الحق بالعمل يتمحور حوله العديد من الحقوق. وتتطلب ممارسته توافر إرادة سياسية مؤمنة بالعدالة الاجتماعية والجندرية، ومدركة لمخاطر عدم تكافؤ الفرص في ميدان العمل. لذا فان تطبيق مبدأ عدم التمييز على أساس الجنس لا يتطلب تشريعات عادلة، غير تمييّزية وتراعي القضايا الجندرية فحسب، بل وجود أطر وتدابير فعّالة تهدف إلى تعزيز تكافؤ الفرص لجميع الأفراد دون تمييز جنسي. كذلك فالحدّ من استغلال الطاقة النسائية في العمل والتعامل تبعاً للنظرة النمطية يسهم في توزيع الأدوار بين الجنسين بشكل غير منصف؛ ما يتطلب تصحيح الخلل في ميزان القوى الذي يشكل ضرراً مادياً وعاطفياً واقتصادياً قد يكون تعويضه على النساء غير مكفول.
وقد نجح المجتمع المدني في رفع مستوى الوعي المجتمعي حول ظواهر التمييز والعنف الممارس ضد النساء في الفضاء الخاص والعام، وكشف عن آثاره السلبية على النساء والمجتمع بأسره، ما أسهم في رفع الصوت عالياً، وحث النساء على التكتل للمطالبة بحقوقهن المهدورة، والإفادة من الإتفاقيات والقرارات والتوصيات الدولية لدفع قضاياهن ومطالبهن كأولوية على الأجندة السياسية الوطنية. وعليه، حصل تقدم في بعض الميادين الحيوية، والإعتراف بالمساواة الجندرية في بعض الفرص والحقوق. فانعكس ذلك على ثبات النساء المتزايد في العمل المأجور غير المنزلي، وعلى تأكيد حيازتهن مكانة اجتماعية بعيداً عن المواقع والأدوار التقليدية الموروثة.
وفي هذا الإطار، أعد التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني دليلاً متخصصاً يحلل أهم الإنتهاكات الجندرية التي تتعرض لها النساء في مجال عملهن، على ضوء قانون العمل اللبناني، وبالمقارنة مع الإتفاقيات والمعايير الدولية الهادفة إلى تأمين الحماية للنساء من الاستغلال والإنتهاكات في سوق العمل. وذلك ضمن مشروع “عملي حقوقي” الذي يقوم التجمع بتنفيذه بالتعاون مع جمعية النجدة الاجتماعية، وأوكسفام والعديد من الجمعيات. يلقى الدليل الضوء على الإجحاف اللاحق بحقوق المرأة ويسعى لتأمين الحماية الكافية لها في سوق العمل مركزاً على الأهداف التالية:
- وضع أسس ومقترحات لتفّعيل استخدام الإتفاقيات الدولية في لبنان وجعلها أكثر قوة وإلزاماً للحكومات لتنفيذها كهدف لوضعها والتصّديق عليها.
- استمرار استضعاف دور المرأة في المجال الاقتصادي وعدم استثمار طاقاتها والإفادة من تطوّرها العلمي وقدرتها على المشاركة الكاملة كمواطنة في عملية التنمية.
- التركيز على الثغرات القانونية، وعرض ما يحويه قانون العمل من تمييز قائم على النوع الاجتماعي في أماكن العمل، وعدم تأمينه حماية كافية للنساء.
- بحث كيفية مراقبة تطبيق التشريعات الوضعية وعوامل ضعف الثقة بالقانون ومسؤولي إنفاذه وأسبابها، وهل هي عوامل مجتمعية وثقافية واقتصادية مجتمعة؟ كل ذلك للتوصل الى فهم أعمق لواقع النساء في العمل والعقبات التي تواجههن للوصول إلى العدالة في هذا الميدان.
أما أهم الإشكاليات التي تطرق لها الدليل فهي:
- الفرص المتاحة للنساء والفتيات في مجتمعنا.
- التمييز بين المرأة والرجل، فيما يتعلق بشروط العمل والتعويضات المقدمة.
- المهارات والمهن التي تهتم بها النساء ولماذا؟
- مدى تمتع النساء بحقوقهن في مجال العمل الخاص والعام.
- مدى التزام الحكومات المتعاقبة وتنفيذ الوعود التي تعهد بها لبنان لجهة ردم الهوة الجندرية.
- مدى وعي النساء لحقوقهن في العمل والتمييز الممارس ضدهن.
- مدى استضعاف المرأة اقتصادياً في مجال التوظيف والتمييز في مكان العمل؟ ما هو متوسط ثراء النساء والفتيات في المجتمع.
- هل فرص الترقية والترفيع مصانة ومتساوية بين الجنسين؟
- هل هناك توظيف عادل وسلامة حساسة للنوع الاجتماعي في مكان العمل؟
- ما هي أسباب عدم تخصيص الموارد اللازمة لضمان حسن تنفيذ القوانين والتوصيات؟
نستخلص من معالجة هذه الإشكاليات أن النساء اللبنانيات العاملات في لبنان يواجهن العديد من المعوّقات والتحديات، وتدفعن غالياً جرّاء قصور مساهمتهن في التنمية والدورة الاقتصادية.
وتبعاً لنتائج التحليل يتصف عمل النساء بعدم الثبات والديمومة، وقسم كبير منه غير نظامي، ولا يتم بموجب عقد مكتوب بين صاحب العمل والعاملة.
ويرتبط التمييز ضد المرأة في مكان العمل بالأدوار الاجتماعية التي يفرضها عليها المجتمع، لا سيّما تقديم الرعاية التي لا تصنف عملاً وهي غير مدفوعة الأجر. اذ تميز المؤسسات بين الجنسين في الأجور، ويتم إنتهاك قانون العمل اللبناني وقانون الضمان الاجتماعي. ويبرز هذا الإنتهاك بعدم تطبيق الحد الأدنى للأجور، وبساعات العمل الطويلة، وساعات العمل الإضافية غير المدفوعة. وإنتهاك حق الإجازات الأسبوعية والسنوية والمرضية والأمومة، وتعويضات الصرف من العمل، وعدم دفع بدل النقل للأجيرات، كما إن الصحة والسلامة المهنية غير متوفرة.
وتغيِّب التشريعات حماية الفئات المهمشة مثل المرأة المزارعة والريفية. وتتضآل أمامهن فرص التطوّر المهني والشخصي، ويتعذر وصولها إلى الحقوق والخدمات الأساسية. كما أن عدم الإستقرار الاقتصادي، يجعلها مرغمة على القبول بشروط وظروف عمل غير منصفة بسبب قلة أو إنعدام الخيارات.
والأمر أسوأ بالنسبة لليد العاملة الفلسطينية التي لا يحق لها العمل إلا في بعض المهن المحدودة. وترفض المؤسسات في غالبيتها تسجيلها في الضمان الاجتماعي. وتميّز المؤسسات بين اللبنانيات والفلسطينيات في الأجور والترقية والتقديمات والضمانات وغيرها.
ورغم أن حقوق العمال في لبنان لكلا الجنسين منتهكة، والعدالة الاجتماعية غائبة، إلا أن قراءة الواقع جندرياً يكشف عن فجوات كبيرة تصل إلى درجة الاستغلال وإنتهاك الكرامة الإنسانية للنساء الأجيرات. وإذا أردنا أن نقيّم قوة العمل، لا يمكننا استثناء اليد العاملة النسائية بوصفها جزءاً من التنمية والعجلة الاقتصادية والاجتماعية، التي نجحت في تحدي التهميش والتمييز والحواجز التي تصادفها في عملها الوظيفي.
كل هذا يتطلب العمل للوصول إلى برمجة خطط عمل واستراتجيات تسهم في تحسين أوضاع النساء العاملات والنقابيات. تنطلق منها النساء لتعزيز قدراتهن التنظيمية وتمكينهن من الدفاع عن حقوقهن مع الحركات الأخرى في المجتمع المدني، كونها استحقاق مجتمعي وطني وتنموي. مما يساهم في إعلاء صوتهن ومساهمتهن في تشكيل المجتمعات التي تحقق لهن العدالة والمساواة والكرامة عن طريق القضاء على أهم العقبات التي تحرمهن من المشاركة المتساوية في المجال الاقتصادي.
[author title=”كارولين سكر” image=”http://”]نائبة رئيسة التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني[/author]