه في مطالبها، فضلاً عن أنها لا تعبر عن قضايا جامعة، خصوصاً أن لا حكومة في لبنان، فيصبح الحراك بمعنى من المعاني بلا وظيفة فعلية، أو يدخل في دائرة الاصطفافات والصراعات السياسية والطائفية.
يظهر أن النظام وسلطاته وكأنها تأخذ البلد إلى الفوضى فعلاً، وإن كان مجلس النواب يلتئم ليقر مشاريع قوانين مطلوبة من دون أن تكون محالة من الحكومة، فيما لا يزال رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري يضع عناوين لقروض “سيدر”، ويعد رئيس الجمهورية ميشال عون اللبنانيين بأن الوضعين الاقتصادي والمالي سيسيران نحو الأفضل عند تشكل الحكومة. كل ذلك ولا أحد يتنبه إلى أن مشاريع تُعد نصوصها في الخفاء للإنقضاض على مكتسبات تحققت للمعلمين والموظفين، وضرب نظام التقاعد، ثم تحميل سلسلة الرتب والرواتب مثلاً مسؤولية الأزمة المالية، علماً أن الحكومة التي تدير الفراغ اليوم ومعها مجلس النواب تغاضيا عن فرض رسوم وضرائب على شاغلي الأملاك العامة والبحرية والنهرية، واستسهلا فرض ضرائب على الفئات المتوسطة وذوي الدخل المحدود من دون إعادة النظر في النظام الضريبي غير العادل، وتجاوزا مكافحة الفساد والهدر، إلى وضع سياسات اقتصادية ومالية لا ترى حل الأزمة الاقتصادية الا بالاقتراض على ما أُقر في مؤتمر “سيدر”، في حين أن الدين العام بلغ مستويات قياسية وتجاوز ال80 مليار دولار، إضافة إلى تحميل البلد أعباء إضافية قد تودي به إلى الإفلاس.
في القطاع التربوي بلغت الأزمة الذروة، خصوصاً الخاص مع التخبط الذي يعانيه عدد كبير من المدارس، وتلويح مدارس أخرى بالإقفال إذا بقيت الأوضاع على حالها، بفعل الضائقة المعيشية التي يعانيها أهالي التلامذة وعدم قدرتهم على سداد الأقساط المرتفعة، فيما تتحجج الإدارات بكلفة السلسلة المرتفعة مع أن غالبيتها رفضت تطبيق السلسلة بدرجاتها الست للمعلمين، واستمرت في المطالبة بتحمل الدولة مسؤولياتها في التمويل. وعلى رغم الفراغ الحكومي، يسعى اتحاد المؤسسات التربوية الخاصة بالاتفاق مع عدد من النواب وبتغطية من القطاع الخاص المتمثل بالهيئات الاقتصادية إلى العمل لإلغاء القانون 46 الذي أقر سلسلة رواتب جديدة للمعلمين والموظفين، أو على الأقل تعديله بما يلغي نهائياً مندرجاته وموجباته للقطاع الخاص. وينطلق هذا التكتل من محاولة تحميل الدولة المسؤولية، فإما أن تعمل على تمويل كلفة الدرجات، وإما إلغاء وحدة التشريع بين القطاعين العام والخاص في المدارس، وهو ما يعني الإنقضاض على مكتسبات للمعلمين موجودة بقانون منذ عام 1956، والاستفراد بهم وفصلهم عن قطاعات المعلمين في الرسمي.
وفي المقابل، يظهر المعلمون اليوم كأكثر الحلقات ضعفاً بين المكونات التربوية، إذ لا قدرة لهم على التصعيد والمطالبة بحقوقهم، ولا قدرة لهم أيضاً على توحيد صفوفهم بعدما نجحت المدارس في تطويع جزء كبير منهم، وتهديدهم بلقمة عيشهم، فإما القبول بالواقع أو الخروج الى البطالة، حتى لو كانوا ممن تشهد عليهم صفوف الدراسة والتعليم. وما يساعد إدارات المدارس على التصلب بموقفها هو الدعم الذي توفره لها المرجعيات الدينية ومؤسساتها، وأيضاً استقالة الدولة الممثلة بالحكومة وبوزارة التربية عن ممارسة دورها وتطبيق القانون.
المدارس تنتظر الحكومة للتمويل، وهذه الأخيرة لا تستطيع فعل شيء في تصريف الأعمال. والدولة ترفض تمويل كلفة الدرجات الست، علماً أنها تتحمل المسؤولية مع القطاع الخاص التربوي الذي تركته يتخبط، فاختار أسهل الطرق برفع الأقساط على الأهالي وإخضاع المعلمين لأجندته، فيما لم تتمكن نقابة المعلمين، الآداة التي تنطق بإسمهم وتحمل قضاياهم من الضغط ولا حتى التأثير، إلى حد أن النقابة تعقد مؤتمراً صحافياً كل مدة وتحذر وتهدد بالتصعيد، ثم يختفي صوتها. وفي المقابل، يشعر المعلمون أيضاً أن الجميع يضغط عليهم، حتى أداتهم النقابية لا تستطيع أن تقرر لوحدها مستندة إلى القاعدة النقابية التعليمية، فيدخل العامل السياسي عند كل منعطف، لذا الغالبية تشعر أنها متروكة لمصيرها، فيما القطاع الخاص التعليمي كله ينوء تحت عبء الأزمة من دون أن تتمكن مكوناته من إدارة حوار صريح وشفاف ونقدي حول مستقبل المدرسة الخاصة وكفاية المعلمين، مع العلم أن إدارات المدارس واتحاد المؤسسات الخاصة يتحملان المسؤولية الاولى، في غياب أي مبادرة الى الحوار والبحث عن سبل للتسوية التي تقوم على تنازلات، وليس التمترس خلف مشاريع تطرح الكثير من علامات الاستفهام حول المدرسة.
لا بد من مواجهة محاولة إلغاء مكتسبات المعلمين في قانون السلسلة وغيرها، وكذلك مواجهة كل السياسات التي تؤدي إلى إنهاء الطبقة المتوسطة في البلد. لكن ذلك يستلزم نهوضاً من خارج العصب الطائفي والمذهبي، وتحديد الأولويات ورسم الأهداف، والأخذ بالاعتبار حجم الامكانات والصعوبات والاصطفافات الطائفية. والأهم توجيه الحراك وتحديده في بلد كلبنان يعاني الفراغ ولا توجد لديه حكومة يتم التوجه إليها وتحاسب. أما المعلمون فهم معنيون برسم خريطة طريق مرحلية لحماية مكتسباتهم ومنع استفرادهم…
[author title=”سالم حيدر” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]