كما يقال لا تأتي المصائب فرادى بل جماعات. هذا القول يصح أكثر ما يصح على لبنان الذي يعاني من اشتراكات مرضية لا علاج لها ولا طبيب في ظل هيمنة السلطة الحاكمة الفاسدة، والتي تعجز ليس عن حل الأزمات، بل عن إدارتها على نحو يسمح للبلاد أن تواصل حياتها بخسائر محتملة، وتستوعب نتائجها. واذا كانت أزمة الكورونا على كل شفة ولسان وتشمل دول العالم كافة، فإنها في لبنان تشهد أرقاما تصاعدية على نحو يومي بعد أن دخلت إلى مختلف القرى وأحياء المدن. لكن أزمات لبنان تتفاعل معاً وتقود إلى مسار كارثي لا رجعة عنه. فعلى الصعيد السياسي تتصرف هذه الطبقة وكأن شيئاً لم يكن، وتغرق في حسابات المحاصصة، ومعها تتعثر عملية التكليف والتشكيل الحكومية، ما يرسل رسالة سلبية واضحة للمجتمعين العربي والدولي يؤكد العجز عن القيام بالحد الأدنى المطلوب بما هو وجود حكومة مسؤولة. ولعل الفساد الذي أغرقت فيه هذه الطبقة البلاد هو ما قاد إلى سلسلة المآسي المقيمة، وآخرها كان كارثة مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي، ما أدى لتدمير أجزاء رئيسسية منه وأسواق ومخازن أساسية داخله وخارجه، ومعه حوالي ثلث العاصمة ومصرع وفقدان أكثر من مائتي شخص وتهجير حوالي 300 ألف مواطن من بيوتهم بعد دمار حوالي 50 ألف وحدة سكنية ومحل ومصادر رزق، وبطالة الألوف من العمال والموظفين، وتعطيل أربع مؤسسات استشفائية رئيسية وخروجها من الخدمة، ما يهدد بتغيير ملامح العاصمة افتصادياً وسوسيولوجيا وحضارياً.
وكلفة اعمار ما تهدم تتباين بحسب تقدير الجهات، لكنها لا تقل عن 7 مليارات دولار. وقد تصل لدى البعض إلى حوالي 15 ملياراً لا يتوفر منها داخلياً دولار واحد. أما المساعدات التي تقاطرت على البلاد لحظة الكارثة، فقد كان شرط الدول والجهات المانحة الأساسي هو ألا تتسلمها سلطة الفساد، وهي عبارة عن مواد إغاثية وغذائية وطبية عاجلة. أما المؤتمر الدولي الخاص الذي نظَّمه الرئيس الفرنسي ماكرون في 9 أغسطس/آب 2020 بالشراكة مع الأمم المتحدة، فقد تمكَّن من الحصول على تعهُّد من المشاركين فيه بتقديم 298 مليون دولار ضمنها مساعدات قدرها 35 مليون دولار من الحكومة الفرنسية، و 50 مليون دولار من قطر، 41 مليون دولار من الكويت مع تعهد رسمي كويتي بإعادة إعمار أهراءات القمح، 26 مليون دولار من بريطانيا، و10 ملايين دولار من ألمانيا.
كما أعلن الاتحاد الأوروبي عن تقديمه دعماً إضافياً بقيمة 30 مليون يورو، وسيتم تقديم هذه المساعدات من دون اشتراط إصلاحات سياسية أو مؤسساتية في المدى القصير بهدف تأمين الإغاثة المستعجلة التي لا تحتمل التأجيل، على أن يكون ذلك تحت إشراف الأمم المتحدة لضمان الشفافية والكفاءة وسرعة الاستجابة ووصول المساعدات إلى مستحقيها الفعليين، وليس إلى المؤسسات الحكومية التي أفسدتها التبعية لسلطة سياسية باتت مضرب الأمثال.
وكي يكتمل النقل بالزعرور تتواتر معلومات أن مصرف لبنان أبلغ الحكومة أنه سيوقف دعم المواد الأساسية من وقود وقمح ودواء بعد ثلاثة أشهر، لمنع نزول احتياطه ما دون 17.5 مليار دولار. وهو دعم أحاطت به الكثير من الفضائح سواء لجهة التهريب أو البيع في المحال التجارية بأسعار السوق.
ووقف الدعم من شأنه أن يرفع الأسعار مباشرة أكثر من 300 في المائة. في هذا الوقت أصدرت لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغربي آسيا (الإسكوا) تقريراً يكشف طبيعة ما يجري في البلاد على الصعيد الاجتماعي، فقد تحدث عن “تضاعف نسبة الفقراء من السكان في لبنان لتصل إلى 55 في المئة في العام2020 مقابل 28% عام 2019 أي أنها تضاعفت مرتين”، وتوقعت أن يكون قرار رفع الدعم المرتقب عن المواد الأساسية مدخلاً لتوسيع قاعدة ومستوى الفقر أكثر بين اللبنانيين، الذين يواجهون تبعات انفجار مرفأ بيروت ودمار آلاف المنازل والشركات، وفقدان الآلاف وظائقهم. والأخطر زيادة نسبة الذين يعانون الفقر المدقع ثلاثة أضعاف، من 8% إلى 23%. وهي شريحة تواجه صعوبة شديدة في الحصول على وجبة غذاء واحدة في اليوم. كما تحدث التقرير عن تآكل الطبقة الوسطى، وانخفاض نسبة ذوي الدخل المتوسط إلى أقل من 40% من السكان.
إلا أن هذا الواقع لم يحرّك الطبقة السياسية المافياوية ولا القطاع المصرفي أو مصرف لبنان. اللذان يمعنان في ارتكاب مخالفات فاضحة للدستور والقانون عبر احتجاز ودائع اللبنانيين، بعدما تم تهريب مليارات الدولارات لسياسيين ومسؤولين مصرفيين إلى الخارج.
وآخر الإجراءات التعسفية، التعميم الصادر عن مصرف لبنان، والذي طلب فيه من المصارف تحويل الأموال للطلاب اللبنانيين في الخارج بالعملة الأجنبية، على أن لا يتعدى سقفها سنوياً 10 آلاف دولار، وعلى أن يكون الطالب مقيماً ومسجلاً في الجامعات خارج لبنان قبل نهاية العام 2019، وعلى أن يتم سداد المبالغ بالدولار عبر تحويلها مباشرة إلى الجهات المستفيدة، أي إلى الجامعات كبدل عن الأقساط ، وذوي العلاقة من مالكي المنازل وغيرهم.
أما موضوع المفاوضات مع صندوق النقد الدولي المتوقفة بعد الجولة الثامنة عشرة، فما زال عند النقطة التي انتهى إليها رغم كارثة المرفأ، الأمر الذي زاد من تشدد الصندوق، بإستثناء ما أبلغه لوزارة الماليّة من إمكان حصول لبنان على مبلغ 270 مليون دولار كتسهيلات من حصّة لبنان في الصندوق. وهذه التسهيلات باتت متواضعة جدّاً بالمقارنةً مع الحاجات الملحة، ومع المبلغ الذي كانت تتطلع الحكومة للحصول عليه كدعم خارجي، والذي يتراوح بين 10 و15 مليار دولار، حسب خطّة التعافي المالي.
وهذه التسهيلات ستُمنح بمعزل عن أي خطّة إصلاحيّة يصادق عليها الصندوق. ما يعني أنّ لبنان لن يتمكّن من الدخول في برنامج قرض متكامل مع الصندوق، يحصل بموجبه على قروض من جهات دوليّة أخرى، كقروض مؤتمر سيدر الموعودة منذ عامين بشرط تنفيذ اصلاحات هيكلية لا تبدو السلطة بوارد الاستجابة لها والتراجع عما درجت عليه. يحدث هذا في ما القطاعات التي لم تمت بعد، تحتضر أمام أعين المسؤولين.
[author title=”عماد زهير” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]