الثابت والمتعارف عليه هو أن اول اجتماع للم شمل الطوائف اللبنانية في دولة كان يوم اعلان دولة لبنان الكبير، وهي لحظة اجتمعت فيها معطيات التوازن بينهما حيث معها يبدأ التاريخ لقيام الدولة. ومعها تدخل طريقة حياة بوعي هي الإرادة الجماعية. وأن الأزمات المتتابعة هي الكلفة التي سندفعها توالياً ثمناً لوحدتنا المأمولة. فلقد قرأ المسلمون باعلان دولة لبنان الكبير ضما لتاريخهم ولاقاليمهم ولمدنهم الى جبل لبنان، في حين ساقت المصلحة مسيحيي الجبل إلى توسيع أرضهم أرضا تنتج جنوباً.
إن أزمة العام 1975 هي الأزمة الأعظم خطراً، حيث تهالكت الساحة الداخلية أمام قوى الخارج التى كانت توقد نارها كلما آذنت بالخمود. ولطالما كانت الدعوات إلى رص صفوف الطائفة نذيراً باندلاع الحرب الأهلية وشرطاً من شروطها، حيث تمارس هي بذلك ضربة موجهة للسلم الأهلي الداخلي، الأمر الذي فيه طمس لموضوع الصيغة التى ستعود وتفرض نفسها موضوعاً رئيسياً عند استحقاق التفاوض. إن توزيع مقاليد البلاد ذات الإثرة الطائفية ستستدعي دائماً احتجاجاً ومنازعة.
إن رسو الصيغة على غلبة طائفية كان له أصول اجتماعية جعلت منه في مرحلة التأسيس أمراً مرغوباً ومطلوباً. إن الحجم البشري في حينه والنمو الاستثنائي الذي جعل من طائفة ” الموارنة” تستأثر إلى حد بشبكة صلات مع بلاد الغرب، وبكثرة نسبة من المتعلمين من خلال مناهج المعرفة الحديثة، إضافة إلى نمو المؤسسات الكنسية التى جعلت من نفسها مدخلاً للنفوذ الغربي، مجموعة مميزات كان الموارنة هم الأقرب للاستفادة منها. في المقابل كانت الطوائف الاسلامية مجردة من عوامل القوة تلك، ولو على تفاوت بينها. فقد كان أهل السنة سكان المدن اصحاب هيكلية مؤسسية كانت جزءاً من الإدارة العثمانية أحسن حالاً من الشيعة الذين كانوا الاسوأ وضعاً. أما الدروز فلم يكن حجمهم العددي كما انحصارهم الجغرافي – رغم قدم الصلات الدرزية ببعض الغرب – يتيح لهم التصدي للعب أدوار قيادية. هذا التفاوت هو ما يسر للغلبة المسيحية ” المارونية” السيطرة على مقاليد الدولة وما يتصل بها، وقد ذهبوا توغلاً في استئثارهم إلى إنكار دعوى الغبن التى رفعها المسلمون بعد حين من الاستقلال. هؤلاء المسلمون الذين كانوا يتشبثون باسلاميتهم أو بعروبتهم أو بكليهما إبان الأزمات، ما يستدعي حمل العنف الى ساحة الداخل، تشرعنه قوى داخلية ترى فيه ما يناسب اهدافها من خلال التدثر به. ويكون الدفاع عن “الامتياز” هو غاية العنف المقابل المغطى بالدفاع عن الاستقلال والكيان والدولة.
ودون كثير قراءة وجليل بحث فان هذا التوازن أثبت استحالته منذ نشوء الكيان وظهور الدولة، مما يجعل الحديث عن استمرار لبنان الطائفي أمراً مستحيلاً، ويجعل حديث التوازنات حديث خرافة بينت التجربة عدم قابليتها للحياة، ما يستوجب كسر كافة المقولات السالفة، ويستدعي إقامة وطن على أسس قواعد العلمنة ومبادىء الديمقراطية، مشرعين الابواب لمفهوم المواطنة مبدأ، جاعلين الانسان قيمة جليلة بحد ذاته بغير إضافات و ملحقات.
إن الوقائع السياسية التى انتجتها الحرب العالمية الأولى لجهة تداعي الدولة العثمانية ولجهة احتلال فرنسا وبريطانيا لهذا الشرق، وتبني فرنسا ضمن استراتيجيتها في منطقتنا قضية الكاثوليك الذين طالبوا بانتدابها دون سواهم على سوريا ولبنان، كانت في اساس ترتيب الداخل العربي واللبناني بخاصة وظهور الكيان. إن تغييب هذا الفعل السياسي يجعل عند البعض تقديمهم الوقائع الداخلية بما فيها من تفاوت هي الأساس في قيام الدولة، ويجعل للذين اخذوا مواقعهم الطائفية التى انتظمت وترسخت مرحلة بعد أخرى ادواراً في الدولة التى ظلت صفتها الطائفية تترسخ جيلا بعد جيل. وظل ضعف الوطنية الجامعة سمتها الأساسية والعمل الدؤوب على إزالة التفاوت بين اطراف الداخل او حماية الامتياز أو تعزيزه. إن ضعف الوطنية اللبنانية يستعصى علاجه بتخوين هذا النصف من اللبنانيين أو ذاك، وأن دولة نشأت ما بين استراتيجية فرنسا ورغبة موارنة لبنان لا يمكن وصفها بالدولة السيدة. أما استقلال الدولة فمعروف فيه دور المسلمين الذين تخلوا عن دعوة الوحدة مع سوريا، وهي واحدة من خطوتين ثانيتها تخلي المسيحيين عن الحماية الفرنسية، وهو ما انتج الميثاق. ولقد استمر نهج المحافظة على ضمان الانفصال السياسي عن المحيط العربي، وضمان الغلبة السياسية في الداخل للكتلة المسيحية بقيادة الموارنة، ما فرض على نظام الحكم جموداً بعيداً عن إمكانية أية تسوية أو توافق. فلا التحول الديموغرافي وتعديل ميزانه بين الطوائف، ولا التغيرات في البنى المجتمعية الطبقية، ولا تغير مراكز الثروة والملكية، أو نمو النخب الجديدة أثّر في شىء من قواعد أرسيت مع الاستقلال. لقد بقي الإستئثار في ممارسة السلطة، وفي توزيع مناصبها كما في توزيع الإنماء سمة الجمود الأصلي في شكل النظام السياسي، بحيث بات العنف السبيل الأوحد كلما لاحت بارقة للتعديل، أو لتبني ميزان قوى جديد. ولم يتم التسليم يوماً لمبدأ التنافس الحر كمبدأ في تقرير حال التوازن بين الفئات المشكلة للدولة اللبنانية، فالطائفية مخالفة صريحة لمبدأ الصراع الحر والديمقراطي. ورغم أن التفاوت بين الطوائف عامة اخذ يميل إلى التضاؤل بفعل التعليم وأموال الهجرة وغيرها، لكن رغبة تجاوز الغلبة الطائفية كانت تلقى دائماً رفضاً، وتبقيها عند حد سياسي يعصي تجاوزه. ويبقى إنكار أن للتحولات الاجتماعية يد في تهيئة شروط الحرب وفي إعداد وقودها. إن صعود الطوائف وهبوط طبقات اجتماعية وتعديلات الميزان الديموغرافي في الحرب الأخيرة، وليس حرب حزيران وحدها كما يدعي البعض بما أنتجته سبباً لانفجارها مع نشوء المنظمات الفلسطينية. وهنا يتجلى موقع الخارج من الداخل حيث يتلبس الخارج لبوس الداخل.
منذ العام 1975 وحتى الآن سالت دماء كثيرة، وتتابعت الطبقة ذاتها من ضفافها المتعددة على إدارة البلاد ، وطرأ تعديل على موازين القوى وعناصره عبر عنها اتفاق الطائف والدستور بما أرساه من معادلات جديدة. الآن هناك محاولات حثيثة لإستعادة وهم الغلبة المارونية استناداً إلى قوة أحد أطراف الشيعية السياسية، فيما المطلوب هو الخروج من نظام الطوائف إلى نظام علماني أكثر طواعية للتغيير والتجاوز الديموقراطي.
[author title=”محمد حسن” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]