لم تنفع التنازلات التي قدمتها السلطة متأخرة من عودة الشارع عن انتفاضته. لم يختلف مشهد الساحات العامة في المدن والقرى والطرقات المقطوعة قبل اعلان الرئيس سعد الحريري ورقته الاصلاحية عما قبلها، بما فيه خطاب الرئيس ميشال عون. كل المتظاهرين عبروا عن رفضهم، فالتطورات قد تجاوزتها بأشواط بعيدة، والموضوع بالطبع أبعد من أزمة فقدان ثقة بين جموع الشعب المنتفضة وسلطة سياسية ـ اقتصادية تمرست على نكث الوعود. قائمة الوعود التي سمعها الناس في العقود الماضية لا تعد ولا تحصى، تبدأ بالازدهار وحل المشكلات المتراكمة وتصل إلى الجنة في السماء. في المقابل كان الناس يزدادون فقراً وحاجة وبطالة، وهم يرون بلادهم بكل ما فيها يزداد اهتراءً، ويعانون تفاصيل الهاوية التي تندفع فيها أوضاعهم ويومياتهم المعيشية دون قدرات منهم على لجم أو إبطاء مسار متدحرج بسرعة لا يمكن ضبطها.
الورقة الاصلاحية التي أعلنها رئيس الحكومة في عز المعمعة قاصرة بالتأكيد عن الإحاطة بوضع بات مفتوحاً على كل الاحتمالات، لو صدرت قبل شهر من تاريخه لربما نجحت في تجاوز المأزق السياسي والاقتصادي الذي تعيشه البلاد منذ الانتفاضة. بالنظر إلى أن كل النذر كانت تتجمع في الأفق. كان أرباب السلطة بشقيها السياسي ـ الطائفي والمالي ـ المصرفي مطمئنين إلى استمرار الحال، دون أن يقيموا وزناً للغليان الذي يعتمل في جوف المجتمع. كانت وكالات التصنيف الأئتماني العالمية تتابع تسجيلها للتراجع الذي يشهده الاقتصاد اللبناني والمؤسسات الدولية تحذر ومعها الخبراء. أما الناس فكانت تعاني الفقر والبطالة والجوع والركود. المؤسسات التجارية تقفل أبوابها، والمصانع تعاني منافسة حادة عبر التهريب من المرافئ الشرعية وغير الشرعية، والمواسم الزراعية تتعفن من الكساد وضعف الاستهلاك. وسط هذا الجو من المعاناة جاءت موازنة العام 2020 “تبشر” اللبنانيين بمزيد من الضرائب تدفع من جيوب الناس الفارغة بالأصل. ليس صحيحاً القول أن ضريبة “الواتس أب” هي السبب. الأسباب كثيرة ومتراكمة، لكنها قد تكون القطرة التي فاض بها الكأس الممتلئ أصلاً، فكان ما كان مما يعيشه اللبنانيون من انتفاضة، أكدت أن معاناتهم تتعدى مساحات ” حواكير ” طوائفهم وما يتغرغر به رُعاة شؤونهم عندما يديرون الأوضاع المتهالكة والمتهاوية، ويهددون بالسلاح في حال التعدي على رسوخها وديمومتها.
لا يمكن وصف الورقة الاقتصادية بأنها تحمل الدواء الشافي لما يعانيه الناس، رغم أن بعض بنودها والتي صدرت بفعل الضغط تحمل توجها جديداً لم يكن في وارد المسؤولين قبل أيام قليلة. لكن محددات عجز الورقة أكبر من الايجابيات التي حملتها، وهي ايجابيات تمت صياغتها تحت الضغط الذي مارسه الشارع، ولم تصل إلى صياغتها حكمة أولي الأمر والنهي في السلطة. لكن الكثير من البنود التي تدخل في باب الانجاز ملغومة ومشكوك في تحقيقها، فماذا يعني القول بخفض رواتب ومخصصات الرؤساء والوزراء والنواب الحاليين والسابقين بنسبة 50 في المئة. إذا ما وصلت إلى لجان وقاعات مجلس النواب لاحقاً فصوت عليها بالرفض، علماً أن هذا البند لن “يشيل زير الأزمة من بئر” الانهيار الاقتصادي والمالي. ومن المعلوم أنه لدى بدء خروج الأزمة عن حدودها كان المجلس نفسه يصوِّت على زيادة مخصصات أعضائه الحاليين والمتوفين.أما الوعد بعدم فرض أي ضريبة مباشرة أو غير مباشرة وأي رسوم في موازنة العام 2020 على المواطنين، وعدم إخضاع رواتب الموظفين والمتعاقدين إلى أي ضريبة أو حسم، فيطرح أسئلة كبيرة حول المصادر التي ستؤمن بها الدولة ايراداتها لدفع المتوجبات عليها من فوائد ديون ورواتب وغيرها.أيضاً وأيضاً مساهمة المصارف ومصرف لبنان بخفض خدمة الدين العام لسنة بنسبة 50% أي ما يعادل 4500 مليار ليرة، وكذلك فرض ضريبة دخل استثنائية على المصارف لسنة واحدة في العام 2020 بما يؤمن مبلغ 600 مليار ليرة لبنانية. وهنا لا بد من التذكير بأن اقتراح رفع الضريبة على أرباح المصارف من 17 في المئة حالياً إلى 35 في المئة تم سحبه من الورقة الاقتصادية قبل إقرارها بضغط من المصارف. واقتصرت مساهمة القطاع المصرفي على ضريبة دخل إستثنائية لعام واحد فقط. وهذا بدوره يتطلب التدقيق لجهة حركة الأموال والتحويلات وسعر صرف الليرة بعد انقشاع الأجواء في البلاد. هذه البنود مع توقيع مشروع قانون الموازنة، يؤمّن لرئيس الحكومة الذهاب إلى مؤتمر “سيدر” في فرنسا في 15 تشرين الثاني المقبل، مقدماً لدوله هذه الخطوات الاصلاحية. يطرح هذا سؤالاً جوهرياً حول التلاعب الذي مارسته السلطة السلطة السياسية طوال أشهر في رفض أي جوانب اصلاحية دعا لها المؤتمر، والاصرار على المحاصصة في المشاريع المقرة منه.
لكن الأسئلة الأكثر جوهرية تتعلق بما تضمنته الورقة من وعود عرقوبية، إذ كيف للدولة أن تطبق قانون ضمان الشيخوخة في حين أنها منذ ثلاث سنوات ترفض تسديد ليرة واحدة لصندوق الضمان الإجتماعي، بحيث تجاوزت مستحقاته في ذمتها 3000 مليار ليرة. وكيف ستوفر مبلغ 160 مليار ليرة لدعم القروض السكنية في ظل رفض المصارف ؟ ومبلغ 20 مليار ليرة لتوسيع قاعدة المستفيدين من برنامج دعم الاسر الاكثر فقراً، وكيف لها سداد مستحقات الموظفين في الإدارات العامة المُقرر إلغاؤها وبنود عدة أخرى تستلزم وجود سيولة لديها.
لكن السؤال الأكثر حرجاً يتعلق بإدعاء عجز يقارب الصفر في موازنة العام 2020، وهو ما لا ينفع فيه التوافق السياسي إذ أنه يجب أن يبنى على أرقام تفصيلية وواقعية تعتمد احتساب دقيق للواردات وحصر رقمي للنفقات، وفي ضوء ذلك كله يتبين الرقم الفعلي للعجز من الإدعاءات الوهمية والكاذبة.
لا يمكن وصف الورقة الاقتصادية بـ”الإنقاذية”. إذ تضمنت بيع مؤسسات القطاع العام المربحة المنهوبة وجزءاً من الاصلاحات اليديهية مثل: دعم الصادرات، وإلغاء ودمج بعض الوزارات والمؤسسات والمرافق العامة وخفض موازنة بعضها، والحد من التهرب الضريبي ومن التهريب عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية، وغيرها… وكلها وغيرها تدخل في باب الوعود العرقوبية، لكن الأوضاع قد تكون مفتوحة على هاوية سحيقة أكبر اذا ما ظلت المعالجات على هذا النسق.
[author title=”عماد زهير” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]