بات الحديث عن تشكيل الحكومة أشبه بالألعاب البهلوانية التي تتقنها الطبقة السياسية بامتياز. وعود تذهب وأخرى تعود من دون أن يرى اللبنانيون هذه الحكومة الموعودة. لم يعد اللبنانيون جاهلين بأسباب العجز عن التأليف، يدركون أن عوامل داخلية وعوامل خارجية تلعب دوراً في الإعاقة. لكن اللبنانيين باتوا أيضاً عارفين دور طبقتهم السياسية، المتربعة على الحكم أو التي تقبع خارجه، في انعدام إهليتها ولا مسؤوليتها عن تدارك المخاطر التي تحيق بالبلد.
في العوامل الخارجية التي تترك أثرها المباشر على انعدام وجود حكومة، يقع المشروع الإقليمي في رأس القائمة، خصوصا منه العامل الإيراني. ما تزال إيران ترى في لبنان ورقة تستخدمها في الصراع الدائر مع الولايات المتحدة التي تتلاعب بكيانات المنطقة ومصائرها. لا تهمها مصالح الشعب اللبناني وحاجاته إلى استقرار الحكم. تتشابك المصالح الإيرانية مع المصالح الداخلية للشيعية السياسية التي ترى أن المعادلة السياسية والطائفية التي أرساها اتفاق الطائف عام 1989 لم تعد تتوافق وحجم الموقع الذي تحتله الطائفة. ما يعني أن الأوان قد حان لتغيير هذه المعادلة، ولا بأس إن بقي البلد معلقاً وأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية تزداد انهياراً. تفيد الشيعية السياسية من القوى المقاتلة التي يمتلكها حزب الله بوصفها العنصر الضارب والقادر على فرض التعطيل.
في المقلب الآخر، لا يكف العهد نفسه ممثلا برئيس تياره عن عرقلة تأليف الحكومة، محكوما بعقدة استعادة صلاحيات رئاسة الجمهورية من ناحية، وبعقدة أن يكون له الثلث الضامن في الحكومة. يعكس سلوك رئيس التيار واقع السلطة في لبنان حيث يسعى كل طرف إلى نهش أكبر حصة له في الحكم. فالنظام قائم أساساً على المحاصصة الطائفية، حيث لا يرى كل فريق سوى مصالحه الفئوية الضيقة، ويسعى إلى تجيير المشترك العام لصالح الخاص به.
إذا كان هذان الفريقان يلعبان بشكل أساس لعبة التعطيل، فلا يمكن تبرئة سائر الفرقاء السياسيين من هذه العملية. من الرئيس المكلف الذي يبدو أنه يدور في حلقة مفرغة، غير قادر على الحسم في مواضيع أساسية، ما يجعله عرضة للتجاذب، فينكفيء مستنكفاً بعض الأحيان. إلى القوات اللبنانية وسائر المكونات الطائفية الأخرى التي جعلت البلد يدور في الفراغ أكثر من أربعة اشهر، في صراع على المواقع والنفوذ والحصص الوزارية التي تريد كل واحدة أن تحظى منها بالحصة الأكبر.
يبدو التضليل الأكبر على المواطن اللبناني خلال الفترة الماضية ناجماً عن الديماغوجيا التي يرفع لواءها جميع القوى السياسية، والقائلة أن مجرد تشكيل الحكومة سيؤدي إلى الانتعاش الاقتصادي، وإلى دخول المليارات إلى لبنان. هذا منتهى الكذب والتدجيل. لا شك بأهمية تشكيل الحكومة من أجل أن تنتظم الحياة السياسية في البلد. لكن المعضلة تكمن في حجم الاهتراء السياسي الذي يطغى على كل مكونات البلد. فالأزمة الاقتصادية تجرجر نفسها منذ فترة غير قصيرة، والانهيارات في المؤسسسات قد حصل في معظم القطاعات الاقتصادية. فتشكيل الحكومة لن يشجع أصحاب هذه المؤسسات على إعادة فتحها. في المقابل، إن حجم الفساد المعشش في البلد، والذي يحوي في جوفه كل الطبقة السياسية من أعلى الهرم الى قاعدته، هذا الفساد سيبتلع الموارد التي يمكن أن ت[author title=”كتب المحرر السياسي” image=”http://”]كتب المحرر السياسي[/author]رد إلى البلد. فالثقة بالحكم ومن يتولاه مفقودة، سواء من المواطن اللبناني أم من الدول الأجنبية التي أبدت استعدادها لتامين قروض ولكن بشروط تضمن مصالحها. عند هذه المحطة، ستتكشف أوهام كثيرة كانت الطبقة السياسية تطلقها منذ أشهر بل عقود. واهمة هذه الطبقة إن كانت تجهل، حجم المعرفة الخارجية بالواقع اللبناني وفساد قيادته ومؤسساته.
هل يصدقن أحد وعود العهد والطبقة الحاكمة بأن الاصلاحات الموعودة في قطاعات الكهرباء والمياه والبنى التحتية وسائر المرافق ستكون إصلاحات فعلية، بعد ان جرت قوننة المافيات في كل قطاع، وهي مافيات يتشارك فيها قسم كبير من أهل السلطة؟ وهل يصدقن أحد تلك الوعود في إصلاحات مالية تمنع التهرب الضريبي، في وقت يتكشف فيه كل يوم حجم التواطوء بين المسؤولين الذي ترعاهم قوى في السلطة، وبين من يمارس أعمال التهريب؟ الأمر نفسه ينطبق على التهرب الضريبي الذي يحرم الخزينة من أموال هائلة.
ماجرت الاشارة اليه ليس سوى غيض من فيض، يدحض بالملموس كل الأوهام التي يجري بثها حول استعداد السلطة للاصلاح، وحول قدرة اي حكومة على التصدي للانهيارات المتوالية على جميع المستويات. فالبلد يسير نحو الهاوية، وهو امر يدركه مسؤولون كثيرون، ويتعامى عنه مسؤولون اكثر ممن يدورون في فلك الحكم. فهل من سبيل لانقاذ الحد الادنى؟ صرخة لن يسمعها أحد.
[author title=”كتب المحرر السياسي” image=”http://”]كتب المحرر السياسي[/author]