لم يُقَس عمرها بالسنوات التي عاشتها كما جاء في شهادة الميلاد التي حملتها حتى نفَسها الأخير، كان عمرها قصيراً وطويلاً. نحن عارفوها ندرك هذه المفارقة، مفارقة خسارتها وهي في ريعان العطاء، ريعانٌ ظل ندياً وأخضر وملوناً كابتسامتها وألق الألوان التي تختارها لثيابها. كان عمرها قصيراً بالمقدار الذي تحتسب فيه سنوات العيش، لكنه كان طويلاً بما قدمت وبذلت وكابدت وعانت ونجحت أو لم تنجح كما يتوهم البعض.
هذا هو زرعك وداد. ألوف النسوة، ربات بيوت، عاملات، معلمات، صحافيات، محاميات، طبيبات، مهندسات وعاطلات عن العمل … كلهن دون استثناء من اللواتي ظهرن على شاشة العرض الكبرى في الساحات هم بعض وردك، بعض اصرارك وعزيمتك التي لا تلين. عزيمة من صوان البذل الذي خضت غماره دون هوادة أو تهاون. هؤلاء اللواتي حملن أحلامهن وأشواقهن وطناجر بيوتهن يطرقن على أسماع أهل النظام المتكلسة هم خارجات من مسكبة عمرك البهي. لا أقول أنك كنت الوحيدة التي قلبت التراب وزرعت الزهور، ولكنك واحدة من النساء الرائدات اللواتي عرفهن لبنان وحملن قضية المرأة كمواطنة، وليست مجرد آخر أو جنس أنثوي. لكن وداد تختلف عن جيل الرواد أنها ربطت في نضالها عدة مستويات لا تنفصل أو تتفكك عرى.
الأولى أنها اعتبرت حقوق المرأة جزءاً من حقوق الانسان، حقوق ليست مسلوبة من رجل ما، بل من نظام طائفي طبقي فئوي يمارس قهره على الجميع دون استثناء. النسوة يدفعن ثمناً أفدح، لكن المرأة عليها أن تناضل مع الرجل للتحرر من هذا النظام أساساً وبالأصل. عرفت وداد أن هناك مطالب نسوية وعملت على صياغتها وتأطير التحالفات من أجلها، لكنا أدركت بعميق وعيها وروحها أن معركتها هي مع منظومة متكاملة من القوانين والتشريعات والأفكار والمعتقدات والممارسات اليومية. منظومة ينخرها الفساد والنهب والتلاعب بمصائر الناس ومستقبلهم.
الثانية أن العلمانية في لبنان ليست مستحيلة. المستحيل هو بقاء هذا النظام الطائفي الذي لا يفرز اللبنانيات واللبنانيين إلى طوائف فقط، بل ينظمهم طوابير طائفية في خنادق حروبه الأهلية الساخنة والباردة على حد سواء. يتطلب تحقق العلمانية وجود العلمانيين والعلمانيات من أبنائه المدافعين عن حق العيش في وطن وليس ضمن معازل طائفية، ووداد مثلها مثل إبتهاج قدورة ولور مغيزل وغيرهما مدرسة في هذا المضمار. وتظل كلفة الوصول إلى العلمانية أقل من بقاء خطر الاحتراب والتمزق المقيم شبحاً في بلادنا وعلى أرضنا وبين ناسنا.
الثالثة أن الوطنية والإنتماء إلى القضايا القومية العادلة كقضية فلسطين وشعبها ليست سمة أو “جين ” خاص ذكوري، بل هي موقف في مواجهة الظلم ومن أجل تحقيق العدالة بين الشعوب وبني البشر. ومن أحق من لاجئ بالوقوف معه في محنة المنافي والقهر. لذلك آمنت وداد بحق هذا الشعب في النضال، ولم تُصب بالرهبة وهي تتظاهر خلال الغزو الصهيوني لبيروت، بينما طائرات العدو تجوب سماء المدينة وتمنع الناس من الخروج أو رؤية الأفق.
الرابعة أن العمل التعليمي والنقابي في قطاع التعليم، وبين زميلات الكفاح في الحركة النسائية هو الممر الذي لا ممر سواه من أجل إثبات حضور المرأة في ميدان الفعل التغييري، تغيّر المرأة نفسها أولاً، فتغير طلابها ثانياً، وزملائها ومجتمعها بالطبع ثالثاً. كان موقعها التعليمي يتكامل مع دورها النقابي لتحصيل الحقوق والدفاع عنها. الكثيرات من المناضلات في صقيع الساحات هن بعض تلميذات وداد وروح شغفها.
ليس صحيحاً الإدعاء أن وداد قضت بعد أن أدت رسالتها، أصلاً ما تزال رسالتها عملية حاضرة يومياً، تحملها ألوف الفتيات والسيدات اللواتي هتفن في الساحات حتى بُحت حناجرهن، نزلن تحت المطر حاملات الأعلام اللبنانية وأنشدن النشيد الوطني اللبناني هوية جامعة تتجاوز عمليات الفرز التي طالما أخضعتهن لأحكامها القاهرة. تعرضن للحجارة والقنابل المسيلة للدموع ولم يتراجعن، اشتبكن مع القوى الميليشياوية دفاعاً عن أحلامهن بوطن رسمته وداد لهن وما زال يحتاج إلى المزيد من البذل كي يصبح حقيقياً تراه العين وتلمسه اليد وتتملاه الحواس والجوارح.
وداد ما تزال معنا وبيننا في ميادين وساحات الانتفاضة.
[author title=”زهير هواري” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]