توقيع قوى إعلان الحرية والتغيير التي قادت حراك السودان الثوري، والمجلس العسكري الانتقالي، الوثيقة الدستورية، التي سوف تُدار على أساسها المرحلة الانتقالية، جرى استقباله من جانب الجماهير السودانية على نحو احتفالي صاخب، لاسيما وأنه يطوي أربعة أشهر على سقوط نظام الرئيس عمر البشير في 11 نيسان/أبريل 2019، تخللها تظاهرات يومية في العاصمة الخرطوم ومدن المحافظات، فضلاً عن المفاوضات الصعبة، التي شهدتها أديس أبابا والقاهرة إضافة إلى الخرطوم نفسها. والتي تخللها فض الاعتصام في 3 حزيران/ يونيو 2019 ما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء والجرحى.
رئيس المجلس العسكري الانتقالي، الفريق عبدالفتاح البرهان، أصدر مرسوماً عيّن بموجبه أعضاء مجلس السيادة، برئاسته، قبل أن يؤدي وأعضاؤه اليمين الدستورية في 21 من الشهر الماضي. جرى التوقيع بحضورعدد من الزعماء الأفارقة وممثلي حكومات عربية وأجنبية، ما أنعش الآمال بنجاح عملية الانتقال الديموقراطي في السودان. ونصت الوثيقة الدستورية على ترتيبات المرحلة الانتقالية التي تمتد إلى 39 شهراً، وهي مدة طويلة نسبياً، وخلالها يتشارك المدنيون والعسكريون في إدارة شؤون البلاد عبر “المجلس السيادي”، بواقع خمسة أعضاء لكل فريق، إضافةً إلى شخصية وطنية، يتم التوافق عليها. وينص الاتفاق على أن تترأَّس شخصية عسكرية المجلس في الفترة الأولى لمدة 21 شهراً، في حين يتولى المدنيون رئاسة الـ 18 شهراً الباقية. وتم تحديد الصلاحيات التشريعية للمجلس السيادي، وضمنها العديد من القضايا السياسية والأمنية، بما فيها مفاوضات السلام مع الحركات المسلحة في عدد من المناطق. ونصّت الوثيقة على تشكيل مجلس للوزراء، وأعلن عن تسمية عبد الله حمدوك للمنصب، وهو صاحب خبرة اقتصادية عالية، وعلى أن لا يتجاوز عدد أعضاء حكومته العشرين وزيراً. وتشمل مهمات مجلس الوزراء الصلاحيات المناطة بالسلطة التنفيذية، مع صلاحيات مشتركة مع مجلس السيادة لجهة التشريع. ونصّت الوثيقة أيضاً على تشكيل مجلس تشريعي في غضون 90 يوماً تحظى قوى إعلان الحرية والتغيير بنسبة 67 في المئة من أعضائه، في حين تحوز القوى الأخرى على النسبة المتبقية. وتنص الوثيقة أيضاً على إنشاء لجنة تحقيق في مجزرة 3 حزيران/ يونيو 2019 وغيرها من الأحداث. وحددت الوثيقة مهمات المرحلة الانتقالية، بـ “وضع السياسة والمنهج الفعّال لتحقيق السلام الشامل في دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان بالتشاور مع جميع الحركات المسلحة، وتحقيق سلام عادل وشامل يوقف الحرب نهائياً ويعالج آثارها”. وحثت الوثيقة المجتمع الدولي على تقديم الدعم الاقتصادي والمالي والإنساني لمساعدة السلطات الانتقالية في تنفيذ بنود الاتفاق، والموافقة على رفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب وإلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة بحقه وإعفائه من الديون”.
إذن استغرقت عملية صياغة هذه الوثيقة أربعة أشهر تخللها الكثير من التحركات وعمليات الشد والجذب المتبادلة بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي الذي حاول الحفاظ على السلطة في يده، بينما أصرت قوى المعارضة الديموقراطية على عملية الانتقال بالسودان إلى الحكم المدني الدستوري. وفي غضون تلك المدة تدخلت قوى أفريقية ودولية قريبة وبعيدة من أجل ضمان عدم وقوع السودان في مصيدة الحروب الأهلية وانفجار العنف.
إذن رغم الاحتفالية التي رافقت هذه النقلة ما تزال التحديات والمخاطر محدقة بالسودان وتهدد مسار العملية السياسية، ولعل التحدي الأول يتمثل بقوى رئيسية رفضت الاتفاق وقاطعت توقيعه، وبعضها قوى مقاتلة، ويدور الخلاف معها حول شغل المواقع في الحكومة والبرلمان الانتقاليَّين، إذ ينظرالطرفان إلى هذه المرحلة على أنها مرحلة تأسيسية لمستقبل البلاد السياسي ووزن كل طرف في المعادلات. بدوره وقف الحزب الشيوعي السوداني معارضاً الاتفاق لشكوكه المشروعة في مصداقية العسكريين، منذ أن جرى توقيعه بالأحرف الأولى في 17 تموز/يوليو 2019. ومثله الاسلاميون بسبب إقصائهم كلياً عن المفاوضات.
التحدي الثاني يتمثل في غياب الثقة وتداخل السلطات ما يمنح المجلس السيادي حق اعتماد أو رفض الأفراد الذين يجري ترشيحهم للمناصب المختلفة في مجلس الوزراء، والمجلس التشريعي، والجهاز القضائي. ما يصعِّب مهمة الحكومة في إجراء تغييرات جوهرية لإصلاح بنية النظام القضائي. خصوصاً وأن هذا الجهاز سينظر في مجزرة فض الاعتصام وغيرها من الأحداث، بعد التوصل إلى اتفاق على تشكيل لجنة تحقيق مستقلة فيها. والمعروف أن المسؤول عن المجزرة هو المجلس العسكري، الشريك الرئيس في الاتفاق. أضف إلى ذلك قضايا إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية والميليشيات.
التحدي الاقتصادي له وزنه، فاذا كان المجلس الانتقالي قد سلم رئاسة الحكومة للمدنيين مرغماً، لكنه رفع عن كاهله عبء التعامل مع القضايا اليومية الأشدّ إلحاحاً بالنسبة إلى عموم الناس في مجالات التعليم والصحة والخدمات والبنية التحتية وغيرها. وهي القضايا التي يحكم الناس من خلالها على نجاح الحكومة أو فشلها. ثم هناك إلحاح وضرورة إصلاح الوضع الاقتصادي المتردي، وتحقيق تطلعات الناس وتوقعاتهم التي عادة ما تكون مرتفعة بعد سقوط النظام القديم. ولن يكون من السهل إحداث تحسن ملموس في الوضع الاقتصادي والمعيشي في فترة قصيرة؛ فديون السودان الخارجية تجاوزت الستين مليار دولار. كما أنه يعاني من أزمات في تأمين المحروقات وتوفير دقيق الخبز، إضافةً إلى ارتفاع كلفة المعيشة، وفي معدلات التضخم. لذلك تصبح الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية، والنجاح في إحداث الإصلاحات الإدارية اللازمة، ومحاربة الفساد التحدي الأبرز الذي سيواجه السودان في المرحلة الانتقالية. وقد يؤدي عدم النجاح في مواجهة هذه الصعاب إلى استنزاف الحكومة والقوى المدنية سياسياً، وسوف يستخدم دليلاً على فشلها في إدارة شؤون الدولة والمجتمع.
على أي حال فالثورةَ السودانية بقواها المتنوعة ستكون مسؤولة عن نجاح تجربتها بعد أن لاقت تعاطفاً واسعاً داخلياً وعربياً ودولياً كبيراً، ما حال دون عملية إجهاضها. وضغط لبدء مرحلة انتقالية تنتهي بحكم ديمقراطي مدني في بلاد حكمها الجيش السوداني طيلة 53 من أصل 63 عاماً هي عمر الاستقلال. ورغم الرمادية يظل السودان أمام فرصة الخروج من عهد الانقلابات العسكرية، والسير نحو الديموقراطية والاستقرار والتنمية.
[author title=”محرر الشؤون العربية” image=”http://”]محرر الشؤون العربية[/author]