موسى مهدي*
هرع المستثمرون، أمس الإثنين، إلى الملاذات الآمنة ووضع أموالهم في الذهب والسندات الأميركية رغم إعلان صفقة حيازة مصرف “يو بي أس” السويسري منافسه “كريدي سويس” مقابل 3.3 مليارات دولار، وضمان المسؤولين الأميركيين لأموال المودعين في المصارف الثلاثة المفلسة.
وارتفع سعر الذهب لأعلى مستوى له منذ أكثر من عام فوق 2000 دولار للأونصة في سنغافورة وأسواق آسيا التي تغلق مبكراً قبل فتح الأسواق الأوروبية والأميركية.
ورغم أنّ صفقة “يو بي أس” أنقذت “كريدي سويس”، كما أنّ الترتيبات المالية التي أجراها مسؤولو المصارف في واشنطن أنقذت أموال المودعين في المصارف التي تعرضت لاضطرابات، فإنّ شكوك المستثمرين في أسهم المصارف الصغيرة والمتوسطة لم تنتهِ بعد.
وحسب بيانات وول ستريت تراجع سهم “يو بي أس” بعد الصفقة في أوروبا، كما أنّ المودعين في أميركا يواصلون الهروب من البنوك الصغيرة إلى المصارف الكبرى.
وبحسب خبراء، فإنّ الأزمة المصرفية التي يمر بها النظام المصرفي في الوقت الراهن ربما تقود إلى ركود اقتصادي في أميركا خلال النصف الثاني من العام الجاري.
ويقول محللون في شركة “إيرنست آند يونغ” العالمية لتدقيق الحسابات، إنّ المواطنين وأصحاب الشركات والأعمال التجارية سيجدون صعوبة في الحصول على قروض بعد هذه الهزة المصرفية بسبب مخاوف تفاعل أزمة السيولة التي ضربت المصارف الصغيرة.
ويتوقع هؤلاء أن تشدد المصارف شروط الحصول على القروض، ما يقود تلقائياً إلى تراجع القوة الشرائية ويضعف نمو الأعمال التجارية في أميركا وأوروبا. وربما تقود أزمة الثقة إلى سحب المستثمرين الخليجيين لجزء من إيداعاتهم بالبنوك الغربية والتركيز أكثر على المصارف المحلية في منطقة الخليج.
في ذات الوقت تثير هزة المصارف الغربية أسئلة حول قوة النظام المصرفي الغربي ومدى قدرته على امتصاص الأزمات المالية وصحة النظام المالي الرأسمالي برمته الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وربما تقود إلى تسريع تحول النشاط الاقتصادي العالمي من الغرب إلى آسيا، وبالتالي تدعم البنوك الصينية على حساب نظيراتها الغربية وسط هروب الأموال من البنوك الغربية بجثاً عن الأمان وتفيد تبعاً لذلك أدوات المال الآسيوية وعلى رأسها سندات الخزانة الصينية.
ويرى محللون في هذا الصدد، أنّ النظام الرأسمالي يواجه حالياً أزمة حقيقية وسط هروب المودعين من المصارف وأسواق المال الغربية، لأنّ قوة النظام الغربي الرأسمالي تعتمد على قوة المصارف والأسواق المالية. وربما تؤدي الأزمة المصرفية إلى شكوك عميقة في النظام الرأسمالي، والحاجة إلى عملية إصلاح كبرى تستدعي جراحة عميقة تنقذه من خسارة موقعه في النظام العالمي لصالح الصين وآسيا.
وخلال الـ 22 عاماً الماضية دخل النظام الرأسمالي في ثلاث أزمات كبرى وكانت وصفة العلاج واحدة لهذه الأزمات، وهي وصفة “التيسير الكمي” عبر ضخ الأموال شبه المجانية في النظام المصرفي والأسواق الغربية التي تعتمد عليها الاقتصادات الغربية.
كان أول الأزمات انهيار شركات “الدوت. كوم” في عام 2000، ثم تلتها أزمة المال العالمية في عام 2008، بعد انهيار مصرف ليمان برازرز الذي كاد ينهي الصناعة المصرفية الأميركية. ثم جاءت أزمة جائحة كورونا التي ضربت النمو الاقتصادي العالمي عام 2020.
وفي معالجة كل هذه المالية الكبرى، كان البنك المركزي الأميركي هو الذي يضخ ترليونات الدولارات لإنقاذ كبار الأثرياء الذين يملكون المصارف ويسيطرون على سوق وول ستريت على حساب رجل الشارع، بينما يخسر ملايين العمال وظائفهم ومنازلهم ومدخراتهم على الحياة.
وأثارت هذه المعالجات القائمة على ضخ المال دون النظر إلى جذور الأزمة الحقيقية إلى إثارة السؤال حول ما إذا كان العالم يشهد بداية كارثة رأسمالية كبرى؟
في هذا الصدد، يقول البروفسور بجامعة بيركلي في كاليفورنيا، روبرت ريش، في تحليل لأزمة النظام الرأسمالي، إن الحكومة الأميركية تواصل إنقاذ البنوك الكبرى عبر ضخ الأموال فيها بحجة أنها “أكبر من أن تترك للإفلاس”، وهو أدى إلى نشوء نظامين في أميركا، نظام اشتراكي للمصارف وأسواق المال يوزع عليها الأموال كلما تعرضت لأزمة، ونظام رأسمالي لبقية أفراد المجتمع الأميركي، مؤكداً أنّ ضخ الأموال المتواصل أدى تلقائياً إلى توالي دورات ارتفاع التضخم والركود الاقتصادي.
ويشير إلى أنّ أزمة التضخم الحالية نشأت عن ضخ مجلس الاحتياط الفيدرالي “البنك المركزي الأميركي” نحو 4 تريليونات دولار في الأسواق في العام 2020، والفائدة الرخيصة التي ظلت تحت الواحد في المائة لفترة طويلة بعد أزمة المال العالمية.
وبينما أثرت سياسة “التيسير الكمي” على أصحاب الأموال والمصارف والمستثمرين في “وول ستريت” رفعت حجم الديون لأفراد المجتمع من الطبقات المتوسطة والفقيرة.
وحسب بيانات البنك الفيدرالي في سانت لويس، ارتفعت قيمة أصول البنوك الأميركية إلى 22.79 تريليون دولار في بداية مارس/آذار الجاري، كما بلغ سوق المال الأميركي 40.5 تريليون دولار في نهاية العام الماضي حسب بيانات شركة فور تريد الأميركية.
وذهبت الثروة الأميركية التي تقدر بنحو 145 تريليون دولار إلى جيوب الأثرياء على حساب المواطن البسيط.
وبالنظر إلى هذه الأرقام، لاحظ محللون أنّ حجم السوق المالية الأميركية وأصول البنوك بات يفوق حجم الاقتصاد الأميركي بثلاثة أضعاف، وبالتالي فإنّ قوة الصناعة المالية باتت هي التي تسيّر السياسة وتضع القوانين وليس المواطن صاحب المصلحة الحقيقية في الحكم.
وحسب بيانات أميركية، كانت ودائع البنوك الخمسة الكبرى تمثل 12% فقط من الودائع المصرفية الأميركية في بداية التسعينيات، وارتفعت الإيداعات إلى 50% من إجمالي الودائع الأميركية.
وتمكنت البنوك الأميركية من الحصول على دعم من الحكومة يقدر بنحو 83 مليار دولار سنوياً خلال العقدين الماضيين.
*نشرت في العربي الجديد في 21 آذار/ مارس 2023
Leave a Comment