لو كان للحوادث إيقاع آخر، لأُعطِيَتْ الأولوية إلى توسيع التأمل في تجربة الانتفاضة الشعبية في لبنان. لكنها حوادث تتضمن تصفية أبو بكر البغدادي قرب حدود الدولة التي يقف “الاخوان المسلمين” على رأس السلطة فيها وعشية اتفاق أميركي معها، وذهاب رئاسة تونس إلى قيس سعيد، المستقل والمدعوم من “الاخوان” والمنادي بتطبيق الشريعة والمعارض لمساواة المرأة في الإرث، وكذلك إمكانية اقتراب الإسلاموية من رئاسة الجزائر. لولا ذلك، لكان لبنان أولى بالنقاش عن مسار مشروع الدولة (والمواطنة والحداثة) وتحركه فيه دوماً ضمن تاريخ متشابك من صراعات المجتمعات الأهلية. وما زالت معظم الكتابات عن الحراك الشعبي في لبنان متمحورة على السياسة وتفرعاتها، وليس الاجتماع والثقافة المجتمعية/الأهلية (بالمقارنة مع النخبوية وحدها). وتحضر الإسلاموية (شيعة وسنة) في الحراك اللبناني، كما تحضر تنويعات مماثلة لها في الأديان الاخرى، ما يزيد أهمية نقاش الانتفاضة اللبنانية.
إذاً، قتل أبو بكر البغدادي قرب الحدود التركية عشية اتفاق أميركي تركي حرّك معطيات استراتيجية في الجغرافيا السياسية للمنطقة. لنترك السياسة. لنسأل كثيراً الإسلاموية عن البغدادي. هل صحيح ما يوجس به نقّادها بأنها تحتضن المتطرفين سلاحاً متقدماً لمشروعها، وتكسب به مساحات في السياسة والدين على غرار توسيع شعبيتها ونشر ثقافتها المستندة إلى تكريس المُرَكَّب السياسي- الديني كأولوية في المجتمعات والدول مقابل إضعاف تبني دولة المواطن المستندة إلى الدستور والقانون؟ ألم تستفد من بن لادن وظاهرته؟ هل صحيح أنها تحاور الغرب باعتبارها بديلاً مزدوجاً للحداثة والتطرف التكفيري، لكنها تستمر في “باطنها” بالاستناد الواسع إلى التكفير (على غرار تبنيها أفكار سيد قطب الذي كفّر في “معالم على الطريق” المسلمين ومجتمعاتهم ودولهم كلها). بقول آخر، هل أنها موقفها من الإرهاب التكفيري فيه نوع من “الأجندة المزدوجة”، إذا نجح التطرف تحتضنه وإذا فشل تحصد قاعدته الشعبية مع طرح “اعتدالها” بديلاً وحيداً له؟
تركيا و… تصفية البغدادي
هناك سؤال مرير لأنه يفتقد إلى الأدلة، لكن سياق الحوادث يجعل التغاضي عنه صعباً. ما الدور التركي تحديداً في مقتل البغدادي؟ كيف يُفَسّرْ الآن ذلك الانتشار الأول والأوسع لـ”داعش”، وقد جاء تدفقاً يشابه الجيش المنظم من الحدود التركية، إضافة إلى أشكال اخرى من الدعم والمساندة؟ هل أنها لحظة “التخلي” عن سلاح “قتال العدو القريب” (وهو فقه سارت به “داعش”) وأولوية الدولة الإسلامية (وصولاً إلى الخلافة) الذي أعطى أولوية للقول بالتطبيق الواسع والذرائعي للشريعة مع تكفير كل من يخالف ذلك بدعوى وجود “دولة” إسلامية؟ ماذا يكون مصير “هيئة تحرير الشام” المنتمية إلى فقه “القاعدة” عن “قتال العدو البعيد” (الغرب وهيمنته)، مع عدم الاهتمام بإنشاء إمارات دينية كانت “دولة الخلافة” شكلاً منها؟
إنطلاقاً من “دولة الخلافة”، يناقش آخرون بأن المسألة ليست مراوغة ولا أجندات مزدوجة، بل تفاعلات بين تفاوتات أيديولوجية. ومثلاً، ربما توصف الاشتراكية بأنها كانت تسير عبر مساحات مملؤة بالتناقضات والتشابكات تمتد بين الاشتراكية الأوروبية وتنويعاتها، وبين الماوية “الصلبة” والتجربة الديكتاتورية الدموية لـ”الخمير الحمر” في كمبوديا. هل كان الأمر أجندة مزدوجة أو تناقضات وصراعات أيديولوجية مألوفة في المشاريع الكبرى للعقل البشري؟
الأرجح أن ثمة أهمية معقولة لذلك النقاش في تونس. إذ وصل الحقوقي قيس سعيد إلى رئاستها. واحتفت “حركة النهضة” بفوزه بعد أن نافسته في الدورة الأولى بمرشحها الشيخ عبد القادر مورو. كيف يبدو النقاش عن الأجندة المزدوجة أو غيابها، مع تذكّر تصريح رئيس “النهضة” ومرشحها لمجلس النواب راشد الغنوشي بأن الوقت لم يحن بعد كي يصل حزبه إلى الرئاسة؟ يشي التصريح بأن ما يعيق إمساك الإسلاموية برئاسة تونس يتمثّل في موازين استراتيجية كالوضع “الانتقالي” في النظام الدولي، وحروب ليبيا الوثيقة الصلة بالتوازنات بين قوى عالمية. هل تنفتح “النهضة” على روسيا فتتابع انفتاح القائد الإسلاموي في تركيا على ذلك القطب العالمي المتصاعد النفوذ في المنطقة؟
الجزائر رئاسة سنية رابعة
لنتذكر أيضاً أن “النهضة” بدت متمرسة في معنى الإمساك بالسلطة، ولم تتسرع في التقاطها. وبعد “ثورة الياسمين” دعمت الرئيس “اليساري” المنصف المرزقي. عندما فعل “الاخوان” عكس ذلك في مصر، لم يستطيعوا الاحتفاظ بالسلطة. ويستمر أردوغان في رئاسة تركيا، ويكون أقرب إلى نموذج الإسلاموية في حفظ التوازن بين النظام العالمي والمشروع المحلي (والإقليمي في الحالة التركية).
ثمة أمر مماثل يلوح في أفق الجزائر. ثمة همس عن دعم غير مباشر (ربما يظهر في الدورة الانتخابية الثانية) يُرَجَّحْ أن تقدمه “حركة مجتمع السلم- حمس” إلى أحد رئيسي الوزراء السابق علي بن فليس أو مولود حمروش، أو الإسلاموي عبد القادر بن قرينة. بعد 24 سنة من تجربتها المحبطة عندما رشح محفوظ نحناح، مؤسس “الاخوان” في الجزائر، وبعد التجربة المُعيبة للسلطة في التزوير الفاضح ضد مرشح “الإخوان” في 2014، سحبت “حمس”، أكبر حزب إسلامي، ترشيح رئيسها عبد الرزاق المقري الذي تقدم به في مطلع 2019، لكنها أعلنت مشاركتها فيها. وبُرّر ذلك بضغط الحراك الرافض للانتخابات الرئاسية وتأثر شباب “حمس” المشارك في الحراك، في مقابل ضغط من الجيش الذي لا تريد الحركة القطيعة معه [يصف البعض ذلك بحال ارتباك حيال الحراك الذي تشارك فيه “حمس” بقوة]. ترجع مساندة “حمس” لفليس إلى أنه استقال من الحزب الحاكم عقب انتخابات 2014، ثم أسس حزب “طلائع الحريات”، وتقرّب من الإسلاميين. ويبرز خيار دعم الإسلاموي بن قرينة باعتباره رئيس “حركة البناء الوطني” الإسلامية المنشقة عن الحزب الرئيس لـ”الاخوان” (كذلك فعلت “حمس”)، وقد استطاع ببراغماتية أن يتقرّب من السلطة ويوصل مُحازب له (سليمان شنين) إلى رئاسة مجلس النواب أخيراً. وكذلك ربما يذهب خيار “حمس” إلى حمروش الذي ينتمي إلى الحزب الحاكم، لكنه من الشخصيات التي تتمتع برصيد شعبي واسع يراه نائياً عن الفساد. هل باتت الإسلاموية قريبة من رئاسة اخرى في الشرق الأوسط؟ ماذا تعني تلك الحالة للحداثة العربية المنحسرة بصورة مطردة؟ مجرد سؤال!
[author title=”أحمد مغربي” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]