ثقافة صحف وآراء

يوسف الخازن ودولة اليهود: وعي مبكر لمخاطر الصهيونية

*صقر أبو فخر

صدر حديثًا عن دار نلسن في بيروت كتاب جديد للدكتور غسان الخازن عنوانه “رؤية يوسف الخازن للدولة اليهودية: دراسة تحليلية” (2025). ويُعد الشيخ يوسف الخازن، المولود في قرية سهيلة إحدى قرى كسروان في سنة 1871، واحدًا من رعيل الصحافيين الشوام الذين لمعوا في مصر، وأحد مؤسسي جريدة “الأخبار” المصرية في سنة 1896 مع داود بركات. كما أنه “حظي” بحكم الإعدام من الديوان العرفي العثماني في أثناء الحرب العالمية الأولى لنشاطه السياسي المعادي للسلطنة العثمانية، والداعي إلى الحرية ووحدة بلاد العرب. وحين عاد إلى لبنان من منفاه في سنة 1919، غداة زوال الحكم التركي، راح يؤسّس الصحف كجريدة “الأرز” مع نعوم لبكي، وجريدة “البلاد” مع موسى نموّر، ويتابع العمل السياسي المناهض للانتداب الفرنسي الذي فُرض على سورية ولبنان، ويخوض معارك الانتخابات كنائب في البرلمان اللبناني. والشيخ يوسف الخازن هو من أوائل الأصوات اللبنانية التي حذرت مبكرًا من خطر الصهيونية، فأصدر في سنة 1919 كرّاسًا عنوانه “الدولة اليهودية في فلسطين: وجهة نظر أحد أبناء البلاد”، أي في ذروة الصراع البريطاني – الفرنسي على المشرق العربي بعد إعلان وعد بلفور (1917)، وفي خضم انعقاد مؤتمر السلم في باريس (1919). ولعل كتاب الشيخ يوسف الخازن هذا هو الثالث بعد كتاب نجيب عازوري الموسوم بعنوان “يقظة الأمة العربية” (1905)، وكتاب نجيب نصار “الصهيونية: ملخص تاريخها وغايتها وامتدادها” (1911)، وكتاب محمد روحي الخالدي “السيونيزم” (أو المسألة اليهودية) الذي أنهى تأليفه في سنة 1913. وهذا الكتاب الجديد يتصدى لدحض مقولات الصهيونيين دحضًا منطقيًا، ويفندها تفنيدًا علميًا وسياسيًا. وفي هذا الحقل المعرفي والتاريخي لم ينغمس الشيخ يوسف الخازن في الثرثرات الشائعة عن المؤامرة اليهودية للسيطرة على العالم، وعن مفهوم الوعد الإلهي لإبراهيم، بل انصرف إلى بناء منظوره المناوئ للصهيونية، لا بسبب يهوديتها، بل بسبب استعماريتها وسعيها إلى تأسيس دولة يهودية في فلسطين (راجع مقدمة الدكتور غسان الخازن، ص 21).

وكان الدكتور غسان الخازن، وهو محامٍ ودكتور في التاريخ من جامعة السوربون، قد نشر كتاب يوسف الخازن هذا في سنة 1987 بعد أن ترجمه وقدم له بدراسة تحليلية ثاقبة. وقد نفدت نسخ هذا الكتاب منذ فترة بعيدة، وها هو الآن يعيد إصداره بحلّة جديدة، ومقدمة كافية ووافية وشافية وإيضاحات ضافية للأسماء والمراجع الواردة في متن الكتاب حتى صارت حواشيه تنوف في عدد صفحاتها على عدد صفحات الكتاب الأصلي. ثم أَلحق بالكتاب مقتطفات من أحاديث يوسف الخازن التي كان يذيعها من راديو باري إبان الحرب العالمية الثانية حين كان منفيًا في إيطاليا.

“يؤكد يوسف الخازن أن الموطن الأصلي لليهود هو أرض الكلدانيين، وأن فلسطين هي أرض كنعان، وأن النبي إبراهيم كان غريبًا في أرض كنعان التي لم تسمح له بدفن موتاه فيها إلا بعدما دفع ثمنًا لمقبرته، وأن مدينة القدس هي مدينة اليبوسيين”

الصهيونية والأجسام الغازية

يدين الشيخ يوسف الخازن استماع مؤتمر السلم المنعقد في سنة 1919 إلى الصهيونيين بدلًا من الإصغاء إلى ممثلي فلسطين. ولذلك بات المسلمون والمسيحيون في فلسطين وسورية ولبنان، على اختلاف نِحَلهم، يتساءلون عما إذا كان عليهم توقع إنشاء دولة يهودية في بلدهم (ص 55). ولاحظ الخازن أن كلمة “موطن لليهود” التي استخدمها ليون بينسكر في كتابه “التحرر الذاتي” تعني أنه لم يكن يطالب بدولة يهودية وإنما بـ “موطن”، بحيث يستطيع اليهود، من خلال ذلك الموطن، تحقيق أهدافهم. لكن التمييز بين “موطن” و “دولة” يبدو، بحسب الشيخ يوسف الخازن، ظاهريًا أكثر منه حقيقيًا (ص 58). وهنا يؤكد الكاتب أن غاية الحركة الصهيونية، على الرغم من التناقض الظاهر بين “الموطن” و”الدولة”، هي تأسيس دولة يهودية (ص 64). وفي هذا السياق يستشهد الكاتب بعبارة لإرنست رينان تقول: “إن التعصب هو جوهر الدولة اليهودية” (ص 65)، ويشير إلى ما أعلنه يسرائيل زانغويل عن استبعاد العناصر غير اليهودية في فلسطين من دولة اليهود، ودفع تعويضات مالية لهم. وإذا رفض هؤلاء الإذعان لإجراءات الاستبعاد (أي الطرد) فعلى الدولة اليهودية، بحسب زانغويل، أن تعتبرهم بدوًا، وتطبّق عليهم مبدأ انتزاع الملكية بالقوة (ص 69). ويؤكد يوسف الخازن أن الموطن الأصلي لليهود هو أرض الكلدانيين، وأن فلسطين هي أرض كنعان، وأن النبي إبراهيم كان غريبًا في أرض كنعان التي لم تسمح له بدفن موتاه فيها إلا بعدما دفع ثمنًا لمقبرته، وأن مدينة القدس هي مدينة اليبوسيين التي يخاطبها حزقيال بالقول: “معدنك ومولدك من أرض الكلدانيين، وأبوك أموري، وأمك حثّية” (ص 77و 78)، الأمر الذي يعني أنْ لا علاقة لليهود القدماء بأرض الفلسطينيين. والمدهش أن يوسف الخازن اكتشف غايات الصهيونية وأهدافها مبكرًا جدًا، وهو لا يتوانى عن وصف الحركة الصهيونية بأنها مثل الأجسام الغازية التي لا تكتفي باحتلال المكان، بل تتوق إلى مزيد من التمدّد والتوسع، أي أنها كلما ذاقت اشتهت (ص 70).

اليشوعيون والزنابير   

يخلص يوسف الخازن في هذا الكتاب إلى أن مملكة القدس اللاتينية التي ظهرت في سنة 1099 سرعان ما اندثرت في سنة 1189، وأن الدولة اليهودية إذا قامت لن تعرف مصيرًا أفضل من مصير مملكة القدس اللاتينية (ص 91). ويتساءل بالمنطق النقيض: “ما هو الهدف الذي لا يمكن للصهاينة تحقيقه إلا في ظل دولة يهودية في فلسطين؟ إذا كان الهدف يقتصر (…) على أن يكون المرء يهوديًا في داره وإنسانًا في الخارج فما الحاجة إذًا إلى الذهاب إلى ضفاف الأردن أو ضفاف [نهر] لابلاتا؟” (ص 106). وكان يردّ بذلك على الكاتب اليهودي الفرنسي أندريه سير، الذي كان يدعو إلى قيام دولة يحق لليهود فيها أن يحيوا حياة يهودية، وأن يتمكنوا من إقامة الشعائر اليهودية من دون التعرض للسخرية أو الاضطهاد، واحترام يوم السبت، وإنشاء مدارس يهودية ومكتبات يهودية، والتحدث بلسان يهودي، وأن يكون لهم في إدارة بلدهم القدر الذي يتناسب مع أهميتهم العددية ونشاطهم الزمني العلني. وهنا يتساءل الشيخ يوسف الخازن تساؤل العارف والمستنكِر: “ما هو إذًا البلد الأوروبي أو الأميركي الذي يمنع اليهود من هذا الحق؟” (ص 108). وكان أرنست رينان تحدث في كتابه “تاريخ شعب إسرائيل” عن أن فكرة “الدولة اليهودية” مخالِفة للطبيعة، لذلك يقول الخازن إن الفلسطينيين الذين يعارضون اتخاذ بلادهم ميدانًا للتجربة اليهودية لا يريدون إقفال أبواب فلسطين في وجه أحد من اليهود. ومع ذلك كان الشيخ يوسف الخازن حاسمًا في رفضه للصهيونية ولفكرة الدولة اليهودية، خصوصًا في تأكيده أنه “إذا رغب آخرون في الإقامة نهائيًا بيننا ومشاطرتنا حياتنا السياسية والمدنية، ومشاركتنا الأعباء ذاتها، والتمتع بالمنافع نفسها ضمن شروط تلغي كل خلفية سياسية، ونكون نحن القيّمين الوحيدين على تحديدها، فسيجدون الترحيب العطوف والحماسي ذاته، ولن يكون للموارد المعنوية والمادية التي سيجلبونها معهم سوى تسريع لنهضة هذا البلد (…). أما الذين نوصد دونهم الأبواب، ونقيم في وجههم المتاريس فهم رسل اليشوعيين الجدد [نسبة إلى يشوع بن نون] الذين يستكشفون البلد لينتزعونه منا. إنهم الزنابير المعاصرون الذين ينطلقون ضدنا ليطردونا تدريجيًا من إرث آبائنا” (ص 112).

ريادة ورؤيا

كان يوسف الخازن رائيًا حقيقيًا، واكتشف مبكرًا مخاطر الصهيونية، وأذاع ذلك على الناس. وعلى الرغم من ذلك سقطت فلسطين في أيدي الصهيونية، وفشل الفلسطينيون والعرب في إعداد العُدّة لمواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني وإفشاله. وهذا الكتاب الذي بذل الدكتور غسان الخازن جهدًا مميزًا في وضع حواشيه وإغناء هوامشه الإيضاحية والتفسيرية بالمعلومات المهمة، ثم في نشره على الناس، سيُضاف إلى المراجع التاريخية المبكرة عن خطر المشروع الصهيوني، وهي قليلة جدًا في أي حال. ويكفي مؤلف الكتاب فضيلة الريادة والمعرفة الرؤيوية، والتنبيه على ضرورة صنع المستقبل العربي استنادًا إلى العلم والإرادة السياسية؛ ذلك المستقبل الذي أفلت من بين أيدينا، ولم نتمكن من تخطي عجزنا الموروث. والمستقبل الذي كان يتطلع إليه الخازن صار ماضيًا ومع ذلك ما برح العرب غارقين في “المهارشة” والنكاية والعجز.

*عنوان الكتاب: رؤية يوسف الخازن للدولة اليهودية: دراسة تحليلية المؤلف: غسان الخازن. والمقال صدر في العربي الجديد يوم 5 شباط/ فبراير 2025

Leave a Comment