هتك ضغط الانفجار المدمر الذي اصاب بيروت ومرفأها، ما تبقى من أستار البنية اللبنانية الهشة، وفضح عريها حتى من ورقة التوت، وجدَّد السؤال الصعب حول مصير البلد وتحديات استمراره كياناً قائماً بذاته وبقائه مشروع وطن للبنانيين. وهو الكيان الذي تأسس بالاستناد إلى عمليات الفرز والضم قبل مائة عام، كما هو حال جميع كيانات المنطقة العربية المحيطة، التي رُسّمت حدودها، وتقرر تشكيل بنى مجتمعاتها من الموروث الطائفي والعشائري والاثني وفق آليات الإلحاق القسري ومشاريع الهيمنة القائمة أو الممكنة. التحديات والإشكاليات الوجودية التي رافقت تأسيس هذه الكيانات، تبدو الآن أكثر راهنية بالنظر إلى إنفجار أزماتها البنيوية من بواباتها كافة، وقد تحولت ساحات مكشوفة ومستباحة بالكامل، تفتقد الحد الأدنى من الحصانات جرّاء ما حل بروابط العروبة القومية من وهن، وما أصاب وطنياتها المتعثرة من تشرذم، وتفكك بنى مؤسساتها الدولتية، وتبديد الكثير من الإنجازات والتراكمات المتحققة في الاقتصاد والاجتماع والعمران، ما وضع أكثرها أمام أسئلة مصيرية. أما الأجوبة وبالنظر لغياب بنى مجتمعية ديمقراطية فاعلة تحمل رؤى انقاذية جامعة، فإنها محالة إلى الجهات الخارجية المتدخلة وفق تسويات تراعي مصالحها أولاً.
وعليه لم يعد مفاجئاً، مع اهتزاز موقع لبنان الإقليمي، وتوالي فصول الانهيار الاقتصادي والمالي والأزمات الاجتماعية التي ضاعف إنفجار المرفأ مخاطرها، أن يصل منسوب القلق والخوف لدى اللبنانيين حول مستقبلهم إلى أقصاه. خاصة أن البلد محكوم من طبقة سياسية، هي بشهادة الجميع، الأكثر رداءة وفساداً والأقل أهلية وطنية وانعدام مسؤولية، منذ تأسيس الكيان وإرساء صيغة نظامه الطائفي. وما يزيد الطين بِلّة أن مؤسسات الدولة تعاني عجزاً قاتلاً، فموقع رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي والحكومات المتعاقبة يوحدها تنازعها السلطة والفساد.
والطبقة السياسية وقوى السلطة والحكم، خليط هجين من قادة الميليشيات الطائفية وأصحاب الاستثمارات المالية وبقايا سلالات أعيان المناطق التي تأسس منها دولة لبنان الكبير. وهم من تولى السلطة وفق تسوية الطائف التي كرست قواعد النظام الطائفي وأسس المحاصصة بقرار عربي ودولي أوقف الحرب العبثية، التي يجري التلويح بها راهناُ مخرجاً من المأزق المحتّم جواباً على دعوات الفدرالية والحياد المستحيل في ظل انفجار وضع البلد وإشكالياته المتعددة، وما ولّدته من تحديات وأسئلة مصيرية حقا.
ليس غريباً أن يأتي الرئيس الفرنسي في الذكرى المئوية لتأسيس الكيان، ساعياً لتأهيل النظام المأزوم والحكّام الفاسدين، وكلاهما مصدر أزماته الوجودية. فالكيان لم يزل قيد الدرس، ودولته مستباحة من الدويلات الفئوية، وسيادته مرتهنة ، وشعبه رعايا طوائف ومذاهب وعشائر. والإنهيار والإنفجار شرّعا جميع ملفات وشؤون البلد أمام بازار المساومات الدولية والإقليمية المفتوحة، حيث تختلط وتتداخل السياسات والمشاريع والمصالح. ومعها خلافات اطراف السلطة، ومآربهم الخاصة وتباين مواقفهم حول موقع الكيان والهوية والنظام وطبيعة الدور والاقتصاد وولاءاتهم الخارجية.
ولذلك تبدو المناورات والسجالات المحلية الراهنة والعقيمة بشأن تشكيل الحكومة الجديدة ومهامها، تأكيداً لعجز تلك القوى عن صياغة تسويات داخلية وامعان في التهرب من مسؤولياتها عن أزمات البلد. ولأن الأمر رهن احتمالات التسوية الخارجية الممكنة فإن الفراغ سيطول، لأن إنجازها ليس بالسهولة التي يتوهمها البعض، فهي تتطلب توافقاً اميركياً- ايرانياً أولاً، وضمانات خارجية تجعلها قابلة للنفاذ ثانياً، والبديل انتظار الحلول الشاملة والصعبة لأزمات المنطقة.
وفي هذا السياق تصطدم المصالح والمواقف وتكثر الأوراق والمبادرات وتتبدل الأولويات. كما يشتد التنافس والاختلاف، وتتوالى الاتصالات بين فرنسا وأميركا وخلفهما تقف دول أوروبا والخليج، وتُمارس الضغوط على إيران وغيرها. والبحث يشمل الملفات المتداخلة والمعقدة، حول موقع لبنان وعلاقاته الإقليمية والعربية، وشؤونه الداخلية التي تتطال الحكومة والاصلاحات وقضايا الاقتصاد والمصارف، وصولاً إلى ترسيم الحدود البرية والبحرية مع اسرائيل، ومع سوريا بما فيه اقفال المعابر غير الشرعية ومراقبة المرفأ والمطار الخ…
في المقابل يتابع اللبنانيون مواقف وحركة الموفدين التي تحذر من مخاطر زوال لبنان، ويراقبون سجالات وإداء قوى السلطة الذي يتسم بالفجور السياسي والأخلاقي حيال مصير البلد. رئاسة الجمهورية تتصرف وكأنها المنقذ المنتصر، الأولوية لديها ضمان دور ولي العهد، واستسهال التلاعب بالدستور حيال الاستشارات النيابية الملزِّمة، قبل أن تًجبر بقوة الضغط الفرنسي على إجرائها وتسمية الرئيس المكلف. ورئيس المجلس النيابي يحاول لعب دور الوسيط، في موازاة سعي رئيس تيار المستقبل إعادة التوازن لموقعه المتعثر محلياً وخارجياً. أما حزب الله وباعتباره الطرف الأقوى في السلطة والميدان، فإن أمينه العام وبعد إعلانه إسقاط المؤامرة على مؤسسات الدولة – دولته – وحمايته رئاسة الجمهورية والمجلس، جدد مطالبته بحكومة “وحدة وطنية”، مهدداً من لا ينصاع لشروطه والمشاركة فيها بالطعن بوطنيته والانسحاب من العمل السياسي.
ومرد تخبط وارتباك أركان السلطة واهتزاز تحالفاتهم طبيعة الأزمة المشرّعة على خيارات واحتمالات مصيرية. علماً أن المبادرة والدور الفرنسي محكومان بالسقف الأميركي الممسك بملفات الأزمة الأساسية، من العقوبات والحصار المالي وترسيم الحدود مع اسرائيل إلى القرارات الدولية والتجديد لليونيفيل وغيرها. ولذلك لم يكن مستغرباً أن يجدد أمين عام حزب الله الولاء لإيران، والاستقواء على خصومه بالسلاح، والاستمرار برهن البلد للصراع الاميركي- الإيراني وإبقائه مشرعاً أمام الخطر الاسرائيلي، بقرار يتشارك مسؤوليته مع قوى السلطة من مواقعها المختلفة. بصرف النظر عن عزلة لبنان عن محيطه العربي سياسياً واقتصادياً، ومشاركته فساد أهل السلطة وسوء ادائهم والدفع بالبلد إلى الهاوية، وتمويه التحقيق بأسباب انفجار المرفأ، وإضافته الى الملفات التي أخذت لبنان إلى متاهات كارثية ووضعته أمام مصير مجهول.
وعليه، بين خطر البقاء ساحة مُشرّعة أمام نيران الحروب الأهلية المجاورة، ومعها مضاعفات الانهيار المتمادي. وبين انتظار نتائج المساومات الدولية والإقليمية واحتمالات التسوية التي قد تُبقي لبنان كياناً قائماً قيد الدرس، وبحد أدنى من الاستقرار بضمانات خارجية، يبقى التحدي الأهم الذي يواجه قوى ومجموعات الانتفاضة، وشرطه التخلي عن أوهام استسهال التغيير وسقوط النظام والاصلاح من الخارج، والانصراف إلى تجميع القوى وتصعيد التحركات للضغط من أجل الانقاذ، وتحصين البلد بوجه الحرب الأهلية، وتحسين شروط التسوية في حال حصولها، على أمل أن يبقى لنا بلد نناضل فيه لتحقيق التغيير الديمقراطي.
[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب سياسي لبناني[/author]